نيران سوريا تلامس العرقوب

لم يحدث أن وقع أيّ صراع مذهبي في منطقة حاصبيا والعرقوب، لكن من غير المنطقي ألا تصل شظايا الحرب السورية إليها (الأخبار)
لم يحدث أن وقع أيّ صراع مذهبي في منطقة حاصبيا والعرقوب، لكن من غير المنطقي ألا تصل شظايا الحرب السورية إليها (الأخبار)


نار سوريا تلامس شبعا وحاصبــيا



تغصّ شبعا بنازحي «بيت جن» السورية. الحرب المستعرة على المقلب السوري من جبل الشيخ لا بد أن تتشظى هنا في العرقوب وحاصبيا. ومع أنه لا أحد يريد الفتنة المكلفة، يسود الترقب والامتعاض في القرى الدرزية جراء عبور جرحى المعارضة السورية الذين يشاركون في المعارك ضد «دروز سوريا» في عرنة وحضر. شبعا ليست عرسال، لكن المقبل من الأيام قد يحمل مناخاً آخر

قد تُشعرك وحشة الطريق من بلدة شويا باتجاه جبل الشيخ، أن لا شيء هناك، سوى صخور ووحوش بريّة، ومرصد لجيش الاحتلال الإسرائيلي يرصد الشاردة والواردة على سفوح جبل الشيخ الغربية الشمالية، وربما على الأراضي اللبنانية والسورية. لكن شبعا ترقد هناك. بيوتٌ قديمة وجديدة مرصوصة في قلب الجبل، وطرقٌ ضيّقة زفتها تعبان، وأخرى أثرية حجريّة تعجّ بالوافدين من المقلب الآخر من جبل الشيخ.

تغيّرت شبعا كثيراً في السنتين الماضيتين. لم تعد هي وحدها. ترى بلدة بيت جنّ السورية بصغارها وكبارها هنا، في «حارة السّلالة»، وحارات «الوسطاني الوسطى»، و«الفوقى» و«التحتى»، وعلى طريق القاطع وحارة «شِعب القلب» وطريق عين الجوز.

تلفّ منال نفسها بغطاء يحمل دمغة «وكالة غوث اللاجئين» التابعة للأمم المتحّدة. فالعباءة الشرعية لا تكفي وحدها لردّ الصقيع الآتي مع الغيم، فوق سفوح جبل الشيخ العالية. لم تعتد منال بعد استعمال الليرة اللبنانية. طبعاً، هي لا تحمل مئة مليون ليرة لبنانية، «يا دوب» بقي في حوزتها عشرة آلاف ليرة من أصل مئة ألف ليرة وصلت إليها من منحة أوروبية.

في كلّ زاوية من شبعا، حرفياً، يمكن أن تسمع حكاية لعائلة وافدة من بيت جن تحديداً، التي يشكل عدد النازحين منها 90% من نسبة النازحين إلى شبعا عموماً، بحسب رئيس البلدية محمد صعب.

كثافة النزوح من بيت جن بدأت قبل سبعة أشهر تقريباً؛ إذ وقعت البلدة تحت سيطرة مقاتلي المعارضة قبل أكثر من سنة ونصف، واكتفى الجيش السوري بالقصف على بعض الأماكن فيها بالمدفعية من وقت إلى آخر. لكن الأمر تغيّر بعد أن كرّر مقاتلو المعارضة محاولة السيطرة على مواقع الجيش السوري في الجبل، والقريبة من بلدات عرنة وحرفا وحضر، والأخيرتان تعيشان في حالة حرب مع مقاتلي المعارضة في قريتي جباثا الخشب وخان أرنبة. بدأ الجيش السوري حصاراً قاتلاً وقصفاً عنيفاً بالمدفعية الثقيلة. وقبل ثلاثة أسابيع، إثر محاولة فاشلة من قبل «حركة أحرار الشام» و«لواء جبل الشيخ» التابع لـ«ألوية أحفاد الرسول» وعناصر «جبهة النصرة» لاحتلال تلة حربون، ومواقع تابعة للواء 90 في الجيش، بدأ الجيش بقصف البلدة بالطيران الحربي. وبحسب مصادر عسكرية سورية، فإن «معركة تطهير جبل الشيخ ستستكمل بالتواتر مع معركة تطهير قرى القلمون وريف دمشق الجنوبي الغربي».

لا يهمّ. مع اشتداد القصف، لم يعد ممكناً أن يبقى في البلدة معارض أو موالٍ للنظام السوري. وبالمناسبة، يمكن أن تجد عدداً كبيراً من النازحين السوريين من بيت جن ممن يؤيدون الرئيس السوري بشار الأسد، حتى أن بعضهم يجاهر بهذا الأمر. واليوم، فاق عدد النازحين السوريين 5000 نازح، فيما يبلغ عدد سكان شبعا في فصل الشتاء أقل من 4000.

ولعلّ أقسى ما في الأمر، هو اضطرار الأطفال والعجّز إلى السير لمدة تقارب خمسة ساعات في جبل الشيخ، إذ لا يكفي عدد البغال الموجودة لنقل الناس، بعد كمّ النازحين الهائل، إذ وصل إلى شبعا أكثر من 950 شخصاً منذ بداية الشهر الحالي وحده. «هيدي الصغيرة سارة عمرها خمس سنين، مشيت ساعة ونص، خيّها ما قدر يحملها كل الوقت، وأنا بدي أحمل أختها»، تقول جميلة، أم لستة أطفال. تقترب دلال ظنّاً منها أن جميلة تحادث موظفاً في الأمم المتحّدة، «ليش بطلتو تعطونا البونات؟». وحين تعرف أن الحديث عن رحلة العبور إلى شبعا، تؤكد دلال أن العبور عبر صقيع الجبل ووعورته يبدو سهلاً كثيراً، بالنسبة إلى «الشحشطة» التي أمضت منها وعائلتها شهرين في قلعة جندل، وشهرين في حينة، وشهرين في دربل، وأسبوعين في سعسع، ثمّ عادت إلى بيت جنّ لتحضر مونة من بيتها ولم تجد شيئاً فيه، فخرجت بثيابها وأولادها، وذكرياتها من البيت، إلى النزوح الذي لا تعرف متى سينتهي. قاسم، تلميذ الصفّ العاشر لم يجد له مكاناً في مدرسة شبعا، إذ يُتابَع تعليم من لم يصل إلى الصف العاشر من النازحين فقط. اختار قاسم أن يمرّ في تجربة العبور في مسارب جبل الشيخ القاحلة مرة أخرى، حين وجد أن الجوع بدأ يضرب إخوته وأمه، «مشيت حد البغل، يا حرام هالبغل شو بيتحمل»، يبتسم قاسم، «رحت جبت مونة من بيتنا، الحمد الله كان لسا صاغ، أكيد هلق بَطَّل».

بالعودة إلى «البونات»، يحصل النازحون على مساعدات من الجماعة الإسلامية، على شكل سلال غذائية وبطانيات وحاجيات منزلية، وكذلك من جمعية «إشراق النور الخيري» التي يديرها الشيخ أبو جهاد الزغبي، عبر مساعدات من دول الخليج، وكذلك من البلدية وصندوق زكاة حاصبيا ـــ مرجعيون، والأمم المتحدة، التي تقدم «بونات» مساعدة بقيمة 40 ألف ليرة للفرد ومساعدات عينية أخرى. وأخيراً، أوقفت وكالة غوث اللاجئين تقديم البونات لأكثر من مئة عائلة في شبعا، من دون أن تطلعهم على السبب. أما الهيئة العليا للإغاثة، فلم تسمع أن في شبعا نازحين. «لم تصلنا قشة مكنسة من الهيئة»، يقول صعب.

لا تسمع فعالية في شبعا، إلّا وتؤكد أن عدد النازحين فاق قدرة البلدة وأن الدولة مستقيلة من واجباتها. حتى أولئك الداعمون للمعارضة السورية، كنائب رئيس البلدية صافي نصيف وهو مسؤول الإعلام في الجماعة الإسلامية، يقول إن «الأمر لا يحتمل في شبعا، لن تستطيع البلدة الصمود كثيراً أمام تدفق النازحين إن بقي على هذه الوتيرة»، وكذلك الشيخ أبو جهاد، «أعداد النازحين من إخواننا السوريين كبيرة جداً، ونحن على أبواب الشتاء».

هذه ليست مشكلة شبعا الوحيدة. لم تكن البلدة يوماً في حالة عداء مع محيطها، الدرزي تحديداً. القرى في منطقة حاصبيا والعرقوب على شكلها الحالي منذ أكثر من 150 عام تقريباً، وحتى في عز الحرب الأهلية وتحت الاحتلال الإسرائيلي، لم يحدث أن وقع أي صراع مذهبي في هذه القرى. لكن من غير المنطقي أن لا تصل شظايا الحرب السورية إلى هنا. الحرب السورية عابرة لسايكس ـــ بيكو.

تؤكّد فاعليات شبعا والأجهزة الأمنية اللبنانية أن لا وجود لمسلحي المعارضة السورية في في البلدة، وتجزم بأن لا تهريب للسلاح عبرها، وتكرّر على لسان الجميع تقريباً أن «شبعا ما فيها نصرة، من وين جابها وهّاب؟»، في إشارة إلى ما قاله الوزير وئام وهاب قبل أسبوعين. وتدعّم الفعاليات وجهة نظرها بالقول «إن مقاتلي المعارضة في المقلب الآخر لا يحتاجون إلى السلاح، وطريق الجبال والطبيعة الجغرافية لا تشبه عرسال، والطرق التي يمكن استخدامها لوصول النازحين لا يمكن تهريب أي شيء عبرها بسبب وعورتها وطولها، فضلاً عن أن الجيش اللبناني يراقب كل شيء، ويسجل أسماء النازحين ويراقب البلدة ويطوّقها بالحواجز. وفي شبعا أيضاً مناصرون لحزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث، لو كان هناك مسلحون لكانت الأمور قد تغيرت». ليس هذا فحسب، تؤكد الفعاليات بما يشبه الإجماع، أن «لا أحد يريد المساس بأمن شبعا، لا نقبل بتهريب السلاح ولا المسلحين». يذهب الشيخ جهاد حمد بعيداً، إذ يقول رئيس دائرة الأوقاف في دار الإفتاء في حاصبيا ومرجعيون إن «شبعا لا يمكن أن تستقبل التكفيريين، وهي ضد الإرهاب، شبعا تستقبل النازحين فقط».

مشكلة المحيط مع شبعا ليست بالنازحين السوريين. تجاور شبعا قرى درزية ومسيحية هي راشيا الفخار وشويا وعين قنيا وحاصبيا والفرديس وعين جرفا والكفير، وعين عطا من جهة راشيا الوادي. ويسلك الجرحى الذين يستقبلهم الصليب الأحمر اللبناني أو الدولي بإشراف الجيش اللبناني أربعة معابر هي: شبعا ـــ شويا ـــ عين قنيا، شبعا ـــ سدانا ـــ كفرحمام ـــ راشيا الفخار، شبعا ـــ وادي جهنم ـــ الفاقعة ـــ راشيا، وشبعا ــــ وادي شبعا ــــ الهبارية ــــ الفرديس، وهو المعبر الأساسي للجرحى. لا شكّ في أن المعركة الأخيرة التي حصلت في قرية عرنة، وسقط فيها تسعة من أبناء البلدة في مواجهة مقاتلي المعارضة الذين انطلقوا من بيت جن ومزرعة بيت جن ودربل أثارت غضباً كبيراً في القرى الدرزية اللبنانية. إذ بدأ عدد كبير من أبناء هذه البلدات يشعرون بالخطر من اقتراب النار إلى قراهم، واعتراض هؤلاء الأساسي هو بسبب مرور جرحى المعارضة السورية عبر قراهم إلى مستشفيات البقاع، «يقتلون إخواننا في عرنة ثم يمرّون في قرانا»، يقول أحد محازبي الحزب الديموقراطي اللبناني في بلدة شويا.

وفيما يؤكد عدد من مشايخ خلوات البياضة وعدد كبير من فعاليات حاصبيا وقراها أن لا اعتراض على وجود النازحين السوريين، بل على العكس، «قرانا مليئة بالنازحين، وهم إخواننا، لكن في شبعا عدد من الجرحى أصيبوا خلال معارك مع أهالي عرنة وحضر، وهؤلاء يعودون إلى القتال بعد أن يتلقوا العلاج هنا. هل يقبل أهالي شبعا بأن يأتي جرحى مقاتلي عرنة ثم يعودون حين يتماثلون للشفاء إلى القتال مجدداً؟».

لا يبدو أن أحداً في شبعا ولا في القرى المحيطة يريد اقتتالاً. من ير ويسمع ماذا يحدث في المقلب الثاني من جبل الشيخ، وفي سوريا عموماً، فأقل الواجب أن يفكّر مراراً وتكراراً قبل أن ينقل النار إلى قرىً تعيش وادعة منذ عقودٍ طويلة، فيدمر قريته وبيته وما بناه هو ومن سبقوه. لكن لا يبدو أن الحلول التي تجترحها الفعاليات السياسية في المنطقة لها أفق، مع تزايد احتمالات نشوب معارك طاحنة على المقلب الآخر من جبل الشيخ، إذ تؤكد مصادر مطلعة على سير المعارك العسكرية، أنه «لن يكون أمام المسلحين سبيل للهرب من جبل الشيخ سوى عبر المنطقة منزوعة السلاح التي تشرف عليها قوات الطوارئ الدولية»، ما يعني أن شبعا ستكون ملاذاً لمقاتلي المعارضة السورية. وبالتالي، إن المقبل من الأيام يحتاج جهداً كبيراً من أهالي القرى والأحزاب ورجال الدين والدولة طبعاً، هذا إن لم تكن تحتاج إلى الصلاة أيضاً.

شبعا لا يمكن أن تستقبل التكفيريين وهي ضد الإرهاب
شبعا لا يمكن أن تستقبل التكفيريين وهي ضد الإرهاب


تعليقات: