قراءة مختلفة للنزوح السوري إلى لبنان


مع التئام المجموعة الدولية في نيويورك هذا الأسبوع حول لبنان ومشكلة النازحين السوريين إليه، هنا نظرة مختلفة إلى معنى هذا النزوح في تاريخ سوريا ولبنان المعاصر وفي مستقبل العلاقة "الوجوديّة" بينهما.

تُمْكِنُ، ويجب، قراءةُ تاريخ سوريا الحديث ومعه مباشرةً تاريخ العلاقات بين الدولتين السورية واللبنانية قراءةً ريفيّةً، إذا جاز التعبير، منذ استقلال البلدين إلى اليوم أي إلى الوضع الحربْ أهلوي السوري بنازحيه من مئات الألوف إلى لبنان.

ماذا تعني القراءة الريفيّة؟

القراءة الريفيّة تعني أن أن كل الأزمات الكبرى في سوريا ولبنان هي أزمات فيضان الريف السوري على المدن السورية وعلى كل لبنان. تطوّر الجيش السوري هو تطوّر ريفي. "تطوّر" المدن السورية واللبنانيّة هو مسار ريفي أساساً.

ولادة "الاشتراكية" السورية منذ العام 1958 هي ولادة تدفّق النخب والفلاحين إلى المدن السورية وإلى لبنان: البورجوازية السورية الوطنية الصناعية المدينية هربا من التأميم والإصلاح الزراعي، الجماهير الريفية بحثا عن العمل الذي شهد مرارا نهوض القطاع العقاري اللبناني بأيدي العمّال السوريّين. وهو نهوض لم يتوقّف الاعتماد فيه على العمال السوريّين من زمن "استعلاء" النخبة السياسية اللبنانية اقتصاديا على النخبة السياسية السورية الذي أدّى إلى بداية رد فعل سوري عبر القطيعة الجمركية الشهيرة في أوائل الخمسينات، هذه القطيعة التي اعتبرها صانعُ هذا القرار خالد العظم ردا على "تجار بيروت". بعد ذلك إلى زمن "استعلاء" النخبة العسكرية السورية منذ بدأت الحرب الأهلية في لبنان على النخبة السياسية اللبنانية حتى سيطرة النخبة الحزبية العسكرية السورية المباشرة في التسعينات إلى عام 2005 على السلطة في لبنان. في كل هذه المراحل كان الريف السوري "يصدّر" إلى لبنان عمّاله بشروط عمل متدنّية أياً تكن طبيعة العلاقات بين النخبتين السوريّة واللبنانيّة على المستوى السياسي. "تطوّرت" العلاقات إلى ما أصبح سياسيا "تصدير" الجنود منذ العام 1976. وهم طبعا ريفيّون (انقلبت الأدوار دراماتيكيا على هذا الصعيد مع بدء تصدير لبنان للمقاتلين الشيعة والسُنّة بأشكال مختلفة محترفة وتطوّعية إلى الجبهات السورية).

سيطرة "البعث" الطويلة الأمد على السلطة في دمشق بدأت بسيطرة الأجنحة الريفية العلويّة الاسماعيليّة الدرزيّة مع بعض سنّة الأرياف على حزب البعث، السيطرة التي ستتحوّل نواتُها الأمنية إلى القبضة العلويّة مع عهد حافظ الأسد مواكباً لها بتحالفات مع بعض نخب الأرياف المتعدّدة الطوائف.

تاريخ ضعف الدولة اللبنانية المديد هو تاريخ المزيد من فيضان الريف السوري على لبنان بعد أن أمسكت بعض نخبه السلطة في دمشق.

التاريخ الأيديولوجي الاعتراضي الحزبي في سوريا ولبنان هو تاريخ ريفي طَبَع السياسة السورية بطابعٍ خاص من العنف وهو ما يصلح أيضا لقراءة جوانب عديدة أساسيّة من التاريخ السياسي اللبناني.

... لكل هذا تبدو الثورة السورية في انعكاسها المتواصل على لبنان(والأردن وتركيا) موجة نوعية جديدة ولكن من استمرار فيضان الريف السوري على لبنان. هذه هي أزمة النازحين السوريّين في قراءتها الريفية. وهي بهذا المعنى استمرار لخط فيضانات الريف السوري الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التقليدي منذ نشوء الدولتين بل منذ استقلال الدولتين. الجديد أن نسبة الهجرة، بل التهجير المديني أعلى قسريّاً من أي مرحلة سابقة كانت قاعدة الهجرة فيها الكبرى ولا تزال ريفيّة. على أن الدقة (والإنصاف) تستوجب الإشارة إلى أن الكيان السوري إضافة إلى فيضانه الديموغرافي "أرسل" دائما اجزاء مهمةً من خيرة نخبته الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية إلى لبنان.

تغيّر الريف السوري في الستين عاما الأخيرة ولاسيما تحت الحكومات "الريفية" في دمشق.

لذلك فإن جزءا كبيرا وربما الأكبر من مئات الألوف الذين صدّرتهم الثورة السورية في العامين الأخيرين إلى لبنان هم من ضواحي المدن الكبيرة التي استقرّوا فيها سابقا بأشكال مختلفة قانونية وغير قانونية وفي معظم الأحيان بتشجيع من النظام الحاكم إما لعائلات عشرات ألوف العسكريين المستَقدَمين إلى قلب ومحيط المدن لضبطها أو الشرائح المتدنّية من الطبقات الوسطى التي غادرت قراها الطينيّة لترفع مستوى مداخيلها حول المدن فنشأت العشوائيّات. لقد كشفت أزمة ضغط العشوائيات على المدن السورية قبل الثورة التحوّلَ النيوليبرالي للنخبة المدينية الجديدة من أبناء الريفيين السابقين الذي سيطروا على دمشق. لهذا ورغم اتساع المواجهات الطاحنة في الحرب الأهلية السورية إلى عمق الريف وما تسبّبه من تدمير وتهجير، فإن كتلة ضخمة من سكان الضواحي والعشوائيات دفعتها الأزمة خارج الحدود.

لقد تجاهلت البورجوازية اللبنانية طويلا في أزمنة السلم حقيقة أنه طالما الريف السوري متخلّف وفائض ديموغرافياً فإن الوضع اللبناني لن يستقر سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا وهي المستويات الثلاث التي تصلح لكتابة تحوّلات الوضع السوري المعاصرة. لكن في أزمنة السلم فاتت فرصة بناء استراتيجية استثمارات لبنانية مربحة ومنتجة في الأرياف السوريّة تحُدّ من تفاقم أزماتها المعيشيّة. أما اليوم ولبنان في قلب الحرب السورية فالمعالجات لا تستطيع أن تقوم بها طبقة سياسية لبنانية عاجزة في أقصى مراحل تفتّتها وتبعيّتها لاستراتيجيات الصراع الإقليمي... إذا لم تمدّ لها القوى الدولية يد المساعدة الجادة كما هو من المفتَرض أن يكون البحث الجاد هذا الأسبوع في نيويورك ولاحقا في جنيف؟

بلغ عدد العمال السوريين قبل الحرب الأهلية أربعمئة ألف شخص، وخلال السيطرة السورية على الحكم في لبنان بعد اتفاق الطائف بلغت التقديرا ت رقم مليون عامل سوري.

اليوم لا سابقة للفيضان الريفي والمديني السوري لأنه فيضان لا يُختصر بتنفيس البطالة السورية جزئيا عبر سوق العمل اللبناني والذي كانت تتواطأ معه البورجوازية اللبنانية العقارية ونسبيا الزراعية بسبب انخفاض أجوره حتى وهي كانت في العهود السابقة تواكبه بلغة مزدوجة من الشكوى الديموغرافية.

اليوم مجتمع سوري بأمه وأبيه وأولاده وبطالته ومآسيه يطرح على لبنان أكبر تحدٍّ واجهه سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا في تاريخه الحديث وأعمق بأشواط من أزمة اللجوء الفلسطيني إلى لبنان عام 1948. فسوريا التي بدأت بثورة ثم تحولّت إلى حرب أهلية تحوّلت بدورها إلى أزمة وجودية كيانا ومجتمعا، تأخذ معها إلى حفرتها العميقة لبنان الموجود في قلبها لا على أطرافها وهنا اختلافه عن علاقة تركيا والعراق وحتى الأردن بالوضع السوري.

من المبكر جدا جدا الحديث من الآن عن مسؤوليات العلاقة المستقبلية بين لبنان والنظام – الصيغة السورية الجديدة، لكن لا شك أن أيَّ تفكير مستقبلي بالموضوع سيعني في حال سمح النظام الدولي (الذي يولد أو يتكرّس في سوريا اليوم) ببقاء الكيان السوري الذي نعرف، فإنه لم يعد ممكنا لأي علاقة مستقبلية تريد استقرار البلدين – الصيغتين أن لا تكون بنية الديموغرافية السورية في قلب هذه العلاقة ومسؤوليّاتها.

وعلينا أن نستعد لأكثر من عشر سنوات "ديموغرافية" مع الوضع السوري. ديموغرافيا نحن، في العمق، جزءٌ لا يتجزّء منها اجتماعيا وحياتيا وسياسيا وأمنيا. فلنرَ، في ظل عجز الطبقة السياسية اللبنانية العميق، ماذا يحمل الوفد الرئاسي اللبناني إلى نيويورك رؤيوياً لا بكائياً؟

... الفرصة سانحة لرئيس الجمهورية، إذا كان يرى أنّه في نهاية ولايته، أن يكون متحرّرا من أعباء وحساسيّات هذه الطبقة في ملف النازحين السوريّين وأن يقترح حلولا شجاعة سياسياً وراقية إنسانياً. وهو أمر يليق بسمعة الجمهورية التي تريدها نخبٌ واسعة متنورّة من الشباب اللبناني.

تعليقات: