العمّال السوريّون في لبنان: مشاكل وآلام


بعد اغتيال السيد رفيق الحريري، تعرّض العمال السوريون في لبنان لأعمال انتقامية. فبحسب تقرير لمنظمة العفو الدوليّة، قُتل ما يقارب العشرين عاملاً سورياً، عن طريق حرق مساكنهم أو رميهم من أعلى المباني التي يعملون فيها أو طعنهم في الشارع. وبين 27 شباط/ فبراير و23 آذار/ مارس 2005، أحصيت 31 عملية إشعال حرائق إجرامية لمساكن العمال المؤقتة. ودفع مناخ انعدام الأمن هذا مئات آلاف العمال السوريين إلى الإسراع في مغادرة لبنان، حتى من دون تقاضي أجورهم التي كانوا يطالبون مستخدميهم بها بدون جدوى. وكانت الحكومة اللبنانية قد أكدت في أيار/ مايو 2005 أنها ستتخذ الإجراءات الكفيلة بالحدّ من دخول العمّال السوريين، وذلك تأميناً لفرص العمل للبنانيين. وبالفعل، تم اتّخاذ قرارات في ربيع 2005 تفرض حيازة العمال السوريين على إجازة عمل. ولم يعترض النظام البعثي على هذا التدبير لأنه يتّفق مع سياسته للثأر الاقتصادي من بلاد الأرز، ولا سيّما بحرمانه من اليد العاملة السورية. لكن بعد أشهر على انسحاب الجيش السوري من لبنان، وبالرغم من الاعتداءات التي هزّت البلاد، عاد العمال السوريون بكثرة إلى لبنان حيث اكتشف كل من السيّدين بشّار الأسد وفؤاد السنيوره أن هجرة العمّال هذه ضرورية لاستقرار نظاميهما.

يد عاملة ضحية كل أنواع الاستغلال

يعمل السوريون في مجالات لا تتطلّب مؤهّلات كبيرة، فهم يشكّلون القسم الأساسي من اليد العاملة في قطاعَي البناء والزراعة، وفي قطاعي الفنادق والمطاعم يتنافسون مع المصريين، أما في رفع النفايات فمع السريلانكيين. في المقابل، لا وجود عملياً لخادمات منازل سوريات في لبنان حيث تطغى على هذا القطاع السريلانكيات والفيليبينيات والإثيوبيات. فالسواد الأعظم من اليد العاملة السورية هو ذكوريّ إذاً، ومن يصطحبون معهم عائلاتهم هم فقط حجّاب البنايات السكنية عندما يحصلون على مسكن مجّانيّ أو العمّال الزراعيين لأنه من السهل إيجاد عمل للنساء والأطفال في هذا القطاع. إنّها في غالب الأحيان هجرة مؤقّّتة تهدف إلى جمع رأسمال صغير يسمح بالزواج أو الحصول على منزل أو تأمين دخل إضافي للعائلة.

وعدد العمال السوريين في لبنان غامض لافتقادهم إلى إجازات عمل أو وثائق إقامة. لكن، وكما بالنسبة لغياب أيّ إحصاء رسمي للسكان منذ عام 1932، تتعمّد الحكومة اللبنانية هذا الغموض من أجل إعطاء الوضع طابعاً دراماتيكياً: حتّى الحديث عن «مليون سوري» عند الضرورة. وكانت منظمة العفو الدولية قد قدّرت عدد العمال السوريين مطلع شباط/ فبراير 2005، قبل اغتيال رفيق الحريري، بما بين 400 و600 ألف. أمّا في عام 2003، وعندما كان لبنان ما يزال واقعاً تحت الاحتلال السوري ويعيش صحوةً اقتصاديةً نسبية، قدّمت مجلة Le Commerce du Levant رقم 400 ألف. فنحن إذاً بعيدون عن «المليون» الشائعة. وبحسب دراسة هذه المجلّة، يمثّل السوريون 80 في المئة من اليد العاملة الأجنبية في لبنان، يليهم المصريون والسريلنكيون والإثيوبيون. وخلافاً لمختلف تلك الجنسيات، فإن عدد السوريين يتأرجح كثيراً وفق المواسم وحجم المشاكل السياسية والظروف الاقتصادية التي يجتازها لبنان، والمسألتان الأخيرتان مترابطتان بصورة وثيقة. هكذا، وبعد العدوان الإسرائيلي في صيف 2006، يعاني لبنان اليوم أزمةً اقتصاديةً تترجم خصوصاً بتباطؤ قطاع البناء وبتراجع في الاستهلاك. وإذا كان عدد العمال السوريين قد تراجع اليوم، فذلك فقط بسبب تردّي أحوال سوق العمل، لا لوجود رغبة سياسية باستبدالهم بعمال لبنانيين.

إذ إنّ العمال السوريين يتمتّعون بميزة كبيرة قياساً على غيرهم من العمال المهاجرين إلى لبنان، وهي مرونتهم. فالمصريون أو السريلانكيون لا يستطيعون العودة إلى ديارهم في فترات الركود، ثم المجيء مجدّداً بكثرة مع عودة النمو إلى الاقتصاد اللبناني. في المقابل، يستجيب العمال السوريون بشكل آنيّ للتقلّبات الاقتصادية بفضل قربهم الجغرافي وسهولة دخولهم سوق العمل. إذ يحقّ لهم الإقامة لثلاثة أشهر في لبنان بدون طلب إجازة عمل، وعند انقضاء المهلة، يكفيهم الرجوع إلى الحدود لتجديد إجازات إقامتهم. أمّا حاملو الجنسيات الأخرى فعليهم شراء تأشيرة دخول، ثم الحصول على إجازات عمل تعطيهم الحقّ في بطاقة إقامة. والحصول على إجازة عمل يكلّف ما بين 300 و1200 دولار أميركي بحسب المهن، كما يتطلّب وقتاً، ويُلزِم ربّ العمل التصريح عن عمّاله والتعويض عن الإجازات المرضية والاستشفاء من جرّاء حوادث العمل. أما السوريون، فلا يُصرَّح عنهم. وعند وقوع حادث عمل يُصار الى إرسالهم إلى سوريا بعد عناية طبيّة مختصرة وتعويض يقدّره ربّ العمل وحده. «في الأمس، أصيب ثمانية عمّال داخل ورشة في وسط المدينة التجاري عندما سقط عليهم سقفٌ كان يتمّ صبّه بالباطون. ثم نقلوا إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث أُسعفَ سبعةٌ منهم في الطوارئ قبل أن يُعادوا الى ديارهم» أي إلى سوريا. هذا النوع من الحوادث المتفرقة دارجٌ بكثرة في لبنان، نظراً لضعف أنظمة الأمان وضعف الإمكانات المتوافرة لمفتّشي العمل.

وفي حزيران/ يونيو 2005، فرضت وزارة العمل على العمّال السوريين الحصول على إجازة عمل، لكن هذا الإجراء لم يُطبَّق بسبب ضغوط أرباب العمل ولا سيّما في الزراعة والبناء. إذ يتقاضى العامل السوري يومياً أقل من 10 دولارات أميركية؛ وفي قطاع البناء يتراوح الأجر اليومي، بحسب الاختصاص، ما بين 10 و20 دولاراً. أي ضعف ما يأمل العامل تقاضيه في سوريا، هذا إذا وجدت فرصة عمل. ويتراوح دوام العمل بين 10 و12 ساعة في اليوم، وما من بدل عن الأيام التي لا عمل فيها. ويمكن أن تتضاعف الأجور بين بيروت والمناطق؛ ففي شمال لبنان يبلغ أجر عامل محطة وقود 100 دولار في الشهر (12 ساعة يومياً بدون عطل)، بينما يمكنه أن يأمل الحصول على 200 دولار في بيروت للعمل نفسه. والأجور متدنّية بشكل خاص في محطات توزيع المحروقات لأن أصحابها يفترضون حصول العمال على إكراميات. ويقيم العمّال في مساكن رثّة في الورش أو المزارع. والقادرون منهم يتجمعون لاستئجار غرفة مشتركة في أحياء فقيرة. يتدبّرون أمرهم لاستقدام الطعام من سوريا (البرغل، الجبن، زيت الزيتون والمعلّبات) توفيراً للنفقات في لبنان. بهذا الثمن فقط يكون العمل مربحاً لهم في لبنان.

الفشل الاقتصادي للنظام البعثي

تواجه سوريا بطالة مستشرية ومتزايدة منذ عشر سنوات. ففي مطلع التسعينات، توقفت الدولة عن امتصاص غياب فرص عمل من خلال التوظيف في القطاع العام. وهي تراهن على القطاع الخاص للحدّ من البطالة بعد أن اعتقدت أنها أعطته الإمكانات اللازمة لنموّه. لكن ذلك لم يعط النتائج المرجوّة لجهة العمالة، حيث ارتفعت البطالة من 7،4% عام 1994 إلى 12،3% عام 2003، وفق إحصاءات رسمية تعتبر عموماً متفائلة إلى حدّ كبير؛ فالخبير الاقتصادي السوري نبيل سكّر يقدّر نسبة البطالة في حدّها الأدنى بـ20%. وفي شمال شرق البلاد مثلاً، في محافظة الحسكة ذات الغالبية الكردية، وبالتالي المهملة من قبل النظام، تصل البطالة رسمياً إلى 26،5% ويتم تداول نسبة 50% كرقم أقرب إلى الحقيقة. وقد عرفت هذه المحافظة، بين 1994 و2004، أكبر نسبة نزوح في سوريا، إذ إن البطالة المستشرية تدفع بأهل الريف نحو حزام البؤس في دمشق أو باتجاه لبنان. في هذه الحالة، لم يقتصر النزوح على شبان غير متزوجين، بل طال عائلات بأكملها طاردها البؤس لتتحول إلى بروليتاريا ريفية حقيقية تنتقل بحسب توفّر فرص العمل بين لبنان وسوريا وتقيم في ظروف سكنية تعيسة. إن وجود «ملعوني الأرض» هؤلاء في سوريا يشكّل نقيضاً حقيقياً لأسس النظام البعثي الذي بنى مشروعيّته على الإصلاح الزراعي وتنمية الريف. وحتّى العقد الاجتماعي نفسه الذي كان يؤمّن الولاء غير المشروط للطائفة العلوية عبر نوع من العصبيّة مع السلطة في دمشق قد أضحى لاغياً.

فمنذ أجيال والهجرة إلى لبنان تقليدٌ قديمٌ في قرى جبل العلويين. إذ إن الفائض الديموغرافي كان يفرّ من البؤس للعمل في المزارع الكبيرة في السهول المجاورة، ومنها سهلَي عكّار والبقاع. ولم تؤدّ سياسة التنمية التي أطلقها النظام البعثي إلى الحدّ من هذه الظاهرة، لكن ربّما فقط أوقفت تصدير البنات العلويات اللواتي كنّ يعملن في المنازل في مدن سوريا ولبنان. هكذا، تقدّم ناحية «حرف مسيطرة»، الواقعة على بعد ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق من مدينة جبلة، نموذجاً مميزاً لعلاقات العمل التي نشأت بين لبنان وجبال العلويين. فعلى هضبة «حرف المسيطرة»، الواقعة على علو 800 متر عن سطح البحر، تقتصر الزراعة على القمح والتبغ، لأن الرياح الباردة التي تهبّ في الشتاء تضرّ كثيراً بزراعة الأشجار المثمرة. فالقليل فقط من أشجار التفاح أو الخوخ أو الكرز ينمو في ظلّ جدران المنازل أو ضمن الوديان المحميّة. وتحدّ ندرة المياه في الصيف من الريّ والمحصول. وهكذا يسافر الرجال مؤقتاً الى لبنان، منذ نهاية القرن الماضي، حيث يعملون في صقل حجارة البناء، وهو اختصاص قريتهم. وقد فتحت الاحتياجات اللبنانية لإعادة البناء في التسعينات إمكانات واسعة للعمل أمام هؤلاء القرويين؛ لكنها تباطأت اليوم بعض الشيء. ويبلغ حجم الانتقال حدّ قيام ثلاثة باصات بسعة 20 مسافراً برحلة يومية بين حرف مسيطرة وبيروت. وحدهم الرجال يعملون في لبنان: وعندما يشتغلون في إحدى الورش، يعودون بمعدّل مرة في الشهر إلى القرية لرؤية عائلاتهم والتموّن. وتضمّ الناحية 8 آلاف نسمة، أي بكثافة سكانيّة تبلغ 250 نسمة في الكلم المربّع. وهذه كثافةٌ استثنائية على هذا العلوّ وفي ظلّ موارد زراعية ضعيفة، لا يمكن تفسيرها إلا بالعمل الخارجي. وحسب من قابلناهم في حرف مسيطرة، فإن نصف الرجال البالغين يعملون بصورة دائمة أو ظرفيّة في لبنان، أي حوالى الألف شخص.

في شمال جبال العلويين، حيث منشأ العصبية العلوية الحاكمة، تبدو حرف مسيطرة كأنها استثناء. فسكان القرى الأخرى من العلويين يكتفون بوظائف في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، تمنحها لهم السلطة بحكم هذه «العصبية». في المقابل، في جنوب جبال العلويين، تتسبب الكثافة السكانية المرتفعة والقلّة في فرص العمل في القطاع العام بانتقال الشباب للعمل في لبنان عندما لا يحصّلون دراسةً جامعية أو لا تؤمّن لهم عائلاتهم رأس مال للانطلاق. وفي العديد من القرى، يذهب للعمل في لبنان ما يقارب نصف الرجال ممن هم بين العشرين والأربعين من العمر، وتوظّف المداخيل في البناء والاستهلاك اليومي، ومن ثمّ في الزراعة أو المتاجر الصغيرة، لكن لا استثمار في الصناعة أو السياحة، خلافاً لجبل الدروز، حيث يؤدّي مال الهجرة إلى بروز فئة من شركات الأعمال الصغيرة. لا يملك هؤلاء المهاجرون من قرى جنوب جبال العلويين حظوظاً كبيرة في إقامة أعمالهم الخاصّة، لأن جمود المجتمع الريفي وغياب الفرص في المنطقة تبقيهم في وضع استهلاكي وريعي. هذه ليست حال من استقرّوا في المدينة مع رأس مالهم، في طرطوس خصوصاً، حيث نجحوا في إطلاق بعض النشاطات المنتِجة.

يستحيل حرمان لبنان من اليد العاملة السورية

يشكّل لبنان إذاً صمام أمان للنظام البعثي الذي يجد فيه متنفّساً للبطالة لديه. فتبعاً للسنوات، هناك دائماً ما بين 10 و15 في المئة من القوة العاملة السورية تعمل في لبنان. وبدون لبنان، يمكن أن ترتفع البطالة في سوريا من مستوى الـ20 إلى الـ30 في المئة، ما يمكن أن يخلق مشكلة أمام سوريا، حتى ولو كان التضامن العائلي يسمح بامتصاص النتائج الاجتماعية للبطالة. ويمكن تقدير ما يُدخله العمال السوريون من لبنان في السنة العادية، أي بدون حرب أو ركود اقتصادي، بما يقارب المليار دولار. وخلافاً لعائدات النفط، يتم توظيف هذا المبلغ مباشرة في الاقتصاد السوري، ما يؤدّي إلى تحريك لا يستهان به للاستهلاك. ومحليّاً، يمكن للعودة الطويلة المدى للعمال السوريين إلى ديارهم أن تؤدي الى نتائج دراماتيكية على الاقتصاد في مناطق خزّانات الهجرة، كجنوب جبال العلويين (منطقة الساحل) وحوران (جنوب دمشق) وهضاب حمص وحماه. وعلى الأرجح هذا هو السبب الذي يحول دون منع النظام السوري مواطنيه من الذهاب للعمل في لبنان.

وهكذا، إثر الانسحاب السوري من لبنان واصطفاف سياسة الحكومة اللبنانية إلى جانب السياسة الأميركية، قرر النظام السوري اتخاذ بعض التدابير الثأرية من بلاد الأرز. فما عاد بإمكان اللبنانيين الانتقال للتبضّع من سوريا كما في السابق، ويمنع عليهم العودة بالمواد الغذائية كما إن خزانات السيارات لا يجب أن تحتوي أكثر من 20 ليتراً من الوقود تحت طائلة الغرامة. والعمال السوريون المسافرون إلى لبنان يخضعون للرقابة نفسها، ما يؤدي الى رفع كلفة إقامتهم، وخصوصاً أنهم اعتادوا حمل المواد الغذائية معهم. وارتفع رسم الخروج إلى لبنان المفروض على السوريين من 200 ليرة سورية (4 دولارات) إلى 800 ليرة (16 دولاراً)، ما يحدّ من رحلات العمل إلى المناطق الحدودية، وخصوصاً إلى عكّار والهرمل حيث الأجور هي الأدنى في لبنان، بسبب فقرها ومجاورتها لسوريا. لكن النظام البعثي لم يذهب أبعد من ذلك في منع السوريين من الذهاب إلى العمل في لبنان، مع أن هذه الإجراءات كانت مطروحة لإثارة أزمة اقتصادية واجتماعية في لبنان. ذلك أن نظام بشّار الأسد مقتنعٌ بأن لبنان يعيش بفضل ما يمدّه به من مواد غذائية وقوة عمل. وهكذا ارتفعت كلفة الحياة في لبنان بشكل حقيقي منذ سنتين، وهذا ما يساهم في الاستياء الاجتماعي الراهن، لكن لو عمد النظام البعثي إلى منع العمال السوريين من الذهاب إلى لبنان فستكون معاناته هي الأكبر لأن الاقتصاد السوري عاجزٌ عن تشغيل هؤلاء العمّال.

أرباب العمل اللبنانيون بحاجة إلى العمّال السوريين

يرى العديد من اللبنانيين أن السوريين هم المسؤولون عن ديون لبنان: «مليون سوري يكسبون يومياً 10 دولارات للفرد من دون أن ينفقوا منها شيئاً، ما يجعل المحصّلة 45 مليار دولار بعد 15 عاماً». لم نعد نسمع هذا التفكير السطحي منذ طرحت المعارضة اللبنانية النقاش العام حول الدين وأظهرت انعدام مسؤولية حكومات الحريري والسنيورة حول الموضوع. بيد أننا لا يمكن أن ننكر بأن الوجود الكثيف لليد العاملة السورية مسؤول جزئياً عن البطالة التي تطال العمال اللبنانيين غير المتمتعين بالكفاءات أو ممن ليس لديهم منها الكثير. ويتنافس هؤلاء بصورة مباشرة مع العمال السوريين الذين يقبلون بأجور بخسة وظروف عمل لا يقبل بها اللبنانيون. فكلفة الحياة أعلى بثلاثة أضعاف مما هي عليه في سوريا، إلى درجة أن أجراً يقل عن 20 دولاراً يومياً أو 400 دولار في الشهر لا يكفي اللبناني لإعالة أسرته. وبحسب تحقيق أجرته جامعة القديس يوسف عام 2003، تحتاج الأسرة اللبنانية الى 600 دولار شهرياً كحدّ أدنى من أجل حياة مقبولة. «اللبنانيون لا يرغبون في العمل، إنهم متعلّمون ولا يقبلون الأعمال الوضيعة»: تلك هي بعض الحجج التي يسوقها أرباب العمل تبريراً لاستخدامهم اليد العاملة الأجنبية. لكن الواقع أن اللبنانيين لم يحصّلوا جميعهم دروساً جامعية، إذ يسهل في شمال لبنان والبقاع والجنوب وضواحي بيروت العثور على يد عاملة غير مؤهّلة، قادرة على الحلول محلّ العمّال الأجانب، وخصوصاً السوريين. لكن كلفة العمّال اللبنانيين هي أعلى، وهم أقلّ ليونةً، وهم قادرون على المطالبة بحقوقهم: الضمان الاجتماعي ودوام العمل الأسبوعي (45 ساعة مقابل 60 إلى 80 بالنسبة للسوريين)، ومن الصعب صرفهم ببساطة عند تباطؤ الحركة الاقتصادية...

وفي غياب اليد العاملة السورية، سيضطر أرباب العمل اللبنانيون إلى زيادة الأجور، ما سيتسبب في تراجع القدرة التنافسية في الزراعة والصناعة والسياحة ما دام لبنان يعتمد سياسة اقتصادية ليبرالية ومفتوحة. كذلك سترتفع تكاليف البناء. وهكذا يقدّر عدد اللبنانيين في سن العمل في عام 2003 بـ 1،4 مليون نسمة من أصل العدد الإجمالي للقاطنين 3،2 ملايين. نسبة البطالة تصل إذاً إلى 11،5% إذا ما اعتمدنا عدد الناشطين الباحثين عن عمل، بينما التعريف الأوسع الذي يشمل من توقفوا عن البحث عن عمل أو يصنفون أنفسهم «عمّالاً مستقلّين»، قد يوصل النسبة إلى 20%، أي 280 ألف شخص. بالطبع لن يستعيد اللبنانيون جميع الوظائف التي يخليها السوريون، لكن قد يسمح ذلك بالحدّ من نسبة البطالة الواسعة التي تعاني منها الفئات الشعبية اللبنانية. ذلك أن «العاملين في قطاع الفنادق والبناء والصناعة هم الأكثر معاناةً من البطالة»، أي تحديداً حيث المنافسة السورية هي الأقوى.

العمال السوريون متّهمون بإثارة القلاقل

في التسعينات، تم اعتبار الوجود الواسع للعمال السوريين محاولةً لاستعمار لبنان. ومن أصل الـ300 ألف شخص الذين استفادوا من مرسوم التجنيس بموجب المرسوم الرئاسي عام 1994، كان أكثر من 70% منهم سوريين في الأصل. وربما كان ذلك، جزءاً من خطة حافظ الأسد للربط بين البلدين. لكن هل كان الأسد واثقاً من ولاء السوريين المجنّسين لبنانيين؟ لا ننسى بأن العديد من السوريين يقصدون لبنان هرباً من نظام الأسد. فمنذ وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، غادر عدة مئات الآلاف من السوريين بلدهم ليقيموا في لبنان. إنهم قسمٌ من البورجوازية السورية والطبقة الوسطى التي طالتها مباشرةً عمليات التأميم، وأيضاً أشخاصٌ مهدّدون من قبل النظام بسبب آرائهم السياسية. ومن بين العمّال السوريين، نجد العديد من الأكراد الهاربين من القمع في سوريا. فالعمّال السوريّون ليسوا جميعاً عملاء للمخابرات. بالطبع يمكن للبعض أن يقدّم المعلومات أو أن ينتمي الى هذه الأجهزة، لكن معظمهم من ضحايا الاقتصاد و/أو السياسات البعثية أكثر مما هم عملاؤها.

لكن حكومة السيد فؤاد السنيوره تتّهم العمال السوريين بتدبير الاضطرابات في لبنان. وهكذا تقوم صحيفة «لوريان ـــ لوجور» الناطقة بالفرنسية، لصاحبها وزير الاتصالات مروان حمادة، بالتلميح إلى مختلف الحوادث المنسوبة إلى العمال السوريين؛ وكأنّ السرقات وأعمال القتل هي الصفة اليومية لحياة هؤلاء. وفي الواقع إنّ من شأن ظروف الحياة المأسوية التي يعيشونها أن تولّد هذا النوع من ردود الفعل التي تبقى مع ذلك، برأيي، متواضعة مقابل الاستغلال اليومي الذي يعانون منه. ويجدر بأرباب العمل اللبنانيين شكر النظام السوري على هذا التدريب الانضباطي لهؤلاء العمال، ما يسمح لهم باستخدام يد عاملة مطيعة إلى هذا الحدّ. ويساهم التركيز الإعلامي المفرط على هذه الأحداث المتفرّقة في ضرب سمعة العمال السوريين بحيث يصبح من السهل تحويلهم كبش محرقة. ففي 5 شباط/ فبراير 2006، اتهمتهم حكومة فؤاد السنيوره بالوقوف وراء اقتحام منطقة الأشرفية، خلال التظاهرة التي نظّمتها التنظيمات الإسلامية اللبنانية اعتراضاً على الرسوم المسيئة للرسول والتي ظهرت في الدانمارك. وبعد التظاهرة، أعلن رئيس الحكومة أن عناصر سورية وفلسطينية تحرّكها سوريا أخرجت التظاهرة عن مسارها السلمي، وأنّه تمّ توقيف 340 شخصاً، أكثر من 250 منهم سوريون و50 فلسطينياً... و20 لبنانياً. إثر هذه الاتهامات، قامت مجموعة من الشبّان الموتورين بمطاردة العمال السوريين في الشوارع والورش. وبعد توسيعهم ضرباً، كانت الشرطة تحضُر لتُلقي القبض عليهم أو تجلبهم من الورش حيث يسكنون. وفي 6 شباط/ فبراير، كتبت صحيفة «لوريان لوجور»: «وجّهت أصابع الاتهام إلى العناصر الغريبة التي تسلّلت إلى التظاهرة، والتي كانت هي المسؤولة عن أعمال الشغب»، وفي مقال آخر، في اليوم نفسه، نقرأ: «تم توقيف حوالى 120 سورياً وفلسطينياً إثر الشغب في الأشرفية، حيث أحرق المتظاهرون القنصليّة الدانماركية. وفي بيان لها، توضح قوى الأمن الداخلي أنها أوقفت 77 سورياً، 42 فلسطينياً، 48 لبنانياً و25 من البدو». ثمّ في النهاية، كتبت «لوريان ـــ لوجور» في 7 آذار/ مارس 2006، «في المحصّلة، تم توقيف 137 شخصاً في هذه القضية، من بينهم 111 لبنانياً و16 سورياً و10 فلسطينيين». وهكذا كان من الصعب على رئيس الوزراء اللبناني اتهام المذنبين الحقيقيين لكونهم ينتمون إلى الطائفة السنيّة التي ينتمي إليها فؤاد السنيورة والتي تشكّل القاعدة الانتخابية لتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري. أما الأحزاب المسيحية، من الأكثرية أو من المعارضة، فإنها لم تستنكِر اتهامات رئيس الوزراء بحق «الأغراب»، لأن ذلك قد يتسبّب في إثارة المشاكل بين المسلمين والمسيحيين. مع ذلك، فإن حيّ الأشرفية قد تعرّض للتكسير من قبل مسلمين سنّة لبنانيين، قدِموا بصورة خاصة من أحياء طرابلس الفقيرة. فهذا الحيّ بكنائسه ومعابده، لكن أيضاً بمتاجره ومبانيه الفخمة، كان يمثّل في نظرهم استفزازاً دينياً واقتصادياً. وأخيراً، لم يتوان رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، إثر المواجهات التي دارت في شوارع بيروت يوم الخميس 25 كانون الثاني/ يناير 2007، عن اتهام عناصر غريبة، بالطبع سورية وفلسطينية؛ فأكّد أمام كاميرات التلفزة أن القنّاصَين اللذين اعتقلا كانا سورياً وفلسطينياً. لكن وزارة الداخلية كذّبت في وقت لاحق هذه المعلومات.

العمال السوريون ضحية نظامَي الأسد والحريري

يتيح اتهام العمال السوريين نزع فتيل التوتر بين الطوائف اللبنانية، بتوجيه الغضب والرغبة في الانتقام نحو أناس لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، سواءً تعلّق الأمر بمشاكل اقتصادية أو سياسية. فهذه الكتلة من العمال المحرومين تساهم في منح اللبنانيين شعوراً بالتفوّق على جارهم العربي، وبالتالي تعزيز الوحدة الوطنية الهشّة في بلاد الأرز. فغالبية اللبنانيين لا تعرف سوريا إلا من خلال عمّالها وجيش احتلالها الذي تشبه حياة عناصره ظروف حياة العمال المدنيين. في الحالتين، تمثُل أمام ناظر اللبنانيين أمثلةٌ ملموسةٌ عن الفشل الاقتصادي للنظام البعثي. وفي سوريا، يتم استخدام الاعتداءات الدورية التي يتعرّض لها العمال السوريون في لبنان للتشهير بحكومة فؤاد السنيوره، وريث رفيق الحريري، ولحثّ السوريين على عدم السفر إلى لبنان. بالطبع، يعاني السوريون الاستغلال في لبنان، لكن ظروف العمل كما الأجور ليست أفضل في سوريا. في وجه هذا الواقع الذي يتجاهله المسؤولون السوريون، لا يبدو سهلاً وقف الهجرة العمالية إلى لبنان.

سوريا ولبنان يكمّلان واحدهما الآخر سياسياً واقتصادياً من أجل المحافظة على أقليّتين حاكمتين. فوجود لبنان يوفّر على سوريا القيام بإصلاحات اقتصادية وسياسيّة تعيد النظر في سلطة تعتمد على العصبية. أمّا في لبنان فيسمح اللجوء إلى اليد العاملة السورية باستمرار الضغط على الأجور استعباداً للطبقة العاملة اللبنانية التي لا يبقى أمامها من خيار سوى الالتحاق بزبانية رب عمل نافذ يحرمها من حقوقها السياسية. وهكذا على طرفَي الحدود، يُنعت من يعارض نظامَي الاستغلال بعملاء الأجنبي في سوريا وبالموالين لسوريا في لبنان.

* باحث واستاذ في جامعة ليون الثانية

(تنشر هذه المادة بالتنسيق مع «ليموند دبلوماتيك»)

تعليقات: