وادي المقاومين

في عيناتا
في عيناتا


تشق الشمس طريقها من وراء قمم جبل الشيخ مرسلة شعاعها الخجول الى القرى الرابضة عند ضفتي الليطاني. ايقظت «ام علي» صغارها: لينا وردينه واحمد ومحمد، وهمّت بهم الى حيث كان «ابو علي» ينتظرهم في سيارة «المرسيدس» الزرقاء، من طراز مطلع الثمانينيات، ليقلهم من «الغندورية» الى المطحنة الحجرية العتيقة التي شيدها جد العائلة قرب نبع ماء يتوسط وادي الحجير.

قرر علي وهو كبير العائلة أن يبقى في المنزل نائما، أما الصغار، فقد تحمسوا للموعد الصباحي عند خط التماس الواقع بين المناطق المحتلة والمحررة، حيث شكّل «الوادي» ممرا اجباريا للمقاومين على مدى عقدين من الزمن للوصول الى مواقع الاحتلال والعملاء.

في الوادي، انصرف الاطفال الى لهوهم و«ام علي» و«ابو علي» للاعتناء ببستانهم الصغير، تمهيدا لقطاف مواسمهم ومن ثم بيعها في الغندورية والجوار، وقررت «لينا» ابنة الاربعة عشر ربيعا الاختفاء خلف المطحنة، على جاري عادتها.

تفقدت «لينا» كيس اللبنة الذي تضعه والدتها للمقاومين. كان في مكانه ولكنه فارغا. اكواب الشاي مرمية على الارض على عجل. رتبت المكان، وقالت في سرها «صحتين» لمن عبروا في تلك الصبيحة. تفقدت الراديو الذي قررت «ام علي» تخصيصه للمقاومين ليتسنى لهم متابعة اخبار عملياتهم، فوجدته في مكانه وبطارياته ما تزال صالحة. اهميته بالنسبة اليهم، توازي كيس اللبنة والخبز المرقوق على الصاج والشاي.

ساعات تمر بطيئة. فجأة يدوي صوت انفجار قوي ثم اطلاق رشق ناري. أصوات مألوفة لا تمنع من يلعب من المضي في لعبته ومن ينظف «حقلته» من استكمال نزع اليابس من الأعشاب. يصل عدد من المقاومين الى طرف البستان. يتقدم منهم «ابو علي» ويشير عليهم الاختباء في المغارة المجاورة التي تفقدها فور وصوله.

دخلوا المغارة.. لكن ردة فعل جنود الاحتلال تشي بنجاح المقاومين في تنفيذ عملية نوعية. دخل الطيران المروحي، وأطلت دبابات «ميركافا» من جهة مشرفة على الوادي من ناحيتي القنطرة والقصير وشرعت في اطلاق قذائفها وتمشيط المنحدرات المحيطة.

خاف الاطفال فأدخلتهم «ام علي» الى المطحنة ثم لحق بهم «ابو علي» وابنته «لينا». دقائق سريعة ويقتحم الاسرائيليون المطحنة. يسأل الضابط عن وجهة «المخربين»، فيتمتم «ابو علي» بالعربية. تنتهي حملة التمشيط ويقرر جنود الاحتلال اقتياد «ابو علي» معهم. مشى الرجل حافي القدمين من وادي الحجير صعودا نحو بلدة القصير . مشهد ظل محفورا في ذاكرة «ام علي» وصغارها. لم يشفع بكاء الاطفال ولا صراخ الام للوالد الذي ما ان اختفى في راس الجبل حتى أصبح في المجهول.

لم تقطع «أم علي» الأمل، لكن عند ساعات المساء الأولى، قادت اطفالها يائسة وسيرا على الاقدام في طريق العودة الى الغندورية. مئات الأمتار، قبل أن يطل عدد من المقاومين. تنهال عليهم «ام علي» بالعتاب واللوم قبل ان تطلب من احدهم جلب سيارة زوجها من الوادي وتوصيلها وأطفالها الى الغندورية، حيث كان خبر اعتقال «ابو علي» يسري كالنار في الهشيم.

امضى «ابو علي» سنتين في معتقل الخيام تعرض خلالهما لابشع أنواع التعذيب. تدهورت حالته الصحية، فقرر العملاء الافراج عنه. عاد الى عائلته مزنرا بالأمراض التي لم ترحمه، بل كانت كفيلة بالقضاء على حياته..

حصل ذلك في العام 1990، لكن اليوم، لا يوميات للعائلة خارج ذكريات ذلك النهار. مهما جربت «أم علي» الهروب مما حصل، لا تفارقها صورة اعتقال زوجها ومحاولة اذلاله أمام ناظري صغاره. تبقى الذكرى شاخصة من «القنطرة» حيث تقيم «ام علي» اليوم.. الى الوادي.

تتحدث هذه السيدة المقاومة عن شهداء لم تعرف اسماءهم الا بعد استشهادهم. هي بمثابة امهم، كيف لا وهي التي دأبت على تزويدهم بالطعام والشراب. تقول «كانوا قد عبروا» (من الوادي). تحكي عن اشخاص ما زالوا على قيد الحياة وتتمنى لو انها تسمع عنهم شيئا لكنها لا تعرف اسماءهم. لا تعرف من اين اتوا. لا تعرف الى اي حزب انتموا. كل ما تعرفه انهم مقاومون.. ولسان حالها يردد «الله يحميهم»!

تعليقات: