الحاج محمّد غزّاوي

رسم الحاج محمّد غزّاوي الذي رُسم في بداية الثمانينيّات بتقنيّة الفحم على ورق كونسون
رسم الحاج محمّد غزّاوي الذي رُسم في بداية الثمانينيّات بتقنيّة الفحم على ورق كونسون


بعد مجزرة الخيام، نفّذت رسماً لجدّي "الحاج محمّد غزّاوي" (أحد شهداء المجزرة)، رسمته في بداية الثمانينيّات بتقنيّة الفحم على ورق كونسون. وبسبب كثرة التنقل والتهجير فقدت هذا الرسم منذ حينها..

لكن بعدما عدت ووجدت الرسم، صدفةً عند أحد المصورين، أحببت نشره عبر موقع بلدتنا الألكتروني مرفقاً ببعض ما جاء في كتابي "غرينيكا الخيام"عن المرحوم جذي:

كان جدّي لوالدي, آنذاك, من الوجوه الدينيّة البارزة المعروفة بتديّنها, بالمعنى الإيمانيّ للكلمة, كان "مُعرّفاً في حملة الحجّاج" حسب التعبير الذي كان سائداً آنذاك؛ وهذا يعني دليلاً في موسم الحجّ إلى مكة المُكرّمة في الحجاز, يرافق الحجّاج الخياميّين الذاهبين إليها.

كنت أراه باستمرار, وأنا صغير, يضع القرآن أمامه ويبدأ بتلاوته بصوت خفيض مسموع. وفي إحدى المرّات, نصب سارية أو عموداً حديديّاً يشبه البرج على سطح بيته الملاصق لبيتنا ووضع في أعلاه مذياعاً, لم أستطع كشف كنه أمره إلا بعد أيام, حين رأيته يحمل آلة تسجيل ويضعها على طاولة في وسط الغرفة, آخذاً باستعراض مجموعة من الأشرطة التسجيليّة, ظننتُ للوهلة الأولى أنّها أغانٍ لبعض المطربين الذين كنا نعرفهم آنذاك كفيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم. قلتُ في نفسي ما هذا الجدّ الرائع الذي أحضر آلة تسجيل ليسمعنا طرباً وألحاناً تصدح في الأجواء عبر المذياع! لم يخطر ببالي, لسذاجة صغر سنّي, أنّ هذه الأشرطة ما هي إلا عبارة عن أصوات عبد الباسط عبد الصمد وغيره من المقرئين للقرآن الكريم, وليست أصوات عبد الوهاب أو عبد المطلب أو عبد الحليم, وكلهم عبيد الله. فما كان منّي إلا أن طلبتُ منه (أي من جدّي) بكل سذاجة بأن يضع لنا شريطاً بصوت فيروز أو أم كلثوم. عندها وقعت الواقعة؛ فما كان منه إلا أن نهرني بشدّة بعد إسماعي بعض الكلمات التي تليق بمتطفّل مثلي (ابتعد من هنا يا...), أدركتُ حينها مدى فداحة الخطأ الذي اقترفته بطلبي الغبي من هذا الجد المتديّن....

وبطبيعة الأمر, فـ "كلّ على دين أجداده", عمدتُ في بداية السبعينيّات إلى الذهاب الى الجامع للصلاة, ولم أكتفِ بهذا الأمر, بل كنتُ أجمع عدداً كبيراً من الصبية في باحة الجامع, ممّن يقاربونني سناً, ونقوم بالصلاة جماعة بأن أقف أمامهم لأعلّمهم طقوسها عبر تلاوة كلماتها بصوت مرتفع. (ص 41).

كان جدّي يتمتع بصفات شتّى منها الإيمان والشطارة والحذاقة وعمل الخير العام؛ كان "معرّفاً" أو "دليلاً" (من أوائل المعرّفين) في رحلات الحجّ إلى الديار المقدّسة في مكة المكرّمة. وقد أسهم أيضاً في بناء المسجد والجامع الحسينيّ القريب من منزلنا, ولم يزل اسمه منقوشاً فوق إحدى مداخل الجامع دلالة على ذلك. هذا الجدّ سقطت حجارة منزلنا عليه أثناء مجزرة الخيام. أدمت هذه الحادثة قلوبنا وأبكتنا. كان جدّي وسيماً, بهيّ الطلة, يملك وجهاً جميلاً أبيض البشرة يشعّ نوراً وهمّة. كنتُ امتلك رسماً وحيداً له, صغير الحجم نفذته بقلم الرصاص, أوائل السبعينيّات قبل هجرتنا من بلدتنا, أضاعه أحد أبناء بلدتنا "أحمد..." بعد أن استعاره، بداية ثمانينيّات القرن الفائت, لتوضع صورة عنه في ملصق لضحايا مجزرة الخيام التي أخذ الجميع يتسابق على استغلال تلك الحادثة لاستذكارها لأمور سياسية, فكانت النتيجة ضياع الرسم نتيجة استهتار هؤلاء الأشخاص. طالبتُ مراراً باستعادة هذا الرسم, وكان الجواب دائماً: أضعناه, ولا نعرف مصيره!.. (ص 87).

أمّا جدّي لوالدي, وكما جاء على لسان جارتنا فكان ضحيّة سقوط حجارة بيتنا المُدمّر عليه, حيث بقي أيّاماً يئنّ تحت ثقلها صارخاً من الألم, وقد أحاط به الجنود الإسرائيليّون يتأمّلونه, ويهزأون منه, وقد سلبوه مبلغاً من المال كان بحوزته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. حتى أنّ الكلاب والقطط الشاردة لم تجد شيئاً تأكله سوى جثته كما تقول الراوية! (ص. ص 179- 180).

تعليقات: