جدارية الفنان «يوسف غزاوي».. رمزية الوجود والقدرة على البقاء وفق رؤية فنية تشكيلية


ترتكز جدارية الفنان " يوسف غزاوي" على مفهوم الحرب والسلام، وعلى رمزية الوجود والقدرة على البقاء وفق رؤية فنية تشكيلية يقدمها بتعبيرات دلالية لها رمزيتها الأيديولوجية ، الخاضعة لمفاهيم اللون والبعد الفكري في إخضاع الريشة . لترصد الحدث المؤرخ في ذاكرة الفنان " يوسف غزاوي" ، والمترجم في جدارية انطولوجية تبرز مشكلة الحرب مع العدو، الضاغط بكل مستوياته على أبسط المفاهيم الحياتية والإنسانية، ومنها الفنية بشكل خاص .

تغيرات حركية لأشكال مبهمة رغم وضوحها يحاكي من خلالها " يوسف غزاوي " اللون الأبيض الباحث عن السلام الداخلي قبل الخارجي، وكأنه يشير في جداريته إلى لوحة الغارنيكا ، ولكن بعمق المفهوم التشكيلي حيث يشير إلى قريته التي تم تدميرها أكثر من مرة . محددا اللغة الفنية بتناص ينعكس على أسلوبه المناقض ، والمؤثر في اتجاهات اللون، والفراغ ، والرموز والتعبيرية والإيحائية ، وتداعياتها على نحو خاص داخل مساحات بصرية ذات اتجاهات مرئية، وخصائص تصويرية تعتمد على منح اللوحة لغة تؤرخ لوجود الإنسان الكلي، وقدرته على النهوض من المحن التي تسلبه الإحساس الخاص بالجمال والفن، فالمشهد المقترن بوجدانيات ملحمية يروي من خلالها الغزاوي الوقائع الحسية التي تأثر بها أثناء الحرب على جنوب لبنان، وعلى قريته إذ يبحث بين الرموز التي رسمها في جداريته عن الكينونة الإنسانية من خلال اليد التي تقترب لتصافح اليد الأخرى. إلا أن الفراغ يحيط بها، وتفصلها مسافة كلية تشير إلى الضعف في القوى المسببة للحروب، ولتآكل الإنسانية في ظل النزاعات المتكررة منذ نشوء الإنسان وحتى الآن.

يحاول " يوسف غزاوي " في جداريته محاكاة الزمن والمكان، وتفعيل دور المخيلة في تنشيط حكائي رمزي، وسرد تشكيلي له رمزيته حيث تبدو المربعات ، كوجوه ، وكقبور، وكعلامات قرى تم قصفها في إيحاءات توازنت مع الوقوف الهزيل للإنسان وسط الخراب والدمار من حوله . إلا انه مزج اللون الأبيض مع الألوان الأخرى ، كاستراحات زمنية أراد لها ان تصفو مع تعابيره، ومفرداته، وموتيفاته التي تتباعد في ما بينها، في وصف باطني لأحداث تكشف عن عداوة الإنسان للإنسان نفسه من خلال مفهوم الحرب ، والقلق، والخوف، والكينونة المفعمة بإنسانية تتمزق أركانها في كل حرب تصبح فيها حتى الطيور ، كطائرات تحمل في جوانبها رموز الموت والشر . إذ يخاطب " يوسف غزاوي " الرائي بكل هذا ليضعنا أمام " جورنيكا" من نوع رمزي تتجاوز حدود الذاتية والموضوعية، وتندمج مع الخطاب الإنساني، المحاكي لأوجاع شعب يتحرر إنسانيا من كل قيود الموت والحياة، وكأن للموت لغة بقاء تتناهى في مفاهيمها أحاسيس القلق، والشعور بالعدم إلى وجود من نوع آخر. أو وجود فني تشكيلي لا حدود له يرتبط بمفاهيم خاصية . تمتلك مميزات لونية يتخللها الخط المتجانس مع الرؤية المنبثقة عن الحرب، وتفاقم الإحساس السايكوفينومينولوجي المتحرر من كل المعايير الفنية، والمنضبط رمزيا وتصويريا داخل حدود جدارية لا متناهية من حيث الحوار الداخلي والخارجي، والقدرة على وضوح الفكرة الناشئة من حدث تم التأريخ له في عمل فني يتأرجح بين الواقع واللاواقع، والرفض والقبول ، والحقيقة والخيال، للتواءم كل هذه الرؤى ضمن تناقضات قدمها بصريا بدينامية باردة لونيا ، ورسومات عشوائية تتميز بعفويتها التشكيلية الممزوجة بتحولات الأشكال، وانحرافاتها ضمن زوايا منظورية يهدف من خلالها إلى تصوير قدرة الحروب على دمار الإنسانية.

علاقات داخلية مبنية على محاكاة للرموز في ما بينها. لتمنح الرائي إيحاءات ديناميكية. تتشكل على مسرح الجدارية الممتد بصريا نحو فضاءات اللون الأبيض، وموسيقاه التصويرية الهادفة إلى إنشاء تكوينات منفصلة ومتصلة في ما بينها بفكرة الحرب المدمرة للإنسان، وبيئته الحياتية والقدرة على الوقوف لبناء المفاهيم المتجددة بعد كل حدث مؤلم يعيد الإنسان إلى نقطة البداية، وهذه دورة الخير والشر، والموت والحياة، والحرب والسلم يرى برديائيف :" ان الخلق الفني شأنه شأن كل شكل آخر للنشاط الخلاق يتألف من التفوق والتحول إلى الحياة المعطاة المحددة والعينية ،بمعنى انه انتصار على العالم."

إن الألوان والتكوين، والمحاكاة الداخلية لعبت دورا هاما في تحقيق جاذبية تثير البصر، ليتعمق الفكر في فك رموز الجدارية ، وحركتها العشوائية ضمن المنظور الفني المشبوب بمسحة يأس وامل، وفرح وحزن، ونهوض إنساني تتشكل فيه الحياة من خلال الحدث الماضي بلغة حاضر ترك الجدارية مفتوحة على دلالات مختلفة ، ومتنوعة إنسانيا من حيث قدرة المربع ، والمستطيل على منح الزوايا تشكيلات ذات فضاءات توحي بأشكال متعددة. غلب عليها حيادية تميل إلى الرمادي المزرق بشفافية، وترابيات متزنة ومنسجمة مع الأسود، والإضاءة المتناغمة مع الكتل والفراغات، والفواصل، والأحجام المختلفة في قياساتها النابعة من فكرة إنسانية تبحث عن السلام داخل الحروب المتتالية، التي تواجهها بفكر فني وإنساني .

تستكمل المخيلة دورها التي تبدأ عند حواف الجدارية ، ومضمونها المتعلق بالمحتوى الإنساني المناقض لفكرة الحرب والخراب، والدمار المؤثر على مفاهيم الجمال للجمال، ومنح الحدث لغة فنية تترجم الخطوط كل تفصيلاتها، وجزئياتها الغامضة، والقيمة التحاورية. لما تتسم من تلقائية وعفوية ، وبساطة في الأداء، وتعقيد في الفكرة المبسوطة على مسطحات ذات مضامين فنية تشكيلية ترتسم في ظاهرها الحروب، وفي عمقها قدرة الإنسان على الوقوف دائما في وجه كل خراب تتسبب به الأيدي الممدودة. إن للشر في مفهومها المنفصل أو للخير في مفهومها الباطن كيد إنسان يهدف إلى منح الإنسانية الخير والجمال.

(عن جريدة المدى)

تعليقات: