هربت من داعش... فتبعها الموت الى بلدة القليعة الجنوبية


مرجعيون –

حملت شذى صليبها منذ ثمانية أشهر حين تركت وزوجها وأولادها الخمسة أرض آبائها وأجدادها في#العراق وسارت به طالبة الأمان في بلد يعيش اضطرابات وصعوبات، لكنّه فتح أبوابه امامهم يقيهم من قصف داعش واحتلاله أرضهم واستباحة ممتلكاتهم... من بيروت استمرّت رحلة العذاب وصولا الى بلدة القليعة الجنوبية الحدودية التي استضافت شذى وعائلتها كما عشرات العائلات العراقية الأخرى (أكثر من ستّين عائلة)، الا ان القدر الذي سلخها من أرضها الأم أراد لها أن يتّحد جسدها بأرض لبنان فتُدفن في تراب الجنوب، لأن الموت خطفها باكرًا من عائلتها بجلطة أسكتت عقلها وقلبها قبل ان تبلغ عامها الـ 46...

تركت شذى زوجا يبكي بحسرة مرارة وألم وخمسة اولاد كبيرهم يبلغ 19عامًا فيما صغيرتهم لم تتجاوز الـ7 أعوام، ورحلت دون أن تتمكّن من وداع والدتها وشقيقها اللذين وصلا ليلاً من العراق لإلقاء النظرة الأخيرة عليها، فقد قرّر زوجها وأولادها دفنها في مقبرة البلدة لتبقى الى جانبهم فهم يجهلون مصيرهم ومستقبلهم...

ماتت شذى قهرًا وحسرة، فهي لم تكن تعاني أي مرض أو مشكلة صحيّة، الا ان قسوة الحياة والخوف على العائلة قضيا عليها باكرا. كانت تنعم وعائلتها بحياة كريمة في بلادها قبل ان يحتلّها داعش، هي المجازة بمادة الفيزياء وكانت تدرّس اللغة السريانية في بلدها خسرت كلّ شيء قبل ان تخسر حياتها.

يفتح موت شذى الباب على أسئلة كثيرة تتعلّق بمصير مئات العائلات العراقية المسيحية التي تشتّت في العالم بين #الاردن ولبنان و#تركيا وغيرها، والتي يغيب عنها المجتمع الدولي كلّيا في حين أنّه يركّز كلّ جهوده واهتمامه على الشعب السوري النازح، حتى مفوضّية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "تقتصد" في المساعدات والدعم الانساني في حين تغدق مساعداتها على النازحين السوريين، ولولا بعض الجمعيات الأهلية والكنيسة وأهالي بلدة القليعة حيث يقيمون لكان وضعهم سيّئ للغاية... يعيشون وضعًا اقتصاديًا صعبًا، فلا الدولة اللبنانية قادرة على توفير أدنى مقوّمات الحياة لهم، ولا الدول التي تدّعي الانسانية تحرّكت حتى الساعة لتبنّيهم وقبول هجرتهم، هي العاجزة عن تمكينهم من العودة الى بلادهم وأرضهم، ووضعهم القانوني ليس أفضلَ بسبب عدم تسوية قضية الإقامات، لأنهم ينتظرون الهجرة الى خارج لبنان، ما أدّى الى توقيف بعض منهم بسبب عدم الحصول على إقامة وتتمّ معالجة هذه القضية ومتابعتها من قبل قيادات روحية رفيعة مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لتسوية وضعهم بانتظار ايجاد حل جذري لهم.

"ليس لدينا وطن..."

في منزل شذى في القليعة، غصّة وحرقة ودموع من ذويها ومواطنيها ومن أبناء البلدة ايضا الذين عرفوها... عيون تبكي وفاة أم الخمسة اولاد وأفواه تلوم القدر الظالم، الا ان الايمان المسيحي والسير في طريق الجلجلة على خطى السيّد المسيح هو عزاؤهم الوحيد... "نحن مسيحيو الشرق خصوصًا في العراق نحمل صليبنا على أكتافنا ونسير في طريق الجلجلة. كان لدينا مقبرة واحدة في#قرقوش، واليوم لدينا مقابر في دول كثيرة"... بهذه الكلمات عبّر خال شذى أنور متّي هدايا، وهو رئيس حركة تجمّع السريان في العراق والعالم وممثّل المسيحيين في مجلس محافظة نينوى، الذي وصل ليلاً لوداع ابنة شقيقته عن الحال التي يعيشونها وقال: "منذ 6-8-2014 تشتّت عائلاتنا بسبب داعش، وتهجّرت في أنحاء مختلفة. فمنهم من لجأ الى اقليم كردستان ومنهم من فضّل السفر خارجًا الى دول بانتظار الهجرة الدائمة. ابنة اختي لم تكن تعاني اي مرض الا انّ القهر والخوف قضيا عليها، رحلت بعمر باكر، وهي ليست الاولى اذ بتنا نلاحظ وفيّات كثيرة بأعمار مبكرة نتيجة هذه الظروف القاسية. لذا فنحن نناشد الامم المتحدة تحمّل مسؤولياتها والتطلّع الى حالنا والنظر برأفة وإنسانية بهدف تأمين حياة كريمة لهذه العائلات وحمايتها".

وبحزن عبّر شقيقها ادوار عن لوعة الفراق وهو ايضا رافق والدته من العراق لوداع شذى: "كنّا سنلتقي بعد مدّة في عطلة الصيف لكن القدر شاء الا نجتمع. منذ شهور طويلة، كان الانترنت وسيلة تواصلنا الوحيدة وهنا نحن اليوم هنا، ولكن للوداع وليس للقاء". وعتب ادوار على المجتمع الدولي الذي يدّعي حقوق الانسان، فيما لم يحرّك ساكنا، ويبدو أنّه لن يحرّك في المستقبل. واذ أمل ان ينقل جثّة شقيقته الى العراق نزل عند رغبة زوجها وأولادها لدفنها في القليعة حيث تقيم العائلة كي يبقوا قريبين منها...

والدة شذا تبكي بهدوء موت وحدتها رافضة الكلام، فالمصيبة كبيرة والحزن قاس، فيما ولداها الكبيران جوهان وماريانا يتجنّبان التعبير، يحملان غصّة ويكبتان دموعهما، اذ تراهما يشاركان والدهما المسؤولية في استيعاب فقدان الوالدة والبقاء متمساكين امام اخوتهم الثلاثة الباقين. وما عجزوا عن قوله أفصح عنه والدهم ثابت الذي رافقت دموعه كلماته في التعبير عن حزنه لفقدان شريكة حياته في السرّاء والضرّاء، زوجته التي بخسارتها خسر أساس المنزل: "انكسر ظهري. موتها هدّني. قبل ساعات كانت تضجّ بالحياة، رحلت دون وداعي تاركة خمسة اولاد اجهل مصيرهم ومستقبلهم"، بهذه الكلمات بكى ثابت زوجته مناشدا المجتمع الدولي الذي تخاذل كثيرا بحقّهم أن ينظر بعين انسانية الى هذه القضية التي بدأت منذ نحو عامين ولا تزال. وتعليقًا على قراره بدفنها في القليعة قال: "ليس لدينا وطن، لم يعد لدينا وطن. نحن اصحاب الوطن وقد فقدناه... اينما دفنت زوجتي فلن يكون وطنها، أين سنكون في المستقبل لا نعرف... أمنيتي فقط أن أؤمّن مستقبلا لأولادي". وشكر ثابت اهالي بلدة القليعة الذين لم يتركوه منذ وصوله وحتى في مصيبته هذه معلّقًا: "أهالي البلدة ساعدونا أكثر ممّا ساعدتنا الامم المتّحدة!".

رافقت عائة شذى جثمانها في رحلته الأخيرة، في الجنّاز الذي أقيم في كنيسة مار جرجس وترأّسه مساعد كاهن الرعية الخوري بيار الراعي، قبل أن توارى في الثرى في مدافن البلدة.

شذى ماتت، لكن أسئلة كثيرة تُطرح اليوم... فهل يبقى المجتمع الدولي في منأى عن هذه القضية الإنسانية؟ الا تستحق هذه العائلات العراقية المسيحية المشتّتة من يلتفت لهمومها ومصيرها ومستقبلها أسوة بباقي شعوب الدول التي تعاني أيضا حروبًا وتهجيرًا؟ الكنيسة المحلّية وقفت الى جانبهم وتسعى بإمكاناتها إلى تخفيف القهر والظلم عنهم، ولكن أين دور القيادات الروحية الرفيعة؟؟


تعليقات: