الأحزاب السياسية والحلقة المفرغة


لم يعد التكرار يجدي في وصف الفلتان السياسي والإجتماعي والإقتصادي في لبنان، ولم تعد أزمة عقم النظام السياسي فيه خافية على أحد، إنما الأوضاع الأمنية الخطيرة والفوضى السياسية التي تعم مختلف دول المنطقة تتطلب من المسؤولين اللبنانيين قراءة داخلية هادئة ومتأنية للوضع العام في البلاد، على أن تبنى هذه القراءة على المعطيات والمعلومات والوقائع الحية، الداخلية والخارجية، لمعالجة الهذيان الذي بات يهدد أركان الدولة ومؤسساتها بكوما عميقة قد يصعب الخروج منها دون ندوب وإعاقات خطيرة.

إن ما يحصل في لبنان حالياً من استهداف مبرمج للحياة السياسية والدستورية، بوجهيها المدني والرسمي، يؤشر إلى تزايد العبث بالنظام – الستاتيكو القائم اليوم، وهو ما يهدد بالتالي الوقوع في فخ التجاذبات الطائفية والفئوية، خاصة في غياب مشروع مدني وطني وديمقراطي لدى معظم الأحزاب والكتل السياسية والطائفية، وفي ظل التوازنات الإقليمية الهشة والمفتوحة على أسوأ السيناريوهات.

لعل الأحزاب اللبنانية هي أكثر من يتحمل المسؤولية عن ضبط هذا الواقع وتصويب العمل السياسي، وإذا كانت التجربة تشي بأن الإتفاق الوطني الشامل بين هذه الأحزاب حول المسائل السياسية والصراعات الإقليمية والدولية غير متوقع حالياً بشكله المطلوب، ولأسباب سياسية وإيديولوجية عديدة ناتجة عن تعقد الأزمة، إلا أن هذا لا يمنع الأحزاب السياسية بأن تلتقي فيما بينها، من أجل تحصين الساحة الداخلية وحماية المواطنين اللبنانيين من سموم الرياح التي تهب على لبنان من كل حدب وصوب، وذلك ممكن من خلال الإتفاق على تطبيق معايير العدالة الإجتماعية وحماية حق الناس في ممارسة حقوقهم الطبيعية والقانونية والمشروعة، كالحق في الحياة، والحق في العمل والأجر اللائق، والحق في الطبابة والإستشفاء، والحق في التعلم، والحق في الماء والدواء والكهرباء، والحق في السكن وفي بيئة آمنة، والحق في ممارسة حرياتهم وشعائرهم الدينية والسياسية والإجتماعية، والحق في الأمن والأمان...

وهي حقوق عامة لا يختلف عليها عاقلان، ويمكن فصلها عن الصراع السياسي والطائفي القائم، خاصة أن هذه الحقوق تتعلق بشريحة واسعة من المواطنين اللبنانيين الذين يشكلون القاعدة الجماهيرية والركيزة الاساسية لهذه الأحزاب، وهو ما يمكن أن ينعكس إيجاباً على الحياة السياسية والحزبية ويساعد على تنقيتها من الشوائب المذهبية والطائفية والفئوية السائدة حالياً.

قد يقول البعض أن هذا تبسيط للأمور، وهو مجرد ترف فكري ونظري لا يمكن تطبيقه، ولن يتردد هؤلاء في إستحضار تجارب ومواقف وحوادث أليمة مضى عليها الزمن، لكن المواطن اللبناني الذي قدّم التضحيات الكبيرة من أجل حماية هذا الوطن ومقوماته وسيادته، وفي أصعب الظروف الأمنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، يستحق أن تجتمع هذه الأحزاب من أجل تحقيق مصالحه وحماية حقوقه وسلامه الداخلي وصيانة وحدته، ولو في محاولة يتيمة جادة وحقيقية، وعبر رؤساء مكاتبها العمالية والتربوية، للإتفاق على إستراتيجية وطنية شاملة يجري خلالها الإعتراف بالأزمة الإجتماعية والإقتصادية وبضرورة الإتفاق على توصيفها وطرق حلها، واختيار سبل ووسائل العمل من أجل تحقيق الأهداف المشتركة والمتفق عليها، وهو ما من شأنه أن يعيد لهذه الأحزاب دورها الوطني والجماهيري المصادر، والتي تخلّت عنه لأصحاب النفوذ المالي والطائفي والفئوي، وأن يتيح لها إستعادة قرارها السياسي المستقل للمشاركة في رسم السياسة العامة للدولة اللبنانية ولما فيه تحقيق الحلم بدولة مدنية ديمقراطية عادلة، الحكم فيها للقانون والمؤسسات، وليس للميليشيات والطوائف...

هي دعوة صادقة للأحزاب اللبنانية، كمقدمة ضرورية للخروج من الدائرة المقفلة التي أوقعت نفسها فيها، والإنطلاق نحو العمل السياسي والحزبي بمفهومه الوطني الشامل، من أجل تحرير الوطن والمواطن من أعباء الفقر والحاجة والخوف والعجز والمرض...

نأمل أن يكون اللقاء الذي دعت إليه مفوضية العمل في الحزب التقدمي الإشتراكي لرؤساء المكاتب العمالية في الأحزاب اللبنانية فاتحة خير للقاءات دورية بين هذه الأحزاب، تعيد زمام الأمور الإقتصادية والإجتماعية إلى القوى الحية في المجتمع، والتي لا يمكن أن تختلف على الحقوق الطبيعية للناس مهما إختلفت إيديولوجياتها ومصالحها...

تعليقات: