فوضى البناء تستشري والقيمون غائيون

البناء العشوائي في احدى ضواحي العاصمة
البناء العشوائي في احدى ضواحي العاصمة


قرار السبع فتح أبواب فوضى البناء

من يتحمّل مسؤولية الفوضى في أعمال البناء المخالف التي شهدت طفرة بعد قرار وزير الداخلية حصر قمع المخالفات بالسلطات الإدارية؟

ومن يتحمّل مسؤولية الخطر المحدق بالمباني الجديدة الهشة في أحياء الفقراء، إضافة إلى خطر إصابة المواطنين ورجال الأمن خلال المناوشات التي تحصل بين الطرفين؟

عود على بدء في حي السلّم: مخالفات بناء وإطلاق نار ولعبة القط والفأر بين مواطنين وقوى الأمن الداخلي، التي قال أحد ضباطها لـ«الأخبار» إن قرار وزير الداخلية والبلديات حسن السبع، القاضي بحصر صلاحية قمع المخالفات على الأملاك الخاصة بالسلطات الإدارية، كان المفتاح الذي شرع باب فوضى البناء، لا في حي السلم فقط، بل في كل المناطق اللبنانية، وخاصة الفقيرة منها.

فالمسألة في هذه المناطق، على حد قول الضابط، أكثر تعقيداً مما تبدو: الأراضي التي يملكها المواطنون غير مفرزة، وبالتالي، هم لا يتمكنون من نيل رخص قانونية للبناء. وعندما أصدر السبع قراراً يوم 21 أيلول منع فيه قوى الأمن الداخلي من المبادرة إلى قمع مخالفات البناء على الأملاك الخاصة، وحصر هذا الأمر بالبلديات والقائمقامين والمحافظين، لم يستشر البلديات التي تبيّن عجزها عن أداء هذه المهمة. ورغم أن البلديات رفعت صوتها منذ الأيام الأولى، عدا أن الأجهزة الأمنية أعدّت تقارير عن بدء المواطنين في مناطق مختلفة بالعمل في ورش غير مرخّصة، لم يحرّك أحد ساكناً، إلى أن عاد الوزير يوم 29 تشرين الأول عن قراره. القرار الأول علّله السبع بانهماك المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بحفظ الأمن والنظام في البلاد، وعدم قدرتها على متابعة هذا الأمر، أما القرار الثاني فعلّله بعدم قدرة البلديات على قمع المخالفات.

وبين القرارين، أكثر من ألف ورشة بناء من دون ترخيص بحسب مصدر أمني رفيع. وبعد صدور القرار الثاني، كانت توجيهات قيادة الدرك للقطعات الإقليمية بعدم الاصطدام مع المواطنين، وعدم المبادرة إلى هدم أي مخالفة قيد الإنشاء، والسماح للمواطنين باستكمال ما بدأوا تنفيذه. لكن التوجيهات ذاتها شدّدت على منع إدخال مواد البناء إلى المناطق التي تشهد أبنية مخالفة، والتشدد بقمع من يريدون المبادرة إلى البناء.

أكمل الضابط المسؤول عن إحدى المناطق التي شهدت طفرة بناء عشوائي من دون تراخيص: بعض الناس باعوا ما يملكونه من مجوهرات على قلتها، واستدانوا فوقها لبناء سقف لأبنائهم. وأتى القرار الثاني لوزير الداخلية كأنه يريد أن يحمّل قوى الأمن الداخلي مسؤولية غير إنسانية لقرارات غير مدروسة.

فتى جريح

ويوم الاثنين الماضي، في منطقة حي السلم ـــــ العمروسية ـــــ مفرق التيرو، أطلق مجنّد في قوى الأمن الداخلي النار على الفتى محمد سلهب (16 عاماً)، فأصابه برصاصة في ركبته. وللأسباب روايتان. الأولى، رواها سلهب لـ«الأخبار» وهو على فراشه في مستشفى الرسول الأعظم: كان والدي ينقل مواد بناء إلى إحدى الورش في حي السلم، فطلب منه المجند بطاقة الهوية، فامتثل والدي ثم غادر. بعدها بدأ المجنّد بكيل الشتائم لوالدي لأنه لم يدفع له رشوة. وعندما طلبت منه الكف عن السباب، صار يرشقني بالحجارة، ثم لقّم بندقيته ووجهها إلى صدري، فأمسكت بالبندقية وحاولت توجيهها نحو الأرض، لكن المجند أطلق ثلاث رصاصات أصابتني واحدة منها في ركبتي.

اما الرواية الثانية، فنقلها مصدر أمني لـ«الأخبار» بالقول «إن المجنّد كان يقوم بواجبه مانعاً إدخال مواد البناء إلى منطقة حي السلم. وعندما حاول توقيف إحدى الشاحنات الصغيرة، تجمهر 10 شبان وهجموا عليه وبدأوا برشقه بالحجارة. عندها اضطر المجند لتفريقهم، فأطلق عياراً نارياً واحداً أصاب بالخطأ الفتى سلهب برجله».

وذكر أحد أفراد عائلة سلهب في المستشفى لـ«الأخبار» أن عدداً من أبناء المنطقة أخذوا المجنّد المذكور إلى مركز فصيلة المريجة في قوى الأمن الداخلي. وأكّد أن اتصالاً ورد إلى العائلة من أحد ضباط قوى الأمن تعهّد خلاله الضابط بدفع كل تكاليف علاج الفتى الجريح.

«ضد الفوضى»

حادثة إطلاق النار على سلهب لم تغيّر في واقع الحال شيئاً. إذ يمكن زائر بعض الشوارع والأزقة في حي السلم والعمروسية ملاحظة أن استكمال الورش المقامة سائر على قدم وساق، وكذلك تحضيرات البدء بورش جديدة.

وبسؤال أحد أصحاب المنازل عن سبب بنائه من دون ترخيص، بادر بالقول إنه «ضد الفوضى»، وأضاف: أنا لا أتعدّى على أملاك أحد، والأرض التي أبني فوقها ملك لي. وأيام الحرب الأهلية اشترينا عقارات لكننا لم نفرزها. وحالياً يكلفني الفرز أكثر من البناء، هذا في حال تجاوب معي كل شركائي في العقار. وبسبب عدم الفرز، لم تمنحني البلدية ترخيصاً للبناء، فاستغللت قرار وزير الداخلية لأضيف طبقة جديدة إلى منزلي.

وعن كيفية الحصول على مواد البناء رغم الحصار الأمني المفروض على المنطقة، قال أحد متعهّدي البناء لـ«الأخبار»: يكلّفني غض القوى الأمنية طرفها عن ورشة أعمل فيها بين 500 و1000 دولار أدفعها لأحد الرتباء أو الضباط. أما إدخال شاحنة مواد بناء، فتكلفني بين 20 ألف ليرة و100 دولار أدفعها لعناصر الحاجز أو الدورية».

بدوره، حذّر متعهّد آخر من أن إجراءات القوى الأمنية تدفع المتعهّدين إلى الإسراع في تنفيذ أعمال البناء، مما يشكل خطورة على متانة وتماسك الأسقف المبنية. ويضرب مثلاً ما جرى قبل عشرة أيام، حين انهار سقف جديد في منطقة العمروسية مباشرة بعد تفكيك خشب الدعم.

--------------------------------------

مخالفات البناء:مخطّط توجيهي ينتظر التشريعات

30 ت2 2007

ليلى رمال

مخالفات البناء في لبنان ليست جديدة، لكن استفاقة الدولة اللبنانية على قمعها بعد الحرب الاسرائيلية هي الجديد. وفي ظل غياب تشريع المخطط التوجيهي الشامل للأراضي اللبنانية، تبدو إعادة البناء في عدد من المناطق اللبنانية بالغة الصعوبة، ولا سيما أن قانون تسوية الأوضاع الاخير يمنع تكرار المخالفة عند إعادة البناء

كثيرة هي المناطق التي توجد فيها مخالفات البناء في لبنان، لكن بما أن الضاحية الجنوبية نالت حصة الأسد من الدمار، فقد سلّط الضوء عليها اكثر من سواها، ولا سيما بعد القرار الوزاري الذي اتُّخذ الاسبوع الفائت وقضى بقمع مخالفات البناء على انواعها في أراضي الغير في الضاحية الجنوبية، ولا سيما في الرمل العالي وطريق المطار وحرج القتيل.

وجدت مخالفات البناء أرضيّة خصبة في لبنان خلال الاحتلال الإسرائيلي وفترة الحرب الأهلية، إذ غضّت الدولة نظرها عن هذه الملفات في ظل انهماكها في أمور أخرى. ومع ازدياد حركة التهجير من الجنوب، كان من الطبيعي أن تزداد هذه المخالفات ولا سيما في المناطق التي قصدها النازحون رغماً عن إرادتهم. وساهم التوسع السكاني في تفاقم حدة المشكلة. كل انواع المخالفات موجودة في لبنان، الأفقي منها والسطحي، بدءاً من زيادة الاستثمار، أي البناء على مساحة اكبر من تلك التي يسمح بها القانون، مروراً بالتعدّي على الأملاك الخاصة، أي البناء على أراض يملكها أشخاص أو مؤسسات أو تعود إلى أوقاف، وصولاً إلى التعدّي على أملاك الدولة والمشاعات. لكن المشكلة الأهم في هذا القطاع هي وجود مساحات كبرى من الأراضي والعقارات غير الممسوحة أو المفروزة بعد، كما هي الحال في الرمل العالي والأوزاعي والخيام وبنت جبيل وصديقين وسواها. ولا بد للمتجول في منطقة الضاحية من أن يلاحظ الحركة النشطة للبناء، حتى إن بعض المواطنين باشروا إعادة البناء بمجرد انتهاء العدوان. وبعض من بدأ البناء يؤكد أنه لن يتوقف برغم معرفته بأنه يخالف القانون. الأهالي هناك غاضبون من الحادث الذي شهدته شوارع الرمل العالي. يستغربون استفاقة الدولة المفاجئة، ويسألون اين كانت طيلة السنين الفائتة ولماذا لم تأت من قبل لقمع المخالفات. ومن كان منهم أقلّ انفعالاً يؤكّد أن احترام القانون أولوية عند كل مواطن، لكن أين الحلول البديلة التي تقدّمها الدولة؟ وهل الوضع يحتمل الانتظار أكثر؟

تقصير الدولة لا يتوقف هنا فحسب، فالحديث عن مخالفات البناء يقود للسؤال: إلى متى سيظل المخطط التوجيهي الشامل للأراضي اللبنانية والذي يحدد الإطار العام لاستراتيجية تنظيم المناطق على المدى الطويل نائماً في أدراج الحكومة؟

بدأ الحديث عن هذا المخطط منذ استحداث وزارة للتخطيط في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وكل القوانين الصادرة عن التنظيم المدني ومجلس الإنماء والإعمار منذ تاريخه أوصت بضرورة المباشرة بإنجازه، لكن من دون جدوى. أعيد العمل في المخطط إلى المجلس النيابي منذ عام 2002، ورفع الى مجلس الوزراء في عام 2005، وحتى اليوم لم يُحل بعد الى مجلس النواب لإقراره وتشريعه.

عضو مجلس نقابة المهندسين في لبنان، ورئيس فرع المدنيين فيها، المهندس بول نجم يتوقف، في حديث لـ«الأخبار»، عند الحاجة الماسّة اليوم الى تسريع إقرار المخطط التوجيهي الشامل، وبرغم ثقته بأن تسريعه لن يساعد على خلوّه من الثغر، يعتقد بأنه من الضروري البدء من مكان ما وإصدار الأنظمة. ففي الجنوب وحده، حيث قُدّر عدد الوحدات السكنية المتضررة بـ4000 وحدة، لا يمكن الحصول على إفادات عقارية لأكثر من 40% من هذه الوحدات. وأهمية المخطط التوجيهي الشامل تكمن، في ظل ازدياد عدد السكان، وخاصة أن لبنان من بين الدول العشر الأوائل الأكثر كثافة سكانية في العالم، في تحقيق التنمية المتوازنة في المناطق. وهذه مسألة اساسية في لبنان باعتباره بلداً طائفياً، وهي محل تجاذبات وسجالات. كما أن من شأن المخطط الشامل تحديد نسبة الاستثمار في كل منطقة انطلاقاً من واقعها وحاجاتها ومستقبلها. ومع التهجير في لبنان، في مرحلة العودة التي لم تكتمل فصولها بعد، اشترط القانون الخاص الذي صدر، والمتعلق بالسماح بإعادة البناء، شرط عدم التعدي وخاصة على الأملاك العامة، حتى لو تمت التسوية بموجب قانون خاص. قانون تسوية الأوضاع الأخير صدر في عام 1994، إلّا أنه، وكما يوضح نجم، يشترط في عملية اعادة البناء عدم التعدي على اراضي الغير، بمعنى أنه لا يجيز تكرار المخالفة أكثر من مرة.

وهنا تبدو مسألة التعدّي في الرمل العالي عينة صغيرة مما هو حاصل في الجنوب، فإذا اراد اهالي الخيام وصديقين وبنت جبيل، وأراضيها غير ممسوحة بعد، إعادة الإعمار، فما الذي سيحدد مخالفة قانون البناء أو عدمها؟

معروف أن الدولة القطرية تبرعت بمبلغ 300 مليون دولار لإعادة إعمار هذه القرى الثلاث، والمفارقة أن المتعهد شركة خاصة، بمعنى أن المبلغ لم يسلّم للدولة اللبنانية، ويجري توزيع الأموال على الأهالي استناداً إلى مسح أجراه مجلس الجنوب. لكن المال ليس كل شيء في هذا الإطار، فهناك البنى التحتية، والأسس التي ستعتمد في إعادة البناء في ظل غياب خرائط مسح نهائية، وهل ستراعى، خلال عملية البناء، إعادة ملامح المنطقة؟ وماذا عن إزالة التعديات وما هي البدائل؟ اسئلة برسم المعنيين تنتظر من يجد اجوبتها.

نقابة المهندسين، كما يقول نجم، لا تقف مكتوفة الايدي، وهي باشرت اجتماعاتها منذ بدء العدوان من أجل إعداد خطة طوارئ لما بعد العدوان. ولجان المهندسين التي ألّفتها باشرت بأعمال المسح، وجهازها التطوعي الذي يضم 500 مهندس، يساعد الأهالي المتضررين من خلال تسريع العمل برخص البناء التي يُعمل على إنجازها في مهلة اسبوعين حدّاً أقصى، بعدما كان إنجازها يستغرق اكثر من ثلاثة أشهر. والنقابة اليوم في صدد طرح اقتراح مشروع قانون على رئاسة الحكومة ولجنة الاشغال النيابية، بشأن الإمكانات والاحتمالات المتاحة للتصرف في المناطق المنكوبة. ومن بين الحلول المقدمة: أن تدفع الدول المانحة ثمن الأراضي الى الدولة اللبنانية التي بدورها تسمح للمواطنين بالعودة إلى منازلهم وإعادة الإعمار بدون الإخلال بالقوانين. والاقتراح الثاني هو ما يسمّى بالإيجار الحكري، كما هي الحال بالنسبة إلى الأوقاف، فهي لا تبيع بل تؤجّر لتسعة وتسعين عاماً...

اما في ما يتعلق بالضاحية، فالتعدي لا يطاول أملاك الدولة فحسب، بل يشمل أيضاً أملاك المواطنين. وفي هذا الإطار، يشير المهندس سيزار أبي خليل (لجنة العودة في التيار الوطني الحر) إلى أن التيار الوطني الحر في صدد متابعة مصير أراضي المهجّرين في المنطقة، ويجري إعداد ملف متكامل لمراجعته مع الأجهزة المختصة.

ويؤكد أن «دور الدولة الأساسي هو رعاية شؤون المواطنين وحماية مصالحهم وتوفير وسائل الرفاه، لكن الدولة نائمة منذ 40 سنة على موضوع المخالفات، وإذ باستفاقة فجائية تريد أن تنفّذ القانون بالقوة»، مشدّداً على أن «المطلوب بالتأكيد هو تطبيق القانون وعدم المخالفات، لكن بالمقابل، على الدولة إيجاد حلول قبل استخدام العنف».

تعليقات: