الصراع الاجتماعي على المساحات العامّة: «حرش العيد» ليس للجميع!


إذا كان «حرش بيروت» هو القاسم المشترك في الذاكرة الجماعية لأهل المدينة، فإن الاستمرار في إغلاقه أمامهم ما هو إلّا إمعان في القضاء على هذا المشترك. أهمية المساحات العامة تكمن في أنها مشتركة تجمع المختلفين وتشعرهم بأنهم «سواسية» في الحق بالتمتع بها! لكن عندما يصبح التمتع بالمساحة العامة مشروطاً ومسموحاً لفئة دون أخرى، فإننا أمام قرار يشرّع التمييز، اجتماعياً كان أو طبقياً... ويستلزم «الثورة» عليه سعياً إلى استعادة المساحات المشتركة المفقودة منذ زمن بين اللبنانيين.

على الرغم من أن بلدية بيروت ترى «أن حرش بيروت هو متنفّس لأهالي العاصمة وأولادهم، لكونه الرئة الخضراء للمدينة»، إلا أن قرار مجلسها البلدي القاضي بوضع شروط للدخول إليه يتنافى مع ما تقوله. إذ إن «غربلة» الأشخاص من شأنها أن «تقلّص» عدد الأهالي وأولادهم المسموح لهم بأن «يتنفسوا».

على مدخل «الحرش»، يجري الآن التدقيق في الهوية: إذا كان الراغب بالدخول عمره فوق 30 سنة ويعمل طبيباً أو محامياً، مهندساً أو تاجراً أو... يُسمح له بالدخول لممارسة الرياضة أو هوايات المشي في مساحة خضراء. إذا لم يكن يتمتع بهذه الصفات، أي كان شخصاً عادياً، بحسب التعبير الدارج، أو كان مراهقاً مثلاً، يُطرَد: ممنوع الدخول إلا للنخبة.

الدخول بإذن إلى «حرش عام»

شروط السماح بالدخول إلى «الحرش» جرى تعديلها في 25/6/2014، فالدخول مسموح فقط للافراد الذين «يرغبون في ممارسة رياضة المشي» (حصراً كما ورد بالقرار). ليس هذا فحسب، بل يجب ألّا يقل عمر الفرد عن 30 عاماً، بعدما كان 35 عاماً. أمّا الأهالي الحاصلون على إذن الدخول، فيحق لهم اصطحاب أبنائهم الذين هم دون العاشرة! فضلاً عن شروط أخرى تتعلّق بوجوب تعهّد الفرد بالمحافظة على المفروشات والمنشآت والمشي ضمن الممرات فقط.

السبب في تعديل القرار رقم 711 الذي صدر في 5/8/2004 بحسب البلدية، هو كثرة المراجعات التي حصلت بخصوص السماح بالدخول إلى حديقة «حرش بيروت». وينتهي القرار بـ«طمأنة» أهل المدينة بأن هذا الأمر «يشكّل خطوة أولى لفتح «الحرش» أمام العموم! يقول رئيس بلدية بيروت بلال حمد إن هذا الوضع هو مؤقت حتى انتهاء دفتر الشروط كي يُلزَّم «الحرش» لشركة خاصة تتولى إدارته وصيانته، لافتاً إلى أن المجلس البلدي السابق هو من وضع شروط الدخول إلى الحرج، والبلدية الحالية عمدت إلى خفض سن الدخول فقط (من 35 الى 30 سنة!).

حمد نفسه كان قد وعد في عام 2012 بفتح «الحرش» في السنة نفسها (في مناقشة أجرتها جمعية «نحن» مع البلدية)، وكلامه هو نفسه: «انتظار دفتر الشروط»، علماً بأن الأخير لا يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر، حسب ما يقول المدير التنفيذي لجمعية «نحن» محمد أيوب، ويتساءل: «هل يستغرق تحديد عدد العاملين في الحرج وكميات المياه التي يتطلبها وغيرها من التفاصيل سنتين؟». يُذكر أن البلدية تسلّمت من قبل بعض منظمات المجتمع المدني ورقة السياسات العامة لإدارة الحرج وحمايته. فلماذا المماطلة؟ ولماذا وُضعت شروط للدخول، ولو كانت بحجة أنها مؤقتة؟ فهي «مؤقتة» منذ أكثر من عقد من الزمن.

حمد لا يريد «الحرش» حديقة شعبية ويجاهر بتفضيله خصخصتها

تتنافى شروط الدخول مع مفهوم الملك العام، أو الحيز العام، الذي يشكّل مبدأ الاستعمال الحرّ أحد ثوابته. وإذا كان جهل البلدية لهذا المفهوم هو ما سمح لها بوضع الشروط، فإن صمت المواطن وعدم المطالبة به كحق ينم عن جهل أكبر.

في الدراسة التي أعدتها جمعية «نحن» عن إدراك الناس لمفهوم «المساحات العامة» (2011)، تبيّن أن أغلبية الذين شملهم الاستطلاع لا يملكون مفهوماً واضحاً ومحدّداً عمّا تعنيه الأملاك العامة والمساحات العامة. وإن أهم سببين لعدم لجوئهم إلى استعمال المساحات العامة، بحسب تصريح المستفتين، هما «قلّة النظافة» وأن المساحات العامة «لا تُعدّ آمنة».

إنكار الحاجة تمهيداً لخصخصتها

يقول أيوب إن الدراسة تثبت أن «الناس لا يدركون أن المساحات العامة هي «حق»، كذلك فإنهم لا يفقهون معنى «العام». إلا أن اللافت، بحسب ما يشير اليه أيوب، هو عدم إدراك الناس أن المساحات العامة هي حاجة، وهنا الأهم، ذلك أن من لا يجد ضرورة في وجود متنفس في المدينة، هو حتماً لا يربط نفسه بها. «إنّ من يريد التنفسّ سيفكّر بالذهاب إلى ضيعته، لا يشعر المواطن بأنّ لديه الحق في أن يحظى بمتنفّس يومي في مدينته»، يضيف أيوب. وهنا تعود أهمية «حرش بيروت» لكونه يشكّل المساحة الخضراء الأكبر في المدينة. فهو، أي «الحرش»، لا يسمح فقط بتقليص حدّة التوتر والاكتئاب والقلق بسبب التماس مع الطبيعة والسماح بالقيام بالتمارين والنشاطات المساعدة على تنمية الصحة النفسية، بل يعزز أيضاً الشعور بالانتماء وينمي حسّ المواطنة.

مسألة الانتماء والمواطنة التي يبعث بها «حرش بيروت» ليست أمراً مبالغاً فيه، إذ إن بلدية «ايل دي فرانس» ذكرت في أسبابها الموجبة لتقديم هبة تتضمن التعهد بإعادة تشجير «الحرش» عام 1992 أن الهدف منه «إنشاء مساحة مشتركة لاستقطاب الجماهير والسعي إلى تأمين ظروف إلغاء الطائفية». وبالرغم من ذلك، إن أحدى الحجج التي تبنتها بلدية بيروت (منذ سنتين وأكثر) كذريعة لعدم فتح «الحرش» هو «الشحن الطائفي» والخوف من أن تتحول الحديقة إلى ساحة اقتتال؟! فلماذا لجأت البلدية إلى إنفاق الملايين لإعادة تأهيله ما دامت تتخوف من فتحه؟ اليس هذا دليلاً على زيف الحجة أو قصر النظر؟

«الشحن الطائفي» ليس آخر ذرائع البلدية لمنع استعمال «حرش بيروت» من قبل العموم. ففي مناقشة علنية أقامتها جمعية «نحن» مع رئيس بلدية بيروت في شباط 2012، يقول حمد إن مخاوف البلدية تكمن في سلوك الأفراد الذين «قد يسيئون استخدام الحديقة! من الممكن أن يكون هناك خرق للآداب العامة أو أن يتحوّل إلى مكان للأراغيل»، يقول حمد. سرعان ما يستشهد بحديقة حيوانات في مصر تحوّلت إلى «ميدان للأراغيل». إذاً، حمد لا يريدها حديقة شعبية، أو بمعنى أدق، يجاهر بعدم حماسته للمساحة العامة وتفضيله خصخصتها، بمعنى جعلها مكاناً خاصّاً ومقيداً، وربما مغلقاً. فمقارنته بحديقة الحيوانات في مصر حينها، وتذرّعه بانتظار إنجاز عملية تلزيم «الحرش» لشركة خاصة تتولى «حمايته»، تؤكد نياته «الطبقية»، وتكشف انحيازه إلى استثمار المساحة العامة في خدمة تحوّلات المدينة الجارفة التي تنطوي على استبعاد تام لفئات واسعة من السكان. تماماً كما حصل ويحصل على الشاطئ وضفاف الأنهار وقمم الجبال والمواقع الطبيعية والتاريخية الأخرى.

طبقية تحكم الحيّز العام

يتفق الباحثون والناشطون على أن العامل الأبرز المؤثر في سلوك الفرد إزاء المكان الذي يقصده يتعلّق بعاملي السلطة والرقابة لضمان الحفاظ على المكان، وبالتالي إن اهتمام الفرد بالحديقة العامة مرتبط بوجود إدارة توجه هذا الاهتمام. هذا يعني أن حجة عدم فتح الحرج أمام الجميع بحجة مخاطر سلوك الأفراد هي حجة واهية شأنها شأن الحجة الحالية المتمثلة بانتظار البلدية دفتر الشروط، هي التي تعدّه، فمن تنتظر؟

على الرغم من أن حديث حمد «الطبقي» مضى عليه سنتان، إلا أن تعديل قرار المجلس البلدي بتجديد شروط الدخول إلى «الحرش» لا يخرج عن هذا السياق. فالبلدية مصرّة على أن هذه الشروط هي لـ«حماية» الحرج من «الفوضى» التي قد يسببها الأفراد الذين لا يخضعون لهذه الشروط! علماً أن «حرش بيروت» هو ملك شخص معنوي (بلدية بيروت)، ما يجعله ملكاً عاماً يخضع استعماله لقرار صادر عن مجلس شورى الدولة عام 1966 الذي ينص على أنّ «لجميع المواطنين الحق باستعمال كل ما هو مصنف ملكاً عاماً بحرية شبه مطلقة وبدون مقابل إلا بقدر ما هو محدد صراحة بموجب القانون، على أن يكونوا متساوين (المواطنين) في ما بينهم لهذه الغاية».

يميز المحامي نزار صاغية في المناقشة نفسها بين نوعين من الأملاك العامة: الملك العام الخاص الذي تملكه الدولة أو البلدية وغيرها والملك العام للجميع. يتحدد الملك العام للجميع إذا ما كان هذا الملك مهيّأً للعام أو استُخدم دائماً كملك عام. فهل يحتاج «حرش العيد» إلى إعلانه ملكاً عاماً للجميع؟ يسأل صاغية ويشير إلى وجود مراسلات رسمية بين البلدية ومنظمات من المجتمع المدني تشير إلى هدف «استعمال حرج بيروت كمنشأة لسياسة تربوية بيئية»، فأين نحن من ذلك؟ يلفت صاغية إلى أن المبدأ الأول في إعلان الملك عاماً هو استعماله بشكل حر من دون أي شروط، فضلاً عن أن الثوابت القانونية الأخرى تتمثّل بمجانية استخدامه وبمساواته بين جميع المواطنين. وبالتالي يغدو اقتحام الناس لـ«حرش بيروت» أمراً مبرراً كوسيلة لاستعادة حق مكتسب شأنه شأن الشواطئ اللبنانية! هذا جزء من الصراع الاجتماعي في المدينة حيث يتمتع الحيز العام بأهمية بالغة جداً.

تعليقات: