الخريف الحزين.. سلاماً منح بك

منح الصلح
منح الصلح


كأني حينما أرثي منح بك، أرثي مدينة بيروت. مدينة هي خليط من ذاكرة عائلية وأوقاف عثمانية وتوق الى استقلال ونهضة العرب. لا ليست بيروت هذا فقط.. هي جامعة متناقضات لا يجمعها عقل جن.

وأنت تسير في شارع السادات من الحمرا في بيروت لا بد ان يتلفت القلب الى المتفرع الذي يقع فيه منزل منح بك . ذكريات البرندا الارضية التي تجمع وجوها وقلوبا مستريحة ولاجئة الى حضن البك . الى عاداته الارستقراطية من استقبال وضيافة وتوديع . السياسة والتاريخ والادب والشعر والصحافة كلها مواضيع شهية ترافق الشاي والقهوة وقطع الكيك . البك مفتر الثغر كطفل صغير يجتمع مه " رفقاته " للهو والتسلية والمرح .. هو ذاته الذي يجول نهارا وليلا على مكاتب الصحف والمجلات في بيروت ..وهو كاتب افتتاحية مجلة الحوادث في ابهى مراحلها ..كما انه المرشح ادائم لرئاسة مجلس الوزراء ..هو أمين سر عائلة ال الصلح وعائلات بيروت غير المعلن ..روى لي مرة ان سائقه الذي بلغ في ثمانينيات القرن المنصرم التسعين من العمر كان يسوق السيارة به وعندما تقع في مطب يقول له : لازم نخبر عماد بك ( وهو والد منح بك المتوفي قبل اكثر من نصف قرن في ذلك الحين ..وكان رئيسا لبلدية بيروت ) منشان يزفت الطريق !!

هكذا هو الزمن المستعاد ..صلحي بامتياز يسترجعه السائق خوف ان يواجه ما هو غريب لا قلب له ولا عاطفة ولا رحمة ولا مسؤولية .ذلك السائق المخرف أحببته لانني مثله في العناد والاشاحة والسهو .

منح بك كنت تقرأ الصحافة كلها بنهظ مدهش ..تضيء جلسات المقاهي ..الوينمبي ..المودك ..وغيرها .اخر عهدي بك مقهى السيتي كافيه ومحطة كلامك معي : اييه عماد شو صار ..ببينما تكون تفكر بما لا ادريه . ساعدتك اكثر من مرة على الخىوج من المقهى وكأني اعير كتفي لابي او لجدي .

انا صلحي بامتياز من رياض بك الصلح الذي كان يرسل له عمنا خنجر بك العبد الله النقود كي يدفع أقساط ابنه حسين العبدالله ( الذي اصبح نائبا ووزيرا وسفيرا فوق العادة وأمينا مساعدا في الجامعة العربية ) لمدرسة الحكمة . ثم بعد ذلك يرعاه ويرشده . فانظروا الى نوع مشاغل عملاق السياسة والقومية العربية وتواضعه وحنوه .

الى سامي بك الصلح الكبير الذي فتحت عيني على الحياة وانا في روضة مدرسة حوص الولاية التي كانت تقع على طرف منزله . كنا نقف في الصباح قبل الدخول الى الملعب بانتظار بابا سامي الذي كان يتوجه مشيا الى السرايا ..وحينما يخرج نبدأ بالتصفيق بكفوفنا الغضة فيبتهج ويخرج من جيوبه المخشخشة النقود ( من فئة العشرة قروش وربع الليرة ونصف الليرة وكانت تعتبر ثروة في ذلك الزمن ) ويبدأ بتوزيعها علينا . بعد الظهر يطلب من الحارس ان نروي الحكايات لبعضنا البعض في زوايا الملعب بصوت خافت لان بابا سامي نائم وجزاء هدوئنا توزع علينا النقود مرة اخرى .

سامي بك ( ابو الفقرا ) الذي فجروا له منزله في بداية احداث 1958 بداعي انه لا يحب مذاق القومية العربية ..؟! ولا يذوب حبا بعبد الحكيم عامر وعشيقته برلنتي عبد الحميد ( وفق تقرير السفير المصري في لبنان حينها عبد الحميد غالب ) هو ابن العائلة التي اخترعت القومية العربية .

اما الرئيس الراحل تقي الدين الصلح ملك الصحافة غير المتوج فكان من نصيب صديق الطفولة والشباب نهاد المشنوق وزير الداخلية الحالي الذي كان يروي لي الطرائف الصلحية والحوارات الشيقة التي كانت تدور في الصالون الذهبي .

منح بك ..تقطعت بي سبل الذكريات ..وانت صاحبها بامتياز ..وكانت حكاياتك لا تنتهي .

عزائي لنفسي وللعائلة الكريمة وجميع الاصدقاء الذين اختلفوا على كل شيء سوى حبك واحترامك .

أطال الله بعمر عبد الرحمن بك الصلح وجميع افراد ال الصلح من السادة الصيد والغر الميامين .

الكاتب ةالأديب عماد عبدالله
الكاتب ةالأديب عماد عبدالله


تعليقات: