سمبوزيوم إهدن.. الأيقونة السبعينية ومزارات الفن

لوحة للفنان فهد شوشارا
لوحة للفنان فهد شوشارا


لوحة للفنان فهد شوشارا

«سمبوزيوم إهدن الدوليّ للرسم والنحت 2015».. التجربة الفريدة قبل أن يُودّع الصيف آخر أيامه الحارّة. لهذا انتهزنا الفرصة للذهاب إلى هناك، تلبية للدعوة التي يوجّهها الفنان «جورج الزعتيني» إلى الفنانين التشكيليين للمشاركة فيه، ولرؤية تلك البلدة الجبليّة الوادعة التي تسكن السماء وتلتحف الغيوم.

تعود قصّة سمبوزيوم إهدن إلى العام 1998 حين أخذت البلديّة على عاتقها، وبتحريض من الفنان جورج الزعتيني، إقامة هذا المنتدى الفنيّ السنويّ، أثناء فصل الصيف، عبر دعوة الفنانين التشكيليّين من لبنان كما تشكليين عرب وغربيين، لتنفيذ أعمال منوّعة من لوحات ومنحوتات مقابل تأمين الإقامة لهم في فنادق البلدة، إضافة إلى تناول الوجبات اليومية على نفقة البلديّة وبالاتفاق مع الفنادق التي تتقاضى بموجب ذلك عملاً فنيّاً من كلّ فنان مشارك في السمبوزيوم.

يقوم القيّمون على النشاط بتعريف الفنانين على جغرافيّة المنطقة عبر زيارة سياحيّة لأهم معالمها وزواياها كالكنيسة المقامة في أعلى البلدة والتي يُمكنك منها مشاهدة المحيط المنوّع بتضاريسه وجمالاته وأخضره ومنحدراته التي تؤكد سحر الطبيعة، إذ يُمكنك أن تشاهد جزيرة قبرص في حال سمح لك الطقس بذلك. ولأسباب نجهلها، أوقفت البلديّة تعاونها في إقامة السمبوزيوم وذلك منذ ما يٌقارب العشر سنوات، فكانت مبادرة الفنان الطليعيّ جورج الزعتيني بعزمه وإصراره على الاستمرار، وحيداً حتى اليوم، مع ما يتطلّبه الأمر من جهد وتعب وتغطية مادّية على نفقته الخاصّة! فعمد لحلّ مشكلة الإقامة إلى الطلب من أصحاب بعض الفيلات والمنازل الكبيرة التي تسمح لها ظروفها باستقبال الفنانين (محترفين وهواة) على دفعات على أن يكون الثمن تقديم كل فنان عملاً فنيّاً لأصحاب هذه المنازل كما كان يحصل مع أصحاب الفنادق، ومن الطبيعيّ أن يحصل الفنان الزعتيني بدوره على عمل آخر من الفنان، ومنهم من يقوم بتنفيذ أكثر من عمل فتكون حصّة المضيف أكبر. والنتيجة ثروة فنيّة تشكيليّة يملكها الفنان الزعتيني الذي يحلم بإقامة مبنى كبير للسمبوزيوم يتسع لهذه الأعمال بمثابة متحف للفنون التشكيليّة، وهو يأمل دائماً دعم ومشاركة وزارة الثقافة اللبنانيّة في مشروعه الفني الرؤيويّ والمبدع والطليعيّ. ولتحقيق هذا الحلم التشكيليّ يُفكر الفنان الزعتيني ببيع جزء من الأعمال التي يملكها كي يُسدّد تكاليف بناء هذا المبنى، علماً أنّه كان قد أسرّ لنا بأنه واقع في أزمة مالية منذ عدوان تموز، حيث يقوم بتسديد أموال وعدته بها وزارة الثقافة اللبنانيّة ولم تف بوعدها!

أيقونة

فوجئنا، أثناء تواجدنا في أحد المنازل التي استضافتنا، بعدد اللوحات المعلقة على كلّ جدران المنزل بحيث ضاقت الأمكنة بها؛ لوحات للفنانين الذين مرّوا في المكان، ومنهم أسماء معروفة عربيّاً. تعدّدت المواضيع، وإن غلب عليها المنظر الطبيعيّ المستوحى من جماليّة المكان، بأساليب منوّعة من واقعيّة وتجريديّة وما بينهما. صاحب المنزل هو المهندس المعماريّ «خليل معوّض»، عضو بلديّ سابق، وصديق الفنانين، منهم من قام برسمه كالفنان «عماد أبو عجرم» أثناء دراستهما في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، هذه الصورة الصغيرة بالأكواريل التي رسمها أبو عجرم العام 1975 بداية الحرب الأهلية اللبنانية واختفت فيما بعد في المعهد ليقوم أحد الأشخاص بحملها لصاحب الصورة بعد مرور خمسة وثلاثين عاماً على اختفائها! هي قصّة من قصص تاريخ الفن الكثيرة التي تدوّنها ريشة الفنان.. قدّرنا عالياً اهتمام أهل البلدة بالفن التشكيليّ، وهو شيء لافت نكاد لا نجد له مثيلاً في لبنان أو المنطقة العربيّة أو في العالم أجمع. قد تكون اللبنة الأولى موضوعة من قبل الفنان الكبير الصديق المرحوم صليبا الدويهي (1912- 1994) الغني عن التعريف الذي يحترمه أهل البلدة، ويقدّسونه كما يُقدّسون سانت ريتا أو رفقا أو سيّدة الحصن، ويجلون تجربته التشكيليّة ويعتزون بها، هذه التجربة التي بدأها في لبنان قبل أن تنتقل إلى الخارج، وبالأخصّ في الولايات المتحدة وفرنسا اللتين كان يتنقل بينهما قبل أن توافيه المنية هناك. يحترم الإهدنيون الثقافة والفن كمكوّن للحياة التي يعيشونها يومياً على مهل كمن يعزف قطعة موسيقيّة. كنتُ مُرافقاً لمجموعة من الفنانات التشكيليّات الشابات الواعدات، منهن من بدأن بشقّ طريق الاحتراف (سوزان شكرون، جنان موسى، دارين جابر، ليلى الموسوي ورانيا عمرو) المتخرّجات من قسم الماستر في الفنون التشكيليّة في الجامعة اللبنانيّة. انطلقنا من بيروت للمشاركة بالسمبوزيوم بعد اتصال مع القيّم عليه الفنان جورج الزعتيني. قامت المجموعة بتنفيذ أعمال في اليوم الأوّل الذي وصلنا فيه إلى إهدن وذلك باختيار إحدى الزوايا الجميلة من البلدة التي تضجّ بالأمكنة الجميلة، فكيفما توجّهت في البلدة وخارجها تقع عيناك على جمالات المكان وتعدّده. جورج الزعتيني فنان سبعينيّ اختار الفن ناموساً لعبادته اليوميّة مكرّساً حياته له وللسمبوزيوم الذي أصبح جزءاً منه لا ينفصلان. حين تراه يتحرّك بين الأمكنة والفنانين تحسّه طيراً مغرّداً ينتقل من شجرة إلى أخرى ومن ركن إلى آخر كي يحمل الغذاء لأطفاله، هذا ما يفعله جورج المفعم بالنشاط والحيويّة بالرغم من عمره المتقدّم، لكنّ نسغ الفن الذي يسري في عروقه يجعله فوق السنوات والتعب والإرهاق. يتنقل بين الفنانين ليحمل إليهم ما يحتاجونه من مواد الرسم كالألوان والماء والريش واللوحات البيضاء العذراء قبل أن تتحوّل إلى عرس لونيّ، مشاركاً إياهم أيضاً بتنفيذ أعمال مباشرة على الأرض، فهو لا يكتفي بتأمين الحاجات بل مشاركة الفنانين عطاءهم وإبداعهم الآنيّ. هذا الفتى الهرم الذي تحوّل عند الفنانين التشكيليّين إلى أيقونة الفن التشكيلي في الوطن التعب. يعرف الجميع، ويعرفه الجميع في لبنان والوطن العربيّ. في اليوم الثاني من مكوثنا في إهدن كانت زيارتنا، برفقة الفنان الزعتيني دائماً، لأحد الأمكنة التي تُدعى «مزرعة بني صعب» حيث أقام الفنان «روجيه طانيوس» منزلاً له ومحترفاً ليقضي فيه عطلته الصيفيّة. قمنا بتنفيذ بعض اللوحات في حضن الطبيعة الخلابة. بعد الانتهاء عُرضت الأعمال في الهواء الطلق في الحديقة على «شفاليه» وأُخذت صور تذكارية ووُزّعت شهادات المشاركة من قبل الفنان الزعتيني والفنان روجيه. وهذا ما كان يحصل بعد كل نهاية للسمبوزيوم. يقوم بعدها الفنان الزعتيني بنشر صور النشاط في السمبوزيوم على صفحته للتواصل الاجتماعيّ التي يشاهدها عدد هائل من أصدقائه الفنانين الموزعين في مختلف أنحاء العالم.

أساليب

تنوّعت أساليب الفنانات المُشاركات، وإن كان قاسمها المشترك الطبيعة؛ فسوزان شكرون، غلب على عملها التجريد الغنائيّ الموسيقيّ، وأحياناً التعبيريّ، لموجودات الطبيعة بألوان دافئة وحسّ مميّز. جنان موسى، تمزج ما بين الطبيعة والإنسان ضمن أسلوب يغلب عليه الخط والتشخيص المختصر. دارين جابر، تختزل الطبيعة إلى قطع هندسيّة ملوّنة تغيب عنها التفاصيل. ليلى الموسوي، مشغوفة دائماً برسم الطبيعة بتوزيع لونيّ بارد مطفّأ بالقليل الدافئ بتقطيع سمفونيّ جميل. رانيا عمرو، تمزج بدورها، ما بين الطبيعة والمواضيع الإنسانيّة التي يغلب عليها إيقونوغرافيا المناضل تشي غيفارا بأسلوب تشخيصيّ واقعيّ ضمن فراغ مجرّد. لكلّ منهنّ أسلوبها الخاصّ ورؤيتها التشكيليّة ضمن تأليف مدروس ومضبوط. في اليوم الأخير، وقبل رجوعنا إلى بيروت، صودف وجود حفلة للمطربة اللبنانيّة «جاهدة وهبه» في دير «مار سركيس وباخوس»، بداية الغروب، فكان صوتها العذب والقوي يخترق القلوب ويضيء الأمكنة التي أودعتها الشمس لذاك الصوت الإلهيّ. أجادت غناءً بأشعار ابن البلدة الشاعر «جورج يمّين» وآخرين كطلال حيدر وأنسي الحاج وغسان مطر واستعادة بعض أغاني الكبير وديع الصافي، كلمات وأشعار وأغانٍ تدور حول لبنان الوطن وبلدة إهدن. حضر الحفلة عدد كبير من المدعوّين غصّ بهم الدير وخارجه من وزراء حاليين وسابقين وعدد من الشعراء والممثلين والصحافيين. إنّ تجربة السمبوزيوم في إهدن تختلف عن باقي السمبوزيومات في المناطق الأخرى من لبنان، والتي توقف جزء كبير منها عن نشاطاته، أمّا الجزء الآخر، القليل، فبقي محافظاً عليها على خجل، أمّا في إهدن فالنشاط لما يزل مثابراً على زخمه وقوّة عطائه بفضل هذا الإنسان الفريد المُسمّى «جورج الزعتيني» مدعوماً بأهل بلدته محبّي الفن والجمال في بلدة خصّصها الخالق لهذه الفئة من الناس الذين يقدّرون عظمة الخالق وكيفيّة المحافظة عليها... جورج الزعتيني، جامع الجمال والفن والفنانين، على رأس سمبوزيوم إهدن، تجربة فريدة نتمنّى إطالة عمرها وانتقال عدواها إلى مناطق لبنانيّة أخرى بدل التلهّي بأمور لا نفع لها للناس وللأرض وللتاريخ.

* الأستاذ الدكتور يوسف غزاوي

تعليقات: