أضع حياتي كلّها في لوحاتي

لا يوجد فنان في القرن العشرين عرف كيف يُعبّر في لوحاته عن مأساة الوجود (التراجيديا) بهذا الشكل الواضح والجليّ كالفنان الإنكليزي «فرنسيس ب
لا يوجد فنان في القرن العشرين عرف كيف يُعبّر في لوحاته عن مأساة الوجود (التراجيديا) بهذا الشكل الواضح والجليّ كالفنان الإنكليزي «فرنسيس ب


لا يوجد فنان في القرن العشرين عرف كيف يُعبّر في لوحاته عن مأساة الوجود (التراجيديا) بهذا الشكل الواضح والجليّ كالفنان الإنكليزي «فرنسيس بيكون». هذا الكلام لا يشتمل على الوجه الدراميّ للشكل التجريديّ للحياة الإنسانيّة، أو إبراز حدث طارئ يحصل مع أي فرد في حياته اليوميّة بقدر ما هو الشعور العميق الذي يُمثّله الكائن الحيّ بشكله الفرديّ والحميم.

إنّ إظهار هذا الشعور المعيش جاء في أعمال الفنان بيكون بطريقة مأساويّة عنيفة. هذا المعنى، أو الاتجاه، المأساويّ للكائن، الذي لا تشترك به سائر الحضارات، هو محصور فقط بالإنسان الذي يحيا في أوروبا في مرحلة الحداثة، يُفسّره بيكون بطريقة محسوسة واقعيّة تخترق الوجدان بصدقها، ويحوّلها إلى حقيقة ثابتة ومؤثّرة. بالأحرى، إنّ الجانب الموضوعيّ للحياة بالنسبة إلى الفنان هو مظهر لا يُمكن تحويله إلى مُعطىً آنيٍّ وواضح إلا عبر فن التصوير. في هذه الخاصّية الملموسة للوحة، يُضاف إليها الخاصيّة اللازمانيّة، تتسجّل دراما الوجود الذاتيّ الخاص في بعده المأساويّ. هذا التفسير للمشاعر المربوطة بحياة كلّ كائن إنسانيّ، هو مزيج من الطاقة المتفجّرة وفقدان الأمل إلى درجة الهستيريا، هو أكثر صدقاً وحقيقة من أيّ حقيقة وجوديّة. يذهب بيكون بكليّته الذاتيّة إلى أعمق أعماق الإحساس العميق للمشاهد.

نقاط

قبل محاولة تناول تجربته الفنيّة سنتوقف عند بعض النقاط في مسيرته الحياتية علها تُلقي الضوء على بعض الأمور الفنيّة في أعماله.

وُلد هذا الفنان في 28 ت1 من عام 1909 في دبلن. هو الثاني بين أخواته الخمسة. والده «إدوارد» كان سلطويّاً وعنيفاً كونه من قدامى العسكريين في الجيش الإنكليزي قبل أن ينتقل إلى تربية الخيول. والدته «ونيفريد» تصغر أباه بعشرين عاماً، وتختلف عنه بدماثة خلقها وثقافتها وانفتاحها الاجتماعي وحيويّتها.

عانى من مرض الربو في طفولته ما منعه من متابعة دراسة منتظمة في المدرسة. كبر بيكون في محيط تمتع فيه بحرّيّة وعانى من الوحدة، ترقّنت حياته بإقامة متواترة عند جدّيه اللذين امتازا بغرابة أطوارهما وحبّهما للحياة.

وعى في العام 1925 ميوله الجنسيّة المثليّة، أضاف هذا الشيء أبعاداً لشخصيّته المريضة. كان يبلغ من العمر ستة عشر عاماً حين رآه والده مرتدياً ملابس والدته الداخليّة، فطرده من المنزل.

تنقل بين عدّة مدن وأمكنة في انكلترا قبل أن يزور باريس عام 1927، ويدرس اللغة الفرنسيّة ويعمل في الإعلانات والديكور لتحصيل معيشته. زار هناك معرضاً لبيكاسو ترك فيه أثراً كبيراً.

عاد فيما بعد إلى لندن حيث شارك عام 1933 في أحد المعارض بلوحة «الصلب» التي اشتراها أحد جامعي الأعمال الذي أوصاه على أعمال أخرى لنفس الموضوع. كتب عنه حينها الناقد الإنكليزي «هربرت ريد» في أحد الكاتالوغات الفنيّة. وفي العام التالي أقام معرضاً فرديّاً وهو الأوّل في مسيرته الفنّيّة. إلا أنّ الفشل قاده إلى ترك التصوير وتلف جزء كبير من أعماله الفنيّة.

عام 1936 كان أيضاً محطة مهمّة في حياته حيث برز فيه عدم رضاه عن أعماله، وتشاؤمه بعدم نجاحها، مدعّماً بحادثة إبعاده عن «المعرض العالمي للسورياليّين» بسبب انتقاده لهذه الحركة الفنيّة.

شارك بعد ذلك بعدّة معارض جماعيّة. وقد عرفت سنتا 1944- 1945 انطلاقته الفنيّة الحقيقيّة، وثباته الفنّيّ حسب تعبيره، نفّذ خلالها عمله الثلاثيّ «الدراسات الثلاث...» وأيضاً عمله «شخص في منظر طبيعيّ» الذي استخدم فيه صورة فوتوغرافيّة للشخص الممثّل في العمل.

عام 1949 عرف ظهور سلسلة الرؤوس الستة حيث إحداها «الرأس 6» التي تُبيّن للمرّة الأولى صورة بابا الفاتيكان مأخوذة من الوجه الذي رسمه الفنان الأسباني «فيلاسكيز». نفّذ بعد ذلك، في العام 1951، بورتريه لصديقه الفنان «لوتسيان فرويد» (أشرنا إلى ذلك في مقال سابق عن هذا الفنان) الذي رسمه بدوره، علماً أنّ الفنانين كانا صديقين حميمين مثليّين.

وفي العام 1952 نفّذ أعمالاً لمناظر طبيعيّة استوحاها من أعمال الفنان الهولنديّ «فان غوغ». شارك فيما بعد، في السنوات التي تلت، بمعارض جماعية في الخارج في أميركا وإيطاليا وألمانيا والبرازيل وموسكو وغيرها. وفي العام 1987 أقام في أحد الغاليريهات الباريسيّة «لولينغ» معرضاً لأعماله، تسنّت لنا رؤيته أثناء وجودنا حينها في باريس.

توفي في 28 آذار من العام 1992 في مدريد بأسبانيا إثر نوبة قلبيّة.

الخاصّية المأساويّة

إذا كانت لوحة بيكون أخذت تحتلّ مركزاً مهمّاً في ساحات القرن العشرين فذلك يعود إلى عدم تمثيلها لحدث خاص أو لظاهرة في الحياة أو لقصص واقعيّة، علماً أنّها تجد جذورها الحصريّة في الحياة الواقعيّة المجرَّبة تحت شكلها الأكثر حلميّة في واقع العمل العرضيّ الذي يتمظهر في حقيقة العمل الفنّيّ، متّخذاً شكلاً ما.

إنّ لوحة بيكون تذهب بعيداً جداً في مسيرته الفنّيّة وتهدف إلى فهم الطبيعة الإنسانيّة ووظيفة مظهرها الفيزيائيّ وتمظهر معانيها. يستعمل بيكون حياته الخاصّة في رسومه. الحياة بالنسبة إليه، تقوم على استعمال الحواس الخمس وعلى مجموع قواها. كلّ لوحة هي ثمرة الصدفة، وهي مُعرّضة للنجاح والفشل أثناء تنفيذها. حكم مُطلق يقوده غالباً إلى تدمير عدّة أعمال وتخزين أخرى، والقيام باختيار عديم الرحمة لمراحله، أو لحلقاته، حيث يبحث فن التصوير عن فهم المجهول.

لا نجد في صوره، التي تنتمي للوجود، أي عنصر يسمح بقراءتها كنتاج ظاهريّ لحدث ما، بل على العكس من ذلك نلاحظ قدرته على مسك الحسّية الأكثر عمقاً والأكثر سواداً للفرد حيث لوحته صادقة وحقيقيّة إلى حدّ بعيد وغير مألوفة.

لوحة بيكون هي ضروريّة لفهم روح القرن العشرين. لا يوجد فنان استطاع أن يُعبّر عن المأساة الخاصّة بكلّ فرد بعد الحرب العالميّة الثانية ضمن مجتمع منتصر كما حصل معه، ذاهباً بشكل لا يُقاوم نحو تطوّر لا يستطيع أن يوصل أو يُطفئ وجوهها الأكثر قتامة. مع ذلك، فإنّ هذا الموضوع ليس من ضمن نيات الفنان الأوّليّة. إنّ أعماله لا تعكس أيّ شيء من حياته الخاصة بشكلها المباشر. عمله فعلٌ تصويريٌّ مُتّصفٌ بالشراسة والتطرّف وفقدان الأمل. هو ليس خياراً جذريّاً مقرّراً سابقاً. هذا الجانب يُعطي خاصّيّة مأساويّة لصوره، ويُحوّلها كلّها، مستقلة عن شكلها، إلى البعد الماساويّ للوجود. هذه الشراسة تعبّر عن المأساة. لهذا السبب نجد بيكون فناناً ضرورياً للإنسان الحديث صنع لنفسه وعياً. انطلاقاً من عمله، يجد الإنسان المعاصر نفسه فجأة قادراً على معرفة هذا الخليط من العنف، والقلق، والخوف من المقدّس، والرغبة، وفقدان الأمل، والفشل، والبحث عن الحبّ، والرذالة الحيوانيّة الحاضرة فيه... هذه المادّة تصبح بشكل ضروريّ مكوّناً للجميل.

التعبير عن الخوف

«ثلاث دراسات لصور على قدم الصلب»: سنحاول الإطلالة المختصرة على تجربته من خلال الوقوف عند عملين اثنين: «ثلاث دراسات....» و»تصوير 1946». بدأ بيكون مسيرته الفنّيّة بعمل تحت عنوان «ثلاث دراسات لصور على قدم الصلب» عام 1944 Trois études de figures au pied d`une crucifixion علماً أنّه بدأ بالرسم منذ ما يزيد عن العشر سنوات أنتج خلالها أعمالاً جديرة بالملاحظة، واشترك بمعارض جعلته مشهوراً.

يمتاز هذا العمل «ثلاث دراسات...» بتعبيريّة قاسية. مع ذلك هو لا يُمثّل أيّ فعل عنيف. بل يُمكننا القول إنّ فيه عنفاً مُبهماً غير مُحدّد، غير إنسانيّ يظهر في فضاء - زمن لا نعرف عنه شيئاً. ومن جهة أخرى، هو غريب عن اللوحة، يُشير إلى رعب الأشكال وأحزمة الألوان التي تحيط به. توزّع التأليف على ثلاث لوحات بأحجام متساوية، مربوطة ببعضها بشكل ثلاثيّة Triptyque. سيستعمل الفنان هذا التوزيع كلّ مرّة يحسّ فيها بأنّ موضوعه يفرض عليه ذلك. اللون البرتقاليّ الموزّع على الثلاثيّة يصفع المشاهد بقوّة لدرجة أنّه لا يستطيع قراءة الأشكال الممثّلة حسب الطريقة التقليديّة للمنطق العقليّ. شعور وحيد يُقرّب الاشخاص المنفصلة والمعزولة كلّ في لوحة: هو التعبير العنيف، المؤلم والمُفزع للضحايا، لشهود على فعل ينتج هذا الشعور بالمأساة الشنيعة. العناصر الإنسانيّة والحيوانيّة للأشخاص، أو للعناصر، مختلطة في نفس التشويه، هي منيعة على الاختراق ومبهمة لا تسمح لنا بتمييز ايّ دلالة ظاهرة. حتى أنّ الإنسان في لوحته لا يُمكن تمييز جنسه أو انتمائه الجنسيّ (ذكر أم أنثى) ربّما يعود ذلك إلى مثليّته. يُذكّرنا هذا بأجساد أبطال لوحات صديقه وزميله الفنان «لوتسيان فرويد» التي تتشابه دلالاتها وحضورها الأنثوي والذكوريّ (هو الآخر كان مثليّاً حسب ما ذكرته الدراسات). إنّ كلّ محاولة تهدف إلى التعرّف على مورفولوجيا الجسد في أعمال بيكون يكون مصيرها الفشل، ولا تلبث أن تتوقف عن محاولتها. بالنسبة لبيكون، اللوحة ليست حقلاً لتقليد الواقع الظاهر، بل هي فعلٌ تلقائيّ ومصطنع ينبثق من الحاجات الأكثر عمقاً وغريزيّة للإنسان. فعلٌ ناتج عن قوّة عميقة، متوحّشة للتعبير. إنّ تجاوز وتجميع الخليط الرماديّ للأجساد مع الألوان الأخرى يُعبّر في الثلاثيّة عن المردود الممزّق للصرخة من دون أيّ اعتبار لطبيعتها ومصدرها. هي صرخة حيوانيّة أكثر منها إنسانيّة، فيها تطرّف بحيث لم تعد تعي حدودها التعبيريّة. هذه الكتلة المعقّدة المتعدّدة، معارضة للانفعالات وللصور الاستحواذيّة التي يُحدثها. مادّته الأوليّة هي التعبير الإنسانيّ الوحيد والجوهر اللاواعي الذي ترتاح عليه. مع ظهور اللاوعي في التصوير، فإنّ الوجود اللادال للفرد يأخذ على عاتقه بعد التجربة الوهميّة (الأسطوريّة) لحالة تحوّل التقلبات المتعدّدة والحلميّة لمسار الإنسان المأساويّ. المسطّح البرتقاليّ أعمى لدرجة أنّ الفضاء مُخترق بمستوى نفسيّ أكثر منه منطقيّاً. الصراع أوصل إلى هذا التصوير الفنّيّ أظهر قطعاً من الخطوط، من هندسة مُجزّأة، مُقطّعة أرادت تنظيم الفراغ. جاءت الصورة، أو الشكل، مقياساً ومرجعاً مركزيّاً. نجد في هذا العمل مظاهر أشكال تأتّت من سابحات بيكاسو في عشرينيّات القرن الفائت. كان بيكون قد التقى مع ابداعات بيكاسو في مساره التخيّليّ، كأثر سابق للوجود، أزليّ «هيكل شكليّ» حسب قول بيكون للتعبير عن مفهومه الخاص للمنابع التي ينهل منها في تاريخ الفن. هناك عدّة شواهد في العمل تقود المشاهد نحو ذاكرة تاريخيّة لتذكيره بالرّعب الناتج عن مأساة الكارثة التي يتحمّل الإنسان وزرها في الحرب العالميّة (نفّذ العمل عام 1944 بعد الحرب العالميّة الثانية). مع ذلك فإنّ الموضوع الحقيقيّ للعمل هو التعبير عن الفزع بحدّ ذاته، الذي يعلو على كلّ سبب نوعيّ وعابر. من هذا الفزع يمسك بيكون، من خلال قوّة التصوير، التعبير الأكثر عالميّة: هو يجسّد صرخة.

«تصوير 1946»

إنّ مستوى العنف التعبيريّ للوحاته المنفّذة بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت في عمله «تصوير 1946» Peinture 1946، زيت وباستيل على قماش (بقياس 197.8× 132.1 سم). من خلال وحي مُقلق ومتطرّف أظهر في العمل عناصر لاذعة وصادمة مجهولة حتى ذلك الوقت. يمكن لهذه الصيغة التهكميّة أن تكون أكثر قدرة وأن تتحوّل إلى وسيلة تعبيريّة معاودة في عمله: سخريّة سوداء، غالباً ما تكون خارج الاقتراح، مُضحكة، نابية ومُحتقرة. فم الوحش المكشّر (بطل اللوحة) يقوم بفعل غير معروف، في طريق وسطيّ بين الضحكة الصفراويّة وتعابير شخص مُرعب، شخص استحوذ عليه شيطان أعمى. هذا العمل لا يُقدّم لنا عناصر يُمكنها أن تساعدنا في إظهار بعض المعاني. تنفيذ هذا العمل كان مناسبة لسلسلة من التغييرات التي لحقت به: بدأت مع نيّة الفنان تنفيذ منظر طبيعيّ، وخلال قيامه بهذا الشيء فرض عنصر قرد الشمبانزي نفسه في حقل من العشب الذي يُحيط به. تحوّل هذا الشمبانزي فيما بعد إلى طائر كاسر. في النهاية، امتزج الجميع في اللوحة النهائية باختفاء الحقل والحيوان ولم تبقَ إلا نتفٌ أوصلتنا إلى أفكار أخرى أو انطباعات عصيّة على حلّ ألغازها. الخاصيّة المركزيّة للصورة الرئيسة، وجهها الجبهيّ يقويّان دورها كبطل للمسرحيّة. مجموعة من التفاصيل (الخلفيّة التي تشبه الشرنقة، الانتصار المخيف للهيكل العظميّ الموضوع في المسطّح الثاني، الدرابزين الذي يعزله عن العالم الخارجيّ) مجموعة من الشواهد غريبة الشكل ومخيفة شوّشت هويّتها، وزادت من الإحساس من وجودها بمواجهة سلطة مستبدّة ذات تأثير سيّئ. فضاء العمل مرتّب حسب رسم منظوريّ خاطئ، مختلّ التوازن بإفراط كثيف من اللون ومبالغة بالحركة التصويريّة (ضربات الريشة) التي شكّلت الكتلة وأقامت حول الشخص فضاءً دائريّاً إلى حدّ ما. من خلال هذا التنسيق خارج المعيار يُصبح الشخص ضخماً، زاد من هذا الإحساس كتلة الثور المذبوح الذي يرمي الشكل باتجاه الخارج، ويُشرّب درجات اللون في تناقضات قويّة مع المزيج اللونيّ للحم المفروم، لمسات من الدم الأحمر (أحمر الدم) ومناطق بيضاء، صفراء وأزرق شاحب بمساحته الممتدّة على الشكل الطوليّ للعمل. يكمن في هذا العمل جمال التنفيذ التصويريّ (اللونيّ)، مُعطىً موصولاً بكليّته بتحويل الإحساس إلى تعبير. عبّر بيكون عن ذلك بوضوح بقوله: «فجأة، بدت لي الخطوط التي وضعتُها دالة على شيء مغاير كليّاً للإيحاء المنبثق من اللوحة». موضوع اللوحة يختصر نفسه بمسألة الخطوط. العنوان، في الواقع، يفرض (كموضوع) مفهوماً عدميّاً نسبة لتمثيل ما. مفهوماً أكاديميّاً طالما أنّه يرجع لمجال الصياغة الفنيّة: «اللوحة»، كفعل تصويريّ، كشاهد (un indice) لإيهام المشاهد أنّ ما يوجد أمامه ليس وهماً بل تصويراً. لهذه الأسباب فإنّ معظم لوحات بيكون تحمل عناوين تجريديّة نسبة لتوضيح فعل. يقوم بيكون بمحاكاة أو تفسير أعمال فنّيّة من الماضي البعيد والقريب لكبار الفنانين (أعمال بيكاسو، ديغا، فان غوغ، سيزان، سوتين، فيلاسكيز، ميكال أنجلو) كمشاهد فطن وأصيل يستفيد من أعمال هؤلاء كمنابع إيحائيّة مُحلّلة إلى درجة الاستحواذ. كان مُحترفه مليئاً بصور لأعمال فنانين مأخوذة من كتب فنّيّة، وأبحاث مُعمّقة مكرّسة لفنانين كلّ على حدة. وكان بيكون قد قلّد، على طريقته الخاصّة، أعمال بعض الفنانين، يأتي على رأسهم فان غوغ. ما يُمكن استخراجه من أعمال هؤلاء الفنانين هي العناصر القاطعة التي يُمكن تسميتها «سرّ التصوير». بالنسبة لبيكون إنّ هذا السرّ «يكمن في الطريقة التي يُمكن إظهار الشكل من خلالها.... أعرف أنّه يُمكنها أن تظهر بعدّة أشكال، دعائيّ، مصوّر... لكن كيف يُمكن لهذا الشيء أن يبدو بحيث يُمكنكم إمساك سرّ هذا الظهور في قلب سرّ فنّ التصوير اللونيّ».

هو صراع عميق يولد بين هذين الشيئين اللذين يعيشان أثناء الخلق التصويريّ، ونعني بهما الظهور واللاظهور (غير المرئيّ). وهكذا، فإنّ إحساسات الوجود يمكن أن تكون محمولة بواسطة صور الجسم الحيوانيّ أو الإنسانيّ في حركتهما، مشابهة لأشكال قريبة من أعمال ميكال أنجلو، بالنهاية تعبّر عن الصورة الإنسانيّة الممزّقة إلى حدود الشفقة. أسباب عدّة في معظمها معقّدة يُمكنها أن تشرح لنا مواقف بيكون وتصرّفاته الفنّيّة؛ من هذه الأسباب هو خوف التعرّف، في العمل (اللوحة)، على خاصّيّة مقدّسة، غير مكرّرة، قريبة من المعبود. الفن إذن، يضطلع بدور ترقية الكائن البشريّ.

تعليقات: