حقائق الثروة الضائعة من النفط والغاز

ترقيم البلوكات البحرية
ترقيم البلوكات البحرية


يحكى عن رجل فقير يعاني من ديون متراكمة، وأعباء مادية تثقل عليه رغد العيش وتفرق شتات عائلته للبحث عن الرزق والعيش بكرامة. فجأة، يعرف هذا الرجل أن بيته الصغير يعوم على كنز ثمين يؤمن له فرصة للثراء وسداد ديونه والتخلص من أعبائه ومعاناته، لكن اللعنات الشريرة تطارده وتهدد بضياع كل شيء.

هذا هو حال لبنان اليوم، فبعد الإعلان عن إكتشاف ثروة هائلة من النفط والغاز قبالة سواحله على البحر المتوسط، ها هي لعنة التاريخ والجغرافيا والمال والسلطة، عادت لتطل برأسها من جديد لتطيح بكل الآمال المعقودة على إستخراج واستثمار هذه الثروة الإقتصادية الوطنية في إعادة الإستقرار والسلام والعيش الكريم إلى ربوعه.

الغاز والنفط في حوض المتوسط

تقدر هيئة المسح الجيولوجي الاميركية وجود 122 تريليون قدماً مكعباً من الغاز الطبيعي القابل للإستخراج في حوض المتوسط (أي المنطقة الجغرافية التي تشمل المياه البحرية اللبنانية والفلسطينية وجزءاً من المياه البحرية القبرصية والسورية). وبعد مسح أكثر من 70% من مياه لبنان البحرية، تشير المعلومات المتوافرة إلى وجود ما يقارب 30 تريليون متراً مكعباً من الغاز الطبيعي و 660 مليون برميل من النفط السائل تحت مياهه الدولية، علماً أن المصادر الصحفية أفادت مؤخراً )ان هيئة إدارة قطاع البترول أنجزت منذ ثلاثة أشهر تقريبا، وبالتعاون مع مؤسسة فرنسية عامة تعنى بالبترول، خريطة المكامن النفطية، في المياه اللبنانية، والتي أفضت الى تقديرات أولية لمخزون الغاز والنفط في كل بلوك من البلوكات اللبنانية العشرة. وتشير التحاليل الأولية للمسوحات الزلزالية الثنائية والثلاثية الإبعاد، التي جرت للمنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة، ان الموارد المحتملة والإجمالية، مبدئيا، من الغاز على مدى 15 ألف كيلومتر مربع في المياه اللبنانية، هي 80 تريليون قدم مكعب غاز (80 ألف مليار قدم مكعب) أي ما يعادل 13 مليار ونصف مليار برميل نفط في حالة غازية، إضافة الى مليار و200 مليون برميل من البترول السائل( وهو ما يعد ثروة هائلة بالمقاييس الوطنية.

كيف يتعاطى لبنان الرسمي مع هذه الثروة الطبيعية

تميز موقف لبنان الرسمي مع المعلومات المتوافرة حول الثروة الطبيعية من النفط والغاز في مياهه الإقليمية بالإرتباك والتردد، وبات كأنه بحاجة لوصاية تحمل هذا الملف السيادي عنه، وتعفيه من مسؤولية القرار بشأنه. خاصة أن الإنقسامات السياسية بين أطراف السلطة وارتباطاتها الإقليمية والدولية تحد من حرية قراراتها في هذا الموضوع الطارىء.

بين عامي 2000 و 2002 كان لبنان قد قطع مراحل متقدمة في مجال التقصي والإستعلام عن ثروته النفطية والغازية، وبدأت تظهر النتائج الأولية للمسوحات السايزمية داخل باطن الأرض في البحر، والتي جرى الإتفاق مع شركة سبكتروم الإنكليزية على أن تقوم بها لقاء تقاضي أتعابها من الشركات الدولية التي قد تستفيد من معلوماتها لاحقاً، ومنذ ذلك الحين بدأ الإرتباك يظهر في تصرفات السلطة السياسية، وهي بدل أن تذهب في الملف إلى نهاياته السعيدة، أصبحت خطواتها مترددة ومربكة، واقتصرت إنجازاتها طيلة أكثر من عشر سنوات على ما يلي:

1- توقيع لبنان مع قبرص على إتفاق حول تحديد المنطقة الإقتصادية الخالصة للبلدين بتاريخ 17/1/2007.

2- إقرار قانون "الموارد البترولية في المياه البحرية" رقم 132/2015 تاريخ 24/8/2010

3- إصدار مرسوم "هيئة إدارة قطاع البترول" وتعيين أعضائها الستة بالمرسوم رقم 7968 تاريخ 4/12/2012.

4- إصدار مرسوم تأهيل الشركات مسبقاً للإشتراك في دورات التراخيص للأنشطة البترولية بالمرسوم رقم 9882/2013 تاريخ 16/2/2013.

5- إصدار مرسوم الأنظمة والقواعد المتعلقة بالأنشطة البترولية بالمرسوم رقم 10289/2013 تاريخ 30/4/2013.

6- قيام وزير الطاقة بإطلاق دورة التأهيل المسبق للتراخيص الأولى في المياه البحرية اللبنانية، وهي الخطوة التي لم تكتمل والتي ما زالت تراوح مكانها، ويعود السبب في ذلك إلى تعثّر

عجلة الدولة أمام مشكلتان تقنيتان اساسيتان، المشكلة الأولى وتتعلق بإقرار المراسيم التطبيقية لقانون "الموارد البترولية في المياه البحرية"، والمشكلة الثانية تتعلق بعدم ترسيم الحدود البحرية للبنان، والتي تبين حدود المنطقة الإقتصادية التابعة له مع دول الجوار.

المراسيم التطبيقية

بعد جدل قانوني وإداري إستطاعت الدولة اللبنانية عبر مجلس النواب أن تقر قانون "الموارد البترولية في المياه البحرية" تحت الرقم 132/2010 بتاريخ 17/08/2010 وبعد أكثر من سنتين تم تعيين أعضاء "هيئة إدارة قطاع البترول" بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 7/11/2012 ومنذ ذلك الحين والمواطن اللبناني ينتظر صدور المراسيم التطبيقية الأساسية اللازمة لوضع حيثيات هذا القانون قيد التطبيق الفعلي (وعددها 13 مرسوماً) على أن تلحظ هذه المراسيم تقسيم البحر إلى مناطاق (بلوكات) ووضع دفاتر الشروط وتحديد نوعية وصلاحية العقود التي ستبرم مع الشركات وكيفية تحديد منافع الدولة منها، والإطار القانوني الذي ينظم عملها. هذا بالإضافة إلى التحضيرات الأولية لإطلاق دورة التراخيص الأولى للشركات الأجنبية المشاركة في استدراجات العروض، وتحديد المناطق أو البلوكات التي سيجري العمل فيها. وهذا يستلزم المزيد من الجهود والوقت اللازم لإنجازه، بينما الدولة تتلهى بمشاكلها الداخلية المفتعلة، وتتجاهل هذا الملف الإستراتيجي البالغ الأهمية لحاضرها ومستقبلها.

ترسيم الحدود البحرية

المعركة الأصعب التي تواجه لبنان تكمن في تثبيت حدوده البحرية وفقاً للقانون الدولي، وفي تثبيت حقه في إستثمار ثرواته الطبيعية ضمن هذه الحدود المعترف بها والموثقة دولياً.

ومن المعروف أنه في القانون الدولي يجري تقسيم البحار إلى قسمين أساسيين هما:

- البحر الإقليمي أو المياه الإقليمية والتي تمتد على مسافة 12 ميلاً بحرياً من السواحل وتكون خاضعة لسيادة الدولة.

- أعالي البحار التي لا تخضع لأي سيادة وهي مفتوحة أمام الجميع.

ولكن نظراً لوجود ثروات طبيعية كبيرة في البحار، ومنعاً لحدوث صدامات بين الدول المتجاورة لاستثمار هذه الثروات، لحظ القانون الدولي ما يسمى "مناطق zone" وتسمى "المناطق المتاخمة" و "الجرف القاري" و "المنطقة الإقتصادية الحصرية" وكل هذه المناطق بحاجة لترسيم وتحديد قانوني يعطي للدول صلاحية إستثمارها.

بعد أن تبين وجود ثروة من النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط سارع لبنان إلى تحديد "المنطقة الإقتصادية الخاصة، EEZ" التابعة له وفقاً لإتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار "MONTEGIO BAY" وأقر قانون "تحديد وإعلان المناطق البحرية للجمهورية اللبنانية" رقم 163/2011 بتاريخ 18/8/2011، ولكنه لم يستكمل الإجراءات القانونية اللازمة.

ترسيم الحدود البحرية مع قبرص

بعد مفاوضات ولقاءات متعددة وقع لبنان مع قبرص على إتفاق حول تحديد المنطقة الإقتصادية الخالصة للبلدين بتاريخ 17/1/2007. لكن بالرغم من أن قبرص أبرمت هذا الإتفاق بحسب قوانينها وأنظمتها، إلا أن لبنان تقاعس عن إبرامه في حينه واكتفى لاحقاً بإرسال كتب إلى مكتب الامين العام للأمم المتحدة بشأن تحديد الحدود البحرية الجنوبية بتاريخ 19/1/2010 و 14/7/2010 و 20/6/2011 و 19/10/2011، ولكن هذا يبقى دون المستوى القانوني المطلوب لتثبيت حق لبنان بثروته وضمن حدوده المعترف بها دولياً بشكل قطعي ونهائي.

أما الحدود المشتركة مع سوريا وفلسطين (مع فارق التشبيه) فتبقى سائبة ودون ضوابط قانونية تحكم التصرف بهذه الثروة الطبيعية الطائلة، علماً أن إسرائيل إكتشفت بئراً نفطياً لا يبعد عن المنطقة الإقتصادية للبنان بأكثر من أربعة كيلومترات، وهو ما يعني أنها باتت فعلياً تهدد بسرقة الثروة الغازية والنفطية اللبنانية بشكل مباشر، وبوقت قريب جداً، هذا عدا عن أنها تستغل ثغرة في الإتفاقية التي تحدد الحدود البحرية بين لبنان وقبرص لتتمادى في التعدي على حقوق لبنان من هذه الثروة، وهو ما يتطلب المبادرة إلى رفع مطلب ترسيم الحدود مع فلسطين إلى الأمم المتحدة، والتي يقع على عاتقها إنشاء محكمة دولية خاصة لترسيم الحدود وحل هذه المشكلة.

الفائدة التي يفوتها لبنان على نفسه

إن حاجة لبنان أكثر من ماسّة لاستعادة توازنه المالي واستقراره الإقتصادي وسد عجز الموازنة العامة والدين العام وزيادة الإستثمارات وتوفير فرص العمل لابنائه وبناء البنية التحتية المهشمة والتي تحتاج لعمل جدي ومضني. لذلك يحتاج لبنان إلى المسارعة للإستفادة من فرصته الثمينة باستثمار ثروته النفطية في دفع عجلة التنمية الإقتصادية والإجتماعية، متجاوزاً مشكلة ترسيم حدوده مع دول الجوار، والمباشرة فوراً في عملية التنقيب عن هذه الثروة في المناطق اللبنانية غير الحدودية بالتوازي مع محاولات حل المشاكل المتعلقة بالمناطق الحدودية المتنازع عليها، علماً أن الخبراء يجمعون على أن الترتيبات الإدارية والقانونية والفنية وأعمال التلزيم وإجراء المسوحات النهائية وحفر الآبار الإستكشافية والتجريبية ومد الأنابيب وتحضير البنية التحتية للإستخراج والتصدير تحتاج بحدها الأدنى إلى فترة تتجاوز الست سنوات من العمل المتواصل والجدي.

لبنان أمام التحدي

لم يعد يجدي لبنان نفعاً أن يستمر في دفن رأسه في رمال ووحول مشاكله وانقساماته السياسية والفئوية والطائفية، والمراهنة على الوقت لحل أزماتنا الإجتماعية والإقتصادية ومعالجة نتائج حروبنا المتسلسلة أصبح رهاناً خاسراً يهدد بخسارة ثروة وطنية هائلة، خاصة أننا إلى جوار دولة عدوة لها أطماعها التاريخية بثرواتنا وهي تعرف ماذا تريد وتعرف كيف تحقق مصالحها ومصالح شعبها. وأول الغيث في ذلك هو الإتفاقات والصفقات التي باشرت إسرائيل في عقدها وتنفيذها مع مصر والأردن، والتي تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، علماً أن هاتين الدولتين هما من الدول المعول عليها لشراء إنتاج لبنان من النفط والغاز، وبخسارتهما يكون لبنان قد خسر سوقين أساسيين من أسواقه المحتملة، حتى قبل أن يبدأ عملية إستخراج نفطه وغازه من عمق البحر اللبناني.

عسى أن يعي المسؤولون خطورة هذا الأمر وأن يضعوا خلافاتهم وأحقادهم وأطماعهم ومصالحهم الشخصية الضيقة في بئر عميقة، ليستفيدوا من آبار أخرى فيها كل الخير، وهبتنا إياها الطبيعة الأم لتعوض علينا مآسي كل هذا الشتات المضني والموجع لأبنائنا...

أحمد حسّان

ينشر هذا المقال بالتزامن مع نشره في مجلة نقابة هيئة أوجيرو "خبار. Com".

التقسيمات القانونية للبحار
التقسيمات القانونية للبحار


المناطق البحرية
المناطق البحرية


البلوكات البحرية
البلوكات البحرية


تعليقات: