ما بقي من عقيدة بوش: عن هذا السجال بين الرئيس الأميركي و... وئام وهّاب

الوزير السابق وئام وهّاب
الوزير السابق وئام وهّاب


يقترب الرئيس الأميركي من آخر عهده، ويتمنّى حلفاء بوش في لبنان لو أن التاريخ يتوقف. يتمنّون، ومعهم إسرائيل، لو أن بوش يصبح رئيساً أبدياً، على غرار الزعماء العرب على اختلاف أشكالهم وألقابهم، وكلّها مزيّفة. ومعركة الترشيح الرئاسي في كلا الحزبين هنا على أشدّها، والسنة الأخيرة من عهد رئيس ممدّد له تُحسب ضده، لا له. فهو يوصف وفق المصطلح السياسي الأميركي بالبطة العرجاء: أي إنه يفتقر الى الرصيد السياسي الذي يحتاج إليه أي رئيس لفرض الهيبة، كما هو عاجز عن التقدم بمشاريع هامة جديدة (ومصطلح «البطة العرجاء» مأخوذ من عالم البورصة البريطاني للإشارة الى من يعلن إفلاسه).

كذلك يعاني الرئيس الاميركي الحالي مشاكل إضافية لم يعانها من سبقه في المنصب: فهو، خلافاً لريغان وكلينتون، يعاني نسبة تأييد قياسية في تدنّيها (نحو 29% في آخر استطلاع) كما أنه سيورث خلفه، جمهورياً سيكون أو ديموقراطياً، حرباً شاملة لا تحوز تأييد الرأي العام الأميركي. ومرحلة خطة «الاندفاع» لم تثمر، بالرغم مما يسمّى طبخ الارقام لخداع الرأي العام. أما الدعوة الى مؤتمر حول الشرق الاوسط في الخريف فهو يدخل في إطار محاولات تحوير الأنظار عن متاعب داخلية.

عبثاً يحاول هذا الرئيس أن يدخل التاريخ من باب غير باب الفشل والتعثر والجهل. ومن المتعارف عليه في السياسات الرئاسية أن يلجأ الرئيس المتورّط في فضيحة أو في متاعب داخلية الى الهروب نحو السياسة الخارجية التي تعطي هالة معينة للرئيس. هكذا هرب ريتشارد نيكسون من فضيحة ووترغيت الى مصر حيث رتب له أنور السادات استقبالاً شعبياً (ولاقاه أحمد فؤاد نجم بتلك القصيدة الشهيرة «شرفت يا نكسون بابا يا بتاع الووترغيت»). واستفاق بيل كلينتون على مشاكل الصراع العربي الاسرائيلي عندما غرق في فضيحة مونيكا لوينسكي في آخر عهده. ربما يتمنى هذا الرئيس أن تنصرف الصحافة الى تغطية فضيحة جنسية له لأن تغطية الحرب الكارثية في العراق باتت أشد إيلاماً. لعل بوش يحسد كلينتون على نوعية مشكلته.

أهمية وطن الأرز

أما في لبنان، فهم لا يزالون يعتمدون على تطمينات هذا السفير الاميركي الذي وعدهم بأن اهتمام بوش بلبنان لن ينقص بعد هزيمته الشنيعة في انتخابات الكونغرس الاخيرة. يتحدث هذا السفير مفترضاً جهلاً لبنانياً بقواعد السياسة الداخلية الاميركية، وحتى بقوانين الجاذبية. وأهل السياسة في لبنان، سرعان ما ينقادون وراء تطمينات ممثل دولة الوصاية، كائناً من كانت، وهي اليوم الولايات المتحدة.

وهناك تاريخ طويل للمبالغة اللبنانية في أهمية وطن الأرز والبلوط في حسابات السياسية الاميركية الخارجية. قد يكون بدأها شارل مالك (هناك جادة تحمل اسمه في بيروت، والنعم). وما يعلم اللبنانيون واللبنانيات عن شارل مالك هو نتاج نفس الانتاج الاسطوري الخيالي الذي يسم الفكر والسياسة والثقافة في لبنان. ويفخر اللبنانيون (واللبنانيات) بدور شارل مالك في كتابة شرعة حقوق الانسان بإشراف أميركي مباشر. وقد صدر كتابان في السنوات القليلة الماضية عن هذا الموضوع ويمكن الجزم بمبالغة الرواية اللبنانية عن دوره في كتابة تلك الشرعة التي تنسحق تحت أحذية جيش الاحتلال الاسرائيلي (وتحت أحذية الجيوش العربية). كان شارل مالك يطمح لأداء دور بالنيابة عن الولايات المتحدة، كما انه شبّع مشروع نصه الاول بأفكار يمينية ومسيحية متطرفة ما لبث أن رفضها الآخرون، بسرعة. ومن المعلوم أن شارل مالك كان خطيباً في ندوات وحلقات التنظيمات اليمينية المتطرفة (المعادية للشيوعية) في الولايات المتحدة في الخمسينيات. وصاحبكم مالك كان يعتقد أن خدماته ضد الشيوعية ستُقابلها الحكومة الاميركية بعرفان الجميل، لكن آماله خابت في حرب 1958 عندما اختارت حكومة ايزنهاور التفاهم مع عبد الناصر تاركة الحكم الشمعوني للغضب الشعبي. كان شمعون ومالك يظنان أن إنزال المارينز كان من أجل التمديد. وهناك جانب مجهول عن شارل مالك لم يظهر بعد في الصحافة اللبنانية. فمذكرات أبا إيبان (وكتب أخرى عن تلك المرحلة) كشفت النقاب عن صداقة بين ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة وممثل الدولة اللبنانية العليّة. كان إيبان ومالك يتبادلان النكات والملاحظات الساخرة من الموقف العربي، في الوقت الذي كلفت فيه الجامعة العربية شارل مالك بتمثيل الموقف العربي في الأمم المتحدة. ولا يزال الوطن اللبناني مفعماً بالفخر بدبلوماسية شارل مالك.

استمرت المبالغة اللبنانية السياسية والشعبية في تقدير دور لبنان في مخطط السياسة الخارجية الإجمالي. وقد فاق اعتداد أمين الجميّل بدعم إدارة رونالد ريغان كل ما سبقه من آمال عقدت على دعم أميركي لهذا الزعيم اللبناني أو ذاك. كم يبدو أمين الجميّل (أو «الحسون» كما كان أخوه الأصغر يسمّيه غياباً) صغيراً في السياسة عندما نتذكر تهديده لدمشق (من واشنطن) كما نتذكر قول صائب سلام بعد لقائه برونالد ريغان (مبعوثاً من الجميّل) إن الاخير لا يتراجع أبداً. ثم ما لبث هذا الأخير أن تراجع، وهو من أكثر الرؤساء الاميركيين شعبية في التاريخ الاميركي المعاصر. لم يتراجع ريغان تعففاً أو تمنعاً عن استخدام القوة العسكرية ـــــ وقد استخدمها بإفراط في قصفه للجبل والضاحية (لا ندري إذا كانت تلك المواجهة من جملة اعتذارات وليد جنبلاط في رحلاته الاعتذارية الى العاصمة الاميركية)، بل بسبب تنامي المعارضة الشعبية لحربه في لبنان الى جانب أمين الجميّل في حرب أهلية لم يفهمها هو، ولم يفهمها الشعب الأميركي آنذاك.

الفيلم نفسه

أما اليوم، فيعيد التاريخ نفسه، وكأننا لم نشاهد العرض الأول للفيلم نفسه. حلفاء أميركا في لبنان يظنون أن هذا الرئيس سيخوض حروبهم هم، ومن أجلهم هم. وهم يظنون أن الاهتمام الاميركي (الخطابي) بهم وبثورة «الأرز» ينطلق من إعجاب بهم وبقضاياهم. ينسون أو يجهلون ـــــ لا فرق ـــــ أن السياسة الاميركية ليست محكومة فقط بتداول السلطة بين الادارات («سلطانهم دِول» كما قال علي بن أبي طالب إلا في السلالات العربية طبعاً حيث الحكم أزلي وهذا ما يعنيه بوش في تحذيره من أية محاولة لتغيير حكومة السنيورة فهو يريدها أبدية هي الأخرى)، وإنما تخضع لمصالح أميركية سياسية واقتصادية وانتخابية متغيرة.

يعتمدون على دعوات تأتيهم من واشنطن. هم الزائرون وغيرهم الكثيرون من الراحلين عن السلطة: أُتي بهم الى واشنطن لإظهار دعم فارغ لهم. حتّى أحمد فتفت ـــــ ما غيره ـــــ جاء الى واشنطن لتنسيق شؤون الكرة الطائرة والاطفال والشباب. يأتون الى واشنطن كما كان محمد دحلان يأتي في زيارات دورية قبل أن يخذله شعبه في غزة. ويظهر سوء الفهم اللبناني للسياسة الأميركية أكثر ما يظهر في تفسير التصريحات الاميركية الرسمية المتكررة عن لبنان. ونتذكر كيف كان بوش يذكر لبنان يومياً في خضم «ثورة» الأرز والكستناء، لكن إشاراته الى لبنان تقلصت الى حدود دنيا. خذله شعب 14 آذار وخذلته الآلة الحربية الإسرائيلية. كان من المفترض أن يقوما (فرادى أو مجتمعين أو حتى وفق نظرية «صاقبت») بتجريد حزب الله من سلاحه. هذا ما صرّح به سعد الحريري بعد أسابيع فقط من اغتيال والده وإن كانت تلك الإجابة قد اقتطعت من نص ترجمة قريطم الرسمية الذي نشر في جريدة المستقبل (الغارقة في التهكم من انتحار ومآسي الخادمات السريلانكيات في لبنان). كان بوش يسعى جاهداً من أجل تقديم الوطن الصغير والهامشي كنموذج ناجح لعقيدة بوش، بعد فشل النموذج المقلق في العراق. طبعاً، ظل بوش متمسكاً بقشة فؤاد السنيورة. لا يستطيع تحمّل أعباء فشل ذريع آخر، فأُدخل لبنان في لعبة التجاذب الاقليمي والدولي وفق حسابات لا علاقة للبنان بها. لكن لبنان كان دوماً يخطئ في مساواته بين استغلال الآخرين للبنان وبين الاهتمام بلبنان وقضاياه، هذا إذا اتفق شعب لبنان عليها، وهذا من المستحيلات.

وتوالت التصريحات والخطب الاميركية عن لبنان، وتلك التي تحتوي تهديدات لسوريا أو لإيران أو للاثنين معاً. تهزج بتلك التصريحات صحيفتا النهار والمستقبل بصورة خاصة. تبرزهما على الصفحة الاولى في رسالة لخصوم الداخل. لكن فات النهار والمستقبل ملاحظة علامة دائمة في السياسة الاميركية: فالتصريحات المتكررة عن لبنان كانت تعويضاً عن أعمال محددة أو حروب تحريرية من أجل حلف حريري ـــــ جنبلاط ـــــ جعجع، لا إشارة الى ما سيلي من أعمال. ففي غياب أعمال وأفعال محددة، لا يبقى إلا التصريحات والاقوال، وهي مفهومة في فراغها في أميركا، لكنها تغش حلفاء واشنطن في بلادنا. طبعاً، لا يمكن التغاضي عن أعمال (عسكرية ومالية واستخبارية وسياسية) سرية وعلنية قامت بها الادارة الاميركية (وتسرّبت الى الصحافة هنا) من أجل تدعيم حكومة فؤاد السنيورة دام ظله (يعاقب قانون أميركي جديد كل من يشير الى فؤاد السنيورة من دون إلحاق عبارة «دام ظله» ـــــ والقانون هو القانون في بلاد القانون وغوانتانامو). لكن آمال وليد جنبلاط بشن بوش حرباً تحريرية من أجل تدعيم سلطانه في الإمارة الدرزية لن تتبخر حتى اليوم الأخير من إدارة بوش، وسعد الحريري لا يزال يظن أن الصداقة النبيلة (المنزّهة عن الهوى والدفعات النقدية) بين والده وبين جاك شيراك ستدفع ببوش وحلفائه الغربيين الى قلب النظام في سوريا.

سيكتشف فريق الولاء الاميركي في لبنان، عاجلاً أو آجلاً، ما اكتشفه من قبلهم كميل شمعون وأمين الجميّل. سيكتشف هؤلاء أن الادارة الاميركية لا تقرن القول بالعمل إلا إذا تعلق الأمر بمصالحها هي. صدّق وليد جنبلاط المغتبط بحلفه الجديد مع بوش وعود بوش وكلامه عن ضرورة التغيير الديموقراطي (كان هذا قبل سنتين قبل أن يتوقف الكلام الاميركي عن الديموقراطية). دارت الأرض بوليد جنبلاط في لقاء الخمس عشرة دقيقة مع بوش. كانت أكثر من كافية. قد تكون صورة لبوش تجاور صورة أخرى للملك «الرجل الرجل». ظن فريق 14 آذار المتحالف مع أنظمة الحكم الفاضلة في الأردن ومصر والسعودية، وهي أنظمة عريقة في ديموقراطيتها، أن الخطاب الاميركي سيؤدي الى تخلصهم من عدوهم في دمشق ـــــ هذا العدو الذي نصّب رفيق الحريري في سدة رئاسة الوزراء لأكثر من عقد من الزمن. كان قادة 14 آذار يأملون أن يفعل لهم جورج بوش ما فعل لأحمد الشلبي، الذي لم يفز بمقعد واحد في آخر انتخابات في

العراق.

لكن بوش شعر بأن المزيد مُتوقع منه. فبدأ بإصدار قرارات رئاسية، وهي شبيهة بالفرمانات السلطانية في العهد العثماني. قرر بوش أن يعاقب بالمنع أو بالسجن (لمن تطاله يده) كل من تسوّل له نفسه معارضة حكومة السنيورة الأبدية. وكان بوش قد سبق القرار المذكور بتسمية بعض اللبنانيين الذين لحقهم قرار المنع من دخول هذه البلاد. وكان لافتاً أنه سمّى بعضاً من هؤلاء، وفي التسمية آثار واضحة لكيدية لبنانية، وهذا ما عناه نبيه بري عندما وصف القرار المذكور بـ«اللبناني». وهل هناك من يظن أن بوش أو حتى ديفيد ولش يعلم من هو وئام وهاب أو ناصر قنديل؟

وهكذا، دخل بوش في سنته الاخيرة في سجال مع وئام وهاب، وكان السجال لمصلحة الاخير. وكانت بصمات وليد جنبلاط واضحة أيضاً على بيان صادر عن البيت الابيض أثناء واحدة من زياراته الاعتذارية الى أميركا، عندما حذرت الادارة الاميركية من مغبة معارضة حكومة السنيورة الغالية. قد تكون إدارة تشيني عرضت خدماتها على الحليف اللبناني الجديد، ولم يكن متيسّراً أكثر من ذلك البيان. ماذا تفعل للذين يتوقعون من جورج بوش أن يحسم لهم أمر ثورة الأرز والبلوط، وأن يخلصهم من خصومهم. ودوافعهم، على ما نسمع، هي بالفعل ديموقراطية، إذ إن التخلص من النظام السوري يسمح بإتمام إنشاء الديموقراطية في طول العالم العربي وعرضه. ومشيخات النفط تعارض كل نظام لا يتماشى مع تطلعاتها الديموقراطية والمدنية. وهي طبعاً سبّاقة في إحقاق حقوق المرأة، وهذه الحقوق مهمة جداً في شعارات دوري شمعون وسعد الحريري.

الأسبوع الفائت، بادر أعتى الصهاينة في الكونغرس بمشروع قرار كلامي يدعم، للمرة الألف، حكومة السنيورة ذات الأيادي البيضاء على السياسة الاميركية في المنطقة (إلا إذا اعتقدنا بأن الهيام الأميركي بالسنيورة هو بريء في نوعه). لكن صاحَبَت هذا القرار شتائم مقذعة من المتطرّف غاري أكرمان (مؤلف القرار المذكور). من يدري. قد يمنّ ثوار 14 آذار عليه بدرع الأرز أو بدرع الفتوش (وهو أرفع مرتبة في شهر الصيام).

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: