كلمة الشاعر \"حسن عبدالله \" في ذكرى اسبوع والدته \"الحاجة فاطمة عبدالله\"

أجمل الامهات - صورة أخيرة للمرحومة الحاجة فاطمة خليل عبدالله
أجمل الامهات - صورة أخيرة للمرحومة الحاجة فاطمة خليل عبدالله


في الساعة الثالثة من فجر الأحد الماضي ، رأى أحدُ أحفادها في منامه ضوءا ً ساطعا ً بهر عينيه وجعله يستيقظ من نومه .فحدّث نفسه قائلا ً :"توفيت جدتي " ،وفي هذه الساعة بالذات ،في الثالثة من فجر الأحد الماضي ،كانت جدَّ ته في المستشفى تسلم الروح إلى بارئها

في الايام التي سبقت وفاتها كانت تعي أكثر منّا وأكثر من الأطباء ان شمس حياتها موشكة ٌ على الافول ،وكانت قد تعبت من العيش الذي امتد ًّ قرابة القرن ،وانفتحت لها نافذة في الجدار الرقيق الواهي الذي يفصل بين الحياة والموت ، ومن هذه النافذة بدأت بالتواصل مع احبائها ومعارفها الموتى من أزمنة قريبة وبعيدة، فكانت تناديهم بأسمائهم كأنهم في جوارها . ولعلّهم كانوا في جوارها بالفعل ،فمن الذي يستطيع ان يُجزم انهم لم يكونوا يتهيأون لاستقبالها ،في الوقت الذي كنا نتهيّأ فيه لوداعها ؟

الشيخوخة متصلة اتصالا ً وثيقا ً بالغربة والوحدة والوحشة والألم ومتصلة بالنكسات الصحية المتواصلة ، وبما لم يعد بالامكان اصلاحُه أو علاجُه من أعطاب وأعطال في الجسم وفي الروح. وقد كانت رحمها الله ،تداري بعض الآمها بانشاد ما تحفظه من شعر منظوم بصيغة "العتابا" ،وقد اذهلني مقدار ما تحفظه من هذه الأشعار التي يدور قسم كبير منها حول المرض والألم والفراق،وقد كنت أتأثر لمعاناة اولئك الذين نظموها والظروف القاسية التي أحاطت بنظمهم لها أكثر مما أتأثر لمعاناتها وهي تنشدها .

كانت في لحظات ألمها تترنًّم بهذه الابيات :

وأنا لابكي على حالي وأنا حَيّ

وفيي ضاقت الدنيا وأنا حيّ

وين ولادي اللي ما تجيني وأنا حيّ

شو نفْعُنْ عند ردَّات التراب

وبهذه الابيات :

وأنا لَ عِنْ عنينْ النًّحل بدْواي

وجرحي حيَّر الحكّام بدْواي

ربي ما خلق عِلة بلا دواي

إلا علتي ما لها دوا

عندما تجاوزت أواخر الثمانينات من عمرها ،وبدأت تصعد التسعينات ،كان المكان يغدو أكثر وحشة ،والجوّ أكثر صقيعا ً ،والمسالك أكثر وُعورة وزّلة القدم المميتة أكثر احتمالاً

ولعلها حدست بانها تتجه نحو الأسوأ فقررت التوقف.

لقد أَبت عليها عزة نفسها التي تميّزت بها وأبى عليها تقديرها العالي لذاتها ان تتابع الانحناء امام عجز الشيخوخة الذي أخذ يتفاقم يوما ً بعد يوم ،وأمام الاحتياج المتزايد للآخرين في أبسط متطلبات الحياة اليومية ،رغم أنها ملكة في محيطها البيتي والاجتماعي، تأمُرُ فتُطاع على الفور من الاقربين والابعدين وكانت تتقن فن السيطرة على اولادها واحفادها مستخدمةً ً احيانا ً سلاح الضعف ،واحيانا ً سلاح القوة

لا لم تكن من ذلك النمط من المتقدمين في السّن الذين يرضخون بالقبول أو بالاكراه ،لواقع أن دورهم على مسرح الحياة قد انتهى ،وأنّ عليهم التراجع إلى حياة متوارية وخافتة على هامش البيت وهامش المجتمع ،فيقتصدون في أقوالهم وفي أفعالهم ،ويَزنُون بدقَّة حركاتهم وسكناتهم حتى لا يتعرّضوا لتذمرات الأصغر منهم سنا ً وانتقاداتهم التي تصل احيانا ً إلى حدّ التأنيب القاسي والمُهين.

كانت ،رحمها الله ،وهذا افضل ما في شيخوختها تعتبرُ التقدم في السن أفضليّة لها على الاخرين ،وترى في الشيخوخة مقاما ً رفيعا ً يستوجب المزيد من احترام الآخرين لها والمزيد من الطاعة والتقدير ،وقد كانت بذلك ومن حيث لا تدري ،تنتصر لأهم حقّ من حقوق الانسان الشرعية والمدنية ،إنه حق العجائز والشيوخ في حياة آمنة ومحترمة وكريمة.

إن أسوأ ما في ثقافات البشر وتقاليدهم ، سواءٌ لدى الطبقات الفقيرة أو الغنية ، هو الاستخفاف ُ بالاحتياجات المادية والمعنوية للمتقدمين في السن ،واهمالُهم والتذمُرُ منهم،إن لم أقل نبذُهم واضطهادُهم .وإن أسوأ البلدان والمجتمعات واكثرها عقوقا ً هي تلك التي لا يوجد فيها ضمانات للمُسّنين ،ومؤسسات لرعايتهم ومكافأتهم بعدما يكونون قد عبروا محيط الحياة الهائل وارتموا مُتعبين على شطآنه.

وبهذا المعنى ،فإن أجمل شيء قمت به في حياتي هو اتقاني لفنّ العناية المتواصلة بأمّي ،والاهتمام اليومي بها ،بحيث تحوَّلت إلى ما يشبه ابنتي .وإذا كان لي أن أحسد أحدا ً على فعل محبّة ونُبل وتضحية فحسدي هذا يتّجه إلى شقيقتي التي تفرًّغت لها تفرُغا ً كاملا ً ،ليلا ً ونهارا ً ،ووهبتها في كل يوم وفي كل ساعة ودقيقة شيئا ً من ذاتها ومن حياتها ،فلّونت بذلك شفق حياتها الغاربة بشيءٍ من ضوء الصباح.

لكن ًّ البنيان الجميل الذي دعمته شقيقتي بيديها الجبّارتين أعواما ً طوالا ً ما لبث أن اهتز وتصدّع مهددا ً بالسقوط في أي لحظة ،ولعلها ،رحمها الله، قد شعرت بذلك ،فراحت تُلقي على العالم من حولها نظرة زاهدة ولامبالية ،وتوقفت عن الاهتمام بكل ما كانت تهتم به في الماضي .ولكنها واظبت على الصلاة بشكل ٍ حازم وصارم ،وفي أصعب لحظات الشّدة والمُعاناة .وقد لَفَت انتباهَنا أنها بعد تأديتها لكل صلاة ،كانت تغمُرُها عافيةٌ مفاجئة فتتوقف ُعن التبرُم والشكوى ،وتنبسط أساريرها ،ويصفو مزاجُها ويظهر عليها احساس عميق بالأمن والسلام .وهكذا اعتمدنا معها أسلوب المداواة بالصلاة التي كانت دواء ناجعا ً وفعّالاً أكثر من أي دواء آخر

وفي المستشفى ،استرسلت في صلاة متواصلة ،وكان الأطباء يزورونها في غرفة مرضها فيجدونها تُصلي فتترك لديهم انطباعا ً خاطئا ً بأنها معافاة فينصرفون حتى لا يقطعوا صلاتها والحقيقة أنها كانت في ذلك الوقت في لحظة الخطر القُصوى .وبهذا المعنى يمكن اعتبارها شهيدة صلاتها ،وشهيدة ايمانها.

في النهاية ،أوجه تحية احترام ومحبّة إلى كل أم من الجيل الذي تنتمي إليه أمي،هذا الجيل الذي واجه أهوال القرن الماضي بعزم وصلابة وايمان ،وبصبر هائل على المكاره ،فكان من ابنائه واحفاده هؤلاء الشباب والرجال الذين خاضوا في الأمس القريب مواجهات اسطورية مع العدو الاسرائيلي ،فحققوا اعظم نصر للوطن والأمة ولكل مقهور ومظلوم على وجه الأرض ،واثبتوا ان العادل والخيّر والاصيل هو المنتصر دائما ًعلى السلاح الأصم الأعمى ،والقوة الصّماء العمياء.

تعليقات: