ما يحصل في البقاع والشمال سيصدمكم!


منذ أربع سنوات بدأ تدفق النازحين السوريين إلى لبنان هرباً من الحرب الدائرة في بلادهم، ولحقتهم المنظّمات الدوليّة والمنظّمات غير الحكوميّة العاملة في مجال الإغاثة لمساعدتهم في تخطّي الأزمة والوقوف على حاجاتهم. مع دخول الحرب السوريّة عامها الرابع فاق عدد النازحين المليون، استفادوا من تقديمات هذه الجمعيّات من خيم ومساعدات غذائيّة وعينية ووسائل تدفئة ووقود، إضافة إلى خضوعهم لبرامج محو أمية وتوعية حول الزواج المبكر وتمكين المرأة...

لكن تحت عنوان "المساعدات" تحوّل النازحون إلى دجاجة تبيض ذهباً، وباتت منظّمات الإغاثة مزراباً للفساد والتنفيعات تستفيد من خلالها "مافيات إنسانيّة" بمبالغ طائلة.

مصادر التمويل

هناك مصدران أساسيان يموّلان المشاريع الإغاثيّة التي تطرحها المنظّمات والجمعيّات الدوليّة وغير الحكوميّة؛ UNICEF التي تعنى بالمشاريع الراعية لحقوق الطفل، وتقدّم المساعدات الماليّة والعينيّة في حالات الطوارئ، وتتابع كلّ ما له علاقة بالبنى التحتيّة وتأمين المسلتزمات اللوجستيّة، وUNHCR التي تقدّم المساعدات الطبيّة والأدويّة والمستلزمات اللوجستيّة وترعى المشاريع الخاصّة، إضافة إلى جهات تمويل مختلفة تستند إليها بعض المنظّمات مثل الحكومات وشركات وجمعيّات خاصّة.

مزاريب الفساد

بحسب المعلومات التي توافرت لـ"النهار"، تبدأ عمليّة "شفط الأموال" وفق حلقة منظّمة وموثّقة. تجري الجمعيّة دراسة ميدانيّة تحدّد بموجبها المستلزمات الأساسيّة لمشروع يستفيد منه النازحون السوريون، والميزانيّة المطلوبة لتنفيذه مع تقسيم أطر صرف الأموال وفق بنود. بعد موافقة الـUNICEF أو الـUNHCR على المشروع ورصد الميزانيّة المطلوبة، تغيّر الجمعيّة تقسيمات البنود لتوفير أموال طائلة تذهب إلى غير النازحين، والأمثلة كثيرة.

قدّمت إحدى المنظّمات غير الحكوميّة مشروعاً تربوياً يستفيد منه نازحو أحد مخيّمات الشمال، طلبت مليون ونصف مليون دولار أميركي لتنفيذه ضمن مهلة معيّنة، وقسّمت طريقة صرف الميزانية وفق بنود، 900 ألف دولار لشراء المعدّات اللازمة لتعليم الأطفال وتوزيع الكتب عليهم وتجهيزهم، و600 ألف دولار لاستئجار السيّارات والمكاتب، وتوظيف متخصّصين، وشراء حواسيب ومستلزمات المكاتب. بعد موافقة الـUNICEF على بنود المشروع، غيّرت المنظّمة البنود، لم توظّف المتخصّصين الذين ذكرتهم، بل كثّفت مهمات موظّفيها من دون زيادة رواتبهم. وبذلك نفّذت المشروع بأقل كلفة ممكنة، واستفاد القيّمون عليه من المبالغ الباقية.

مشروع آخر يُعنى بالتغذية والصحّة يستهدف أحد مخيّمات الشمال أيضاً، تقدّمت به إحدى الجمعيّات وطلبت مليون دولار لتنفيذه ضمن مهلة ستة أشهر. بعد أخذ الموافقة من الـUNHCR، لم توظّف الجمعيّة العدد الكافي لتنفيذه ولم تجلب المعدّات الكاملة له، مثل فلاتر المياه والصابون ومنتجات النظافة الأساسيّة. بدأ الموظّفون الموجودون تنفيذه منذ أربعة أشهر من دون حصولهم على المستلزمات كاملة، في ما تؤكّد المصادر أن الفساد يتمّ على مستويات عليا في المنظّمة.

مظاهر أخرى للإسراف

كما تبرز مظاهر الإسراف الفاحشة من خلال الرواتب الطائلة التي يحصل عليها بعض الموظفين الأجانب الذين يحتلّون المراكز العليا في أغلب الجمعيّات. يشكّلون 5% في بعضها ويحصلون على رواتب ومخصّصات موازية لرواتب 40% من الموظّفين. تبدأ رواتب هولاء من 8000$ إضافة إلى مخصّصات تشتمل على إيجار السيّارات وسائقيها والبيوت والغرف الفندقيّة، وتكلفة فواتير الكهرباء والمياه والهواتف والمازوت للتدفئة والبنزين، إضافة إلى أقساط أولادهم في مدارس خاصّة وغيرها من المصاريف.

كما تشير المصادر إلى أن كثيراً من هؤلاء يدخلون إلى الأراضي اللبنانيّة بتأشيرة سياحيّة لمدّة ثلاثة أشهر، ويعملون ويتقاضون رواتب باهظة ما يجعلهم يتهرّبون من دفع الضرائب على مداخيلهم للدولة اللبنانيّة. وما يثير التساؤل كيفيّة دخولهم مجدّداً إلى الأراضي اللبنانيّة بعد أيّام من انتهاء صلاحيّة التأشيرة الأولى بأخرى سياحيّة أيضاً، يستحصلون عليها من الأمن العامّ. مع الإشارة إلى أن أقارب أحد الضباط في هذا الجهاز يعملون في هذه المنظّمات الدوليّة.

ومن الأوجه الأخرى للفساد المستشري، طلبت إحدى الجمعيّات التعاون مع شركات متخصّصة، وبعد الحصول على الموافقة والميزانيّة المطلوبتين، أوكلت المهمّة إلى شخص واحد يفتقر إلى الخبرة في المجال المطلوب، ومثال على ذلك، موظّف أجنبي استقدم لتنفيذ مشروع بدلَ شركة متخصّصة، فحصل على 17000$ لقاء خدماته التي لم تتخطَ حدود المهام الإداريّة العاديّة.

فضلاً عن ذلك، تشير المصادر إلى سرقات فاقت نصف مليون دولار أميركي في منظّمة واحدة نتيجة بيع قسائم البنزين وصناديق الأغذية، ودفع رُشًا لمراقبي وزارة الشؤون الاجتماعيّة لكتابة تقارير كاذبة تفيد بتقديم مساعدات لم يحصل عليها النازحون، ورُشًا أخرى حصل عليها رؤساء بعض البلديات للتغطية على الوضع المأسوي للنازحين بسبب تجاوزات الجمعيّات وعدم قيامها بمهماتها، مثلاً، شراء جرّافة بقيمة 80 ألف دولار أميركي لصالح إحدى البلديات البقاعيّة لتمرير تجاوزات إحدى المنظّمات، ويستفيد منها رئيس البلدية عبر تأجيرها.

تراجع التمويل

وفي ضوء هذه التجاوزات تؤكّد مصادر داخل هذه الجمعيّات تراجع التمويل الدولي لتنفيذ مشاريع الإغاثة، ما اضطرّ إلى تخفيض عدد الموظّفين، وإلغاء برامج من ضمنها برنامج تربوي بدأ منذ ستة أشهر كان الموظفون العاملون فيه يتقاضون رواتبهم من غير القيام بأي عمل ميداني.

وتؤكّد المصادر عينها أن هناك مراقبين دوريين يرسلون لمراقبة كيفيّة تنفيذ المشاريع في مخيّمات البقاع والشمال، كما خفّضت المساعدات المباشرة التي تمنح للنازحين في المخيمات، أولاً بسبب أعداد كبيرة قدمت إلى لبنان للاستفادة من التقديمات فقط، أو لقيام البعض ببيع الفرش والأدوات المطبخيّة وأجهزة التكييف والـLCD التي تمنح لهم، أو نظراً لعمل البعض في مجالات تتنوّع بين الزراعة والبناء والاستفادة من المساعدات في الوقت عينه.

تدقيق لمحاصرة الفساد

تعير المفوضيّة أهميّة كبيرة لإجراءات وطرق صرف الأموال المقدّمة من شركائها، من خلال تفعيل المراقبة المنتظمة الداخليّة والتحقيق الدائم في كل الشؤون الإداريّة والماليّة. فهناك مدققو حسابات منتدبون منها على كلّ المشاريع، ومدققو حسابات تابعون للأمم المتّحدة، وآخرون مرسلون من الدول المانحة، بحسب ما تؤكّد الناطقة الإعلاميّة دانا سليمان لـ"النهار"، وتضيف: "تضمّ المفوضيّة وحدة لمراقبة المشاريع والبرامج ترصد بانتظام النفقات المحدّدة في الميزانيّة بغية تحقيق أهداف المشاريع في إطار زمني واضح. وهي تشرع في التحقيقات وفق الآليات القانونيّة في أي شكوى تصل إلى المفوضيّة، مع العلم أن الشركاء موجّهون للعمل وفق استراتيجيات ومناهج تحدّ من الفساد وتمنع حدوث أي تزوير".

وتتابع سليمان: "تلاحق المفوّضيّة حالات الفساد لما لها من تداعيات على ميزانيتها المحدودة. سابقاً واجهنا بعض الحالات، حاولت بعض الأطراف الاستفادة من البرامج، حقّقنا في الموضوع وتصدّينا للمشكلة وأوقفنا العقود معها. أمّا على مستوى اللاجئين، هناك لافتات وتعليمات تشير إلى أن كلّ خدماتنا مجانيّة، وهناك صندوق لتقديم الاقتراحات والتعليقات يحال مباشرة على الإدارة، كما يمكن اللاجئ أن يقدّم شكوى مباشرة إلى وحدة التحقيق في المفوضية".

تعليقات: