التنظيمات والجماعات الأصولية في المخيمات الفلسطينية [1 - 2]

عصبة الأنصار" تسيطر على أحياء بكاملها في مخيم عين الحلوة

بلوغها مرحلة النضج والبراغماتية يجعلها تتجاوب مع قرارات الجهات الأمنية الرسمية

تتوزع المخيمات الفلسطينية على مساحة كبيرة من لبنان: من الجنوب الى بيروت والجبل والشمال والبقاع، فضلاً عن انتشار فلسطيني كثيف داخل المدن والمناطق اللبنانية. واذا كانت المخيمات الفلسطينية بالامس مجرد تجمعات سكانية لنازحين ولاجئين ينتظرون عودتهم الى ارضهم وديارهم التي اغتصبتها اسرائيل بالقوة. الا انه ومنذ العام 1969، تغيرت صورة المخيمات التي تحولت مراكز تدريب عسكرية، وساحة تجمعات لقوى وفصائل وتنظيمات فلسطينية ارتبط معظمها بأنظمة عربية تتلقى منها تمويلها وتسليحها.

بدأ الفلسطينيون بتشكيل دولتهم المسلحة داخل الدولة اللبنانية، في وقت شرّعت فيه اتفاقية القاهرة ( 3/11/1969 ) العمل الفدائي، والوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وسمحت باقامة معسكرات التدريب الفلسطينية داخل المخيمات، وحتى في الجنوب(العرقوب )، والبقاع، واعطت الفلسطينيين الحق في الاشراف على المخيمات الفلسطينية.

هذا الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان شكّل ومازال، ومنذ الستينات، موضوع خلاف بين اللبنانيين، واشكالية مستمرة، وعاملاً من عوامل عدم الاستقرار، وزعزعة الامن. ولم يكن السلاح الفلسطيني على مرّ الوقت موضع ترحيب من جميع اللبنانيين، بل تحول موضوعاً خلافياً أضيف الى سواه من مواضيع داخلية شائكة، وكان سبباً اساسياً لحرب عانى ظروفها اللبنانيون، ومازالوا لليوم يحصدون عواقبها الوخيمة.

واليوم، عاد موضوع السلاح الفلسطيني يحتل صدارة الاهتمامات الاعلامية والسياسية والامنية محلياً واقليمياً ودولياً، وشكل صدور القرار الدولي 1559، سبباً من اسباب العودة الى البحث جدياً في هذا الموضوع، كون هذا القرار الدولي نص صراحة على "نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية".

وازداد السلاح الفلسطيني خطورة هذه الايام، مع بروز منظمات وجماعات اصولية فلسطينية داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، تضم عناصر من جنسيات مختلفة، ومحاولات تمددها الى خارج المخيمات، واتهام بعضها باعمال امنية واغتيالات وتفجيرات طاولت مواطنين وشخصيات ومؤسسات ومرافق لبنانية، ورأت اوساط امنية لبنانية "ان هذه التنظيمات الظاهرة حديثاً ما هي الا بنادق للايجار، تعمل لحساب أنظمة واجهزة استخباراتية ، وجماعات اصولية وارهابية".

وشكل مخيم عين الحلوة الذي يقع بالقرب من صيدا، التجمع الاساسي لهذه الجماعات والتنظيمات، وهذا المخيم بات في مثابة الخريطة الامنية السياسية المتداخلة والمعقدة، تختلط فيه الافكار الثورية بأنواعها المتطرفة والمعتدلة كلها، الاصولية والعلمانية. ويطلق بعضهم على هذا المخيم لقب "عاصمة الشتات الفلسطيني"، بحيث ان مصير هذا الشتات يتقرر في شوارع هذا المخيم الذي بات ساحة صراعات، وساحة لحروب الاخرين.

اتفاق اوسلو: البداية

ورأت مصادر فلسطينية ان الصراعات العسكرية التي يشهدها المخيم من وقت الى آخر، بدأت منذ توقيع اتفاق اوسلو بين الفلسطينيين واسرائيل، حيث بدأ يومها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات محاولاته للسيطرة على هذا المخيم في اطار سعيه لامتلاك كل الاوراق السياسية والداخلية والخارجية لتوظيفها على طاولة المفاوضات. وكانت التداعيات التي نتجت من هذه الصراعات انشقاق داخل "فتح قاده العقيد الفلسطيني منير المقدح الذي رفض بنود اوسلو، واستطاع ارغام القيادة العرفاتية على الاعتراف بظاهرته كأمر واقع، وتم تخصيص موازنة مالية له ولجماعته وانصاره الذين سوف يعرفون فيما بعد بـ"ميليشيا فتح".

واعتبر مسؤول فلسطيني (رفض ذكر اسمه) ان خطة عرفات للسيطرة على القرارين السياسي والعسكري في مخيم عين الحلوة لاقت مواجهة كبيرة من الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً الاصولية منها التي بدأت تتنامى وتقوى بدعم من جهات محلية واقليمية، وهذا ما دفع بعرفات يومها الى ايجاد توازن رعب بدعمه الوجود الفتحاوي في مخيم الرشيدية، الذي يقوده امين سر منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، العميد سلطان ابو العينين.

فيما اعتبر الزميل ناصر شرارة "ان الاصوليين الاسلاميين الفلسطينيين استفادوا من الانشقاق البنيوي والعمودي الذي اصاب حركة "فتح" في مخيمات لبنان، خصوصا في مخيم عين الحلوة، فعمدوا لاستغلال هذا الشقاق الفتحاوي من اجل انشاء هامش واسع لوجودهم في المخيم، ومع الوقت ادت هذه التناقضات الى تركيز توازن رعب في عين الحلوة، وفر لجميع اطراف الطيف السياسي الفلسطيني امكاناً للوجود والعيش بداخله والاحتماء بدقة توازناته التي تمنع امتلاك اي طرف القدرة على الحسم العسكري".

عصبة الانصار

وجدت التيارات الاصولية الفلسطينية الارض الخصبة لانطلاقتها في مخيم عين الحلوة، وتجلت في بروز اسم تنظيم "عصبة الانصار الاسلامية" الذي اسسه الفلسطيني هشام الشريدي عام 1985. وكان الشريدي من كوادر "فتح"، ومن المسؤولين عن مجموعات فلسطينية شاركت في معارك شرق صيدا ضد "القوات اللبنانية" عام 1985.

في 15/12/1991 اغتيل الشريدي داخل المخيم، واتُهمت حركة فتح باغتياله. بعد اغتياله تولى احمد عبد الكريم السعدي الملقب بـ "ابو محجن"، مسؤولية تنظيم "عصبة الانصار"، وصار يعرف بلقب "امير العصبة" ، ولكن سرعان ما توارى الامير "ابو محجن" عن الانظار، بعد اتهامه باغتيال رئيس "جمعية المشاريع الخيرية" (الاحباش) في بيروت الشيخ نزار الحلبي صيف 1995، ومازال ابو محجن لليوم يدير هذا التنظيم من مخبأ سري، وعندما تسأل مسؤولين في العصبة عن مكان وجود "اميرهم" يرددون "انه في بلاد الله الواسعة" .

الا ان اختفاء "ابو محجن" في "بلاد الله الواسعة"، لم يمنع من ازدياد قوة تنظيم "عصبة الانصار" وتوسع نفوذه داخل مخيم عين الحلوة وسط نسيج شعبي وامني وعسكري وسياسي متنوع، فصارت له مساجده، وزواياه، وشوارعه ومراكز تدريبه، خضعت له احياء بأكملها داخل المخيم، كحي الصفصاف الذي بات كالامارة الاسلامية المصغرة، وحي الطوارىء... واستطاع هذا التنظيم المتأثر بأدبيات تنظيم "التكفير والهجرة" الذي نشأ في مصر على ايدي مجموعة من المبشرين والدعاة، وابرزهم الدكتور ايمن الظواهري (الذي يعد من ابرز مسؤولي تنظيم "القاعدة" حالياً) من تعميم مبدأ "الفقه التكفيري" داخل مخيم عين الحلوة، والذي أدّى الى مزيد من التصفيات والاعتقال والاغتيال "لأعداء الاسلام".

انشقاقات وتصفيات

ولم تسلم "عصبة الانصار" من الانشقاقات التي عصفت بمعظم التنظيمات، ليخرج منها عبدالله الشريدي (نجل مؤسس العصبة هشام الشريدي) ويؤسس "جماعة النور" بالتعاون مع الشيخ اسامة الشهابي، وعماد ياسين. خاضت "عصبة النور" معارك ضارية مع حركة "فتح"، وكانت "عصبة الانصار" تؤازر الشريدي وتتعاطف معه رغم انشقاقه عنها، كونه "كالابن الضال الذي لا بد ان يعود الى منزله الابوي". الا ان مصير عبدالله الشريدي لم يكن افضل من مصير والده، فقضى هو الآخر اغتيالاُ في ايار 2003، وكانت الاتهامات حول اغتياله ايضاً موجهة الى حركة "فتح".

والى جانب الاصوليين الفلسطينيين في عين الحلوة، تدثرت مجموعة من الاصوليين اللبنانيين الذين يُعرفون بـ "جماعة الضنية" بغطاء العصبة، وهم ممن لجأوا الى المخيم بسبب مشاركتهم في المواجهات العسكرية التي حصلت مطلع عام 2000 بين اصوليين لبنانيين من جماعة "التكفير والهجرة" كان يقودهم اللبناني بسام كنج "ابو عائشة"، والجيش اللبناني. وعمدت "عصبة الانصار" الى حمايتهم وتسليحهم، وصار اللبناني غاندي السحمراني "المعروف بـ "أبو رامز الطرابلسي" مسؤولهم الاول وهو من الذين كانوا فروا الى المخيم بتهمة المشاركة في اغتيال الشيخ نزار الحلبي (مسؤول الاحباش). حتى ان عدداً كبيراً من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين المؤمنين بمبدأ "التكفير والهجرة"، تركوا مجتمعاتهم و"أنظمتهم الكافرة" وانضموا الى اصوليي عين الحلوة كاللبناني بديع حمادة (من مواليد القماطية) الذي اعدمته السلطات اللبنانية، بتهمة قتل ثلاثة عسكريين لبنانيين، وغيره من اصوليين من جنسيات مختلفة.

بات مخيم عين الحلوة مركزاً لتدريب الخلايا والشبكات الاصولية الناشطة في تنظيمات تدور في فلك "القاعدة"، وكانت اوساط امنية لبنانية اكدت لـ "النهار": انه خلال التحقيقات التي جرت مع المسؤول الاصولي اليمني معمر عبدالله العوامي الملقب "ابن الشهيد" والذي اعتقل بتهمة تفجير مطعم "الماكدونالدز" في منطقة الدورة في بيروت في 5/4/2003، اكد انه كان يلتقي في مخيم عين الحلوة بمسؤولين أصوليين عرب من تنظيم "القاعدة" من بينهم "ابو صالح المصري، ابو خالد الجزائري، ابو محمد المصري...".

ويؤكد محمد. ج (فلسطيني من عين الحلوة) "ان تدريبات الاصوليين تجري في منطقة النفق في المخيم، وفي حي الطوارىء، والصفصاف باشراف مدربين عسكريين من جنسيات مختلفة، من بينهم عدد من المدربين الاصوليين الفلسطينيين، وبات للاصوليين مساجدهم ومعاهدهم الدينية، ومؤسساتهم ومخيمات تدريبهم، اضافة الى امتلاكهم محطات اذاعية محلية على نطاق ضيق، وبات الانترنت الوسيلة الفضلى في تواصلهم مع قياداتهم في الخارج. فمن خلاله يتلقون التعليمات والارشادات والنشرات الدورية، مستخدمين الرسائل المشفرة المتطورة وفق انظمة اتصال الكترونية حديثة، يديرها خبراء في علم الاتصالات الالكترونية".

ويتمتع الاصوليون بتعاطف من جهات دينية تصنف في خانة الاعتدال، كـ"الحركة الاسلامية المجاهدة" التي يترأسها الشيخ جمال خطاب، و"معهد مرشد الديني" الذي يتولى ادارته الشيخ عبدالله حلاق، فيما يعتبر الشيخ ماهر حمود الاب الروحي للجميع وصمام الامان في اي خلاف بين التنظيمات والفصائل، وهو يلعب دور الاطفائي في مشاكل كثيرة، وعلى تنسيق دائم مع الجهات السياسية والسلطات الامنية اللبنانية، وكان حمود شارك في تأسيس "الجماعة الاسلامية" في صيدا، وتولى مسؤوليات عدة فيها واهمها تأسيس "رابطة الطلاب المسلمين" – فرع الجنوب ما بين العامين 1971/1979، وهو خريج كلية الشريعة في جامعة دمشق، عمه الشيخ محمد انيس سليم حمود الذي كان مفتي صيدا والجنوب.

التطورات العسكرية، والحوادث الدائرة في العراق، أرخت بتأثيراتها على اصوليي عين الحلوة، فشهد المخيم عمليات انتقال لعدد كبير من الاصوليين من المخيم الى سوريا، ومنها الى العراق، للمشاركة في العمليات العسكرية الى جانب جماعة الزرقاوي، و"الجهاديين"، وقُتل عدد كبير منهم على ارض العراق أثناء المواجهات، من بينهم الشيخ صالح قبلاوي، الذي كان يعتبر احد مساعدي ابو مصعب الزرقاوي، ومحمد الهيتي، ومحمد البرشلي، ونجل الشيخ جمال سليمان مسؤول "انصار الله" وغيرهم... حتى ان الاوساط تقدر عدد الذين قتلوا من ابناء مخيمي عين الحلوة والرشيدية في العراق، بحوالى عشرين شاباً حتى اليوم، من بينهم ابناء او اشقاء لمسؤولين في احزاب وتنظيمات اسلامية فلسطينية.

وتشير تقارير امنية الى تحويلات مالية يتلقاها الاصوليون من مشايخ وشخصيات اصولية مقيمة في لندن والدانمارك والمانيا وعدد من دول الخليج العربي، تصل الى ارقام حسابات مصرفية سرية، فضلاً عن تحويلات مالية يتولاها عدد من كبار المسؤولين الاصوليين من تنظيم "القاعدة". وخلال التحقيقات مع اليمني معمر العوامي "ابن الشهيد" في وزارة الدفاع اللبنانية، اكد ان الفلسطيني امين انيس ديب "ابو عبدالله"، كان من الممولين لمعظم العمليات الارهابية التي قام بها الاصوليون في لبنان، وعدد من الدول، وهو أرسل اموالاً لعدد من التنظيمات والخلايا الاصولية، استخدمتها في شراء سلاح وفي اعداد وثائق، وهويات، وجوازات سفر مزورة.

نضج سياسي

وفي الفترة الاخيرة، لوحظ ان تنظيم "عصبة الانصار" وصل الى مرحلة من النضج السياسي، وبات من التنظيمات التي تشارك مع الفصائل الفلسطينية في معظم القضايا واللقاءات التي تهم المخيم وامنه وامن الناس، فضلاً عن تجاوبه الى حد ما مع قرارات تتخذها الجهات الامنية اللبنانية الرسمية. اذ يؤكد مسؤول في "العصبة" انه "يهمنا ان نؤكد ان الحفاظ على امن المخيم ودماء الاطفال والنساء هو من الدين الذي نحرص على اظهاره، والتقرب الى الله عز وجل بالحفاظ على امن الناس وسلامتهم، وان امننا في المخيم هو من امن الجوار، ونحن حريصون على امن لبنان وشعبه، وكل الذين يقفون صخرة في وجه مخططات البيت الابيض وتل ابيب".

واذا كانت "العصبة" قد بلغت مرحلة النضج والهدوء والبراغماتية، الا ان تنظيم "جند الشام"، مازال يشكل عبئاً على الوضع الامني في المخيم، لا بل ان ظهور هذا التنظيم عام 2004 اثار شكوك كثيرين من المسؤولين في التنظيمات الفلسطينية حول خلفيته والجهات التي تحركه، خصوصاً بعد ارتباط اسم "جند الشام" بتفجيرات واغتيالات حصلت في مخيم عين الحلوة، واعتبر بيان صدر عن "فتح"، و"منظمة التحرير الفلسطينية" خلال اجتماع طارىء عقدته في تموز 2004 لمعالجة اشكالات امنية بين "جند الشام" و"الكفاح المسلح" ان "جند الشام" عبارة عن مجموعة صغيرة لديها ارتباطاتها بالعدو الصهيوني، وهي موتورة جاءت من خارج المخيم وتقوم بأعمال تخريبية. وكان العميد سلطان ابو العينين قد اتهم "جند الشام" بالعمل لمصلحة "الموساد" الاسرائيلي مؤكداً ان تاريخ "ابو يوسف شرقيه" (مسؤول "جند الشام" وقتذاك)، معروف للجميع، وهو من المشكوك في ولائهم...".

تعليقات: