قصور المغتربين في الجنوب مساكن للنواطير

   تكاد القصور تكون عبارة عن لوحات فنية مجمّدة (علي حشيشو)
 تكاد القصور تكون عبارة عن لوحات فنية مجمّدة (علي حشيشو)


كلّما اشتهرت قرية باغتراب أبنائها، ارتفع عدد القصور فيها. حتى باتت الهجرة مرادفاً للقصور الخاوية. يزورها أصحابها لأيام معدودة سنوياً، من دون أن يخفي عدد منهم ندمه لأنه بنى منزلاً كبيراً لا يستطيع الاستفادة منه

«قصر الناطور السوداني»، هذا هو الاسم الذي يُعرف به أحد قصور بلدة مركبا الحدودية. الأهالي هنا لا يعرفون أولاد صاحب القصر. فهم مغتربون، قلّما يأتون إلى القصر الكبير الذي بناه والدهم المتوفى وتكلّف على بنائه أكثر من ثلاثة ملايين دولار. لذلك ارتبط اسم القصر، باسم ناطوره السوداني الجنسية، المقيم فيه مع زوجته، ينعم بجماله وخيرات ثمار الأرض المحيطة به الكثيرة. في بلدة مركبا عشرات القصور الفخمة، لكن الفارعة. معظمها بني بعد التحرير ولا يقصدها أصحابها إلاّ في المناسبات، باستثناء قصر واحد، كما يشير ابن البلدة أبو جلال مسلماني (57 سنة). وهو الأمر نفسه في معظم القرى المشهورة باغتراب أبنائها، ولا سيما يارون الحدودية، إذ يتوزّع أكثر من نصف أبنائها على قارات العالم الخمس، وخصوصاً أميركا واستراليا وكولومبيا وباناما. وقد بنى هؤلاء أكثر من 300 قصر بملايين الدولارات، علماً بأن معظمها غير مأهول طوال العام.

ويؤكد المقيمون اليوم في هذه القرى على أهمية الدور الذي يؤديه المغتربون في تحريك العجلة الاقتصادية وزيادة فرص العمل، تحديداً في قطاع البناء. فقد بنى هؤلاء مئات القصور الفخمة التي تسحر الأعين بجمالها، وهي تدلّ على الأموال الطائلة التي دفعت على بنائها، ولكن اللاّفت أنها فارغة من أصحابها، ولا يسكنها إلاّ النواطير من الجنسيات العربية، ما يشير الى أن مئات الملايين من الدولارات باتت مجمدة في أماكن هي أشبه بلوحات فنية جامدة، يشاهدها أصحابها لأيام قليلة، كلّ عام.

في أحد قصور بلدة شقرا (بنت جبيل) يلعب الطفل السوري قصي الجاسم (6 سنوات) مع أخوته الأربعة، في حديقة مجهزة بكل ما يلزم لرفاهية الأطفال. هولا يمزح عندما يقول «لا أريد العودة الى سوريا، أنا ألعب هنا كثيراً، وكل شيء مؤمن لنا».

ينصح المهندسون بالاعتناء بالحدائق التي ثبت أنها الأكثر استخداماً

فيما يقوم والده بقطاف وتشحيل الأشجار المثمرة، مقابل بدل مالي يعادل 400 ألف ليرة، مع السماح له بالعمل خارج القصر. يرى الأخير أن «العمل في خدمة القصور فرصة استثنائية للنازحين السوريين، فنحن بذلك نوفر أكثر من 300 الف ليرة كنا سندفعها مقابل أجرة منزل خاص بنا»، ويؤكد أن «عشرات النازحين يعملون في قصور المنطقة الفارغة، يعتنون بحدائقها، ويؤمنون حراستها، ويأخذون حاجاتهم من ثمار الأشجار المزروعة، بانتظار قدوم أصحاب القصور، الذين لا يأتون إلا صيفاً ولأيام قليلة فقط».

يعبّر المغترب جواد خلف عن ندمه على بناء قصره الكبير، الذي كلّفه مئات الآلاف من الدولارات. يقول «أنا اليوم أسكن فيه مع زوجتي والخادمة. أما أولادي فمسافرون، ويفضلون الإقامة في بيوت مستقلة، لذلك كان الأجدى لي أن أبني منازل صغيرة لهم بدل هذا القصر الضخم الذي لا نستطيع الاعتناء بتنظيفه كل يوم، ولذلك اخترنا بعض الغرف للسكن فيها وتركنا الغرف الباقية مقفلة».

وهذا ما يؤكده أحد مهندسي البناء في بلدة شقرا، التي تضمّ وحدها أكثر من مئتي قصر للمغتربين، فيما تقفر أحياء بكاملها معظم أيام السنة. يقول المهندس «أحد المغتربين دفع مليوني دولار على بناء قصره، وهو اليوم يقيم في الغرف السفلية المعدّة أصلاً للناطور، فهولا يستطيع مع زوجته الاعتناء بطوابق القصر الثلاثة، لأن أولاده بنوا منازلهم في أماكن أخرى، ولا يقصدون البلدة إلا لأيام». وينصح جميع الأغنياء بـ«بناء منازل صغيرة، من طبقة واحدة، والاعتناء بالحدائق الخارجية التي ثبت انها الأكثر حاجة واستخداماً».

يذكر أن أول قصر بني في شقرا عام 1964، بحيطان أسمنتية وسقف من أحجار الباطون (هوردي) كان للمرحوم عبد الهادي صالح، ومن وقتها بدأت قصور شقرا تتنامى، لتزداد بكثرة في الثمانينيات.

لكن لماذا يبني هؤلاء هذه القصور؟

عندما قرر عبدالله فرحات، بناء قصره الجديد، قبل أن تتراجع أحواله المادية، لم يكن يفكر سوى «ببناء بيت جميل يضاهي في جماله قصور أبناء بلدته». كان يعلم أنه لن يقيم فيه إلاّ لأيام قليلة كل عام، لكنه اليوم وبعدما أعاد حساب الكلفة المالية التي تكبدها على بنائه، اكتشف أن هذه الكلفة كانت ستتيح له الإقامة في أفخم فنادق لبنان طيلة أيام حياته الباقية، أو تؤمن العيش الرغيد لأولاده خلال سنوات طويلة.

رغبة ابناء القرى والبلدات، الزراعية سابقاً، في بناء القصور، تعود الى «مرارة عيش هؤلاء أيام الزراعة والفقر، عندما كانوا يسكنون في بيوت صغيرة، عبارة عن غرفة أو غرفتين، مع عائلاتهم الكبيرة» يقول المغترب علي غشام، ابن بلدة يارون الحدودية. يذكّر بأن «معظم المغتربين، من كبار السن اليوم، هاجروا ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب الحرمان أيضا». «كانوا ينظرون الى بيوت الإقطاعيين الكبيرة، ويحلمون ببناء أجمل منها، وهذا ما حصل. وأصبحت ظاهرة بناء القصور طريقة للتباهي بين الأغنياء، وحتى بين متوسطي الدخل، الذين دفع بعضهم الجزء الأكبر من أمواله لبناء القصور».

في المقابل، لم يعمد أحد من أصحاب هذه القصور الى بناء مصنع أو معمل، لتشغيل ما تبقى من المقيمين. وهذا ما يجعل أحلام هؤلاء مقتصرة على الهجرة.

حول دكان صغير في يارون، يتناوب على الجلوس على ثلاثة مقاعد خمسة شبان صغار، لا يتجاوز عمر أكبرهم 25 عاماً. أفكار وأحلام كثيرة تراودهم، تتعلق بالهجرة أو الوظيفة «الميؤوس من الحصول عليها»، «لا أمل في العمل هنا» يقول أحدهم بحسرة، «البلدة تزينها القصور الفخمة، لكنها تخلو من المعامل وفرص الانتاج، حتى ان أعمال البناء توقفت، وأصبحت الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة هي المطلوبة لإنجاز بعض الأعمال المتعلقة بورش البناء».

تعليقات: