سليم غزال مطران صيدا وشيخها


•نال «جائزة السلام» بعدما «عاش» حوار الأديان على الأرض

بعد 45 عاماً قضاها المطران سليم غزال في خدمة أهالي مدينة صيدا والجنوب، بعيداً عن الأضواء، جاءه التكريم من أميركا. فحاز أخيراً على جائزة «السلام على الأرض» التي سبق وحصل عليها القسّ مارتن لوثر كينغ والأم تيريزا والمطران ديزموند توتو...

كانت الحرب الأهلية قد انتهت، وكان المطران سليم غزال يشارك في مؤتمر ديني عقد في حاريصا. عندما حان دوره لإلقاء محاضرته، مسح نظارته قبل وضعها على عينيه، فقال له أحد الحاضرين: لست بحاجة إلى مسحها سيادة المطران، لأنك أنت من كان يرى إلى البعيد ونحن لم نكن نفعل ذلك...

لا ينسى المطران سليم غزال هذه العبارة، وهو الذي انتظرها طويلاً من عدد كبير من زملائه الذين لاموه وانتقدوا مواقفه التي اتّخذها في سنوات الحرب الأهلية، غير مقدّرين أهمية الدور الذي لعبه كجسر تواصل بين المسلمين والمسيحيين، لا سيما في مرحلة التهجير المسيحي من قرى شرقي صيدا منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.

في ذلك الوقت، رفض المطران غزال السير في مشروع تهجير المسيحيين وحاول إقناعهم بعدم مغادرة قراهم والرحيل باتجاه الشريط الحدودي المحتل (بعد تحرير صيدا من الاحتلال الاسرائيلي). يتذكر: "يوم سقوط شرقي صيدا، كنت في بلدتي روم وجزين، الناس اتجهت صوب الشريط الحدودي، فيما بقيت أصرّح أنني ضد أن نكون أكياس رمل على حدود لبنان الجنوبي مع اسرائيل. وبالفعل رفضت المغادرة ونزلت إلى صيدا حيث التفّت حولي فعاليات المدينة، وصرت أنادي بعودة المهجرين وعملنا سنوات طويلة بمشقة وصعوبة حتى عاد القسم الأكبر من أبناء المنطقة إلى قراهم وبلداتهم».

لكن عدداً كبيراً من المسيحيين لم يفهموا دوره آنذاك: «قالوا إني فلّيت مع المسلمين، لكني كنت مع المسلمين المعتدلين ننادي لعودة الناس ونحضّر لهم هذه العودة. وعندما عادوا لاحقاً إلى قراهم عرفوا قيمة بقائي خصوصاً أني حافظت على وجود دار العناية».

دار العناية هي المؤسسة الاجتماعية التي شارك غزال في تأسيسها مع البطريرك الحالي للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام والمطران جورج كويتر، من أجل رعاية الأيتام والحالات الاجتماعية الصعبة: «احتضنت هذه المؤسسة المحتاجين من مسلمين ومسيحيين، وبقيت صامدة رغم تهدّم كل القرى من حولها بعد أن خصّصت لها فعاليات صيدا حراسة حتى لا يحصل تعدّ من فئات متطرّفة أو التي قد تفتعل مشاكل. وعندما بدأت العودة إلى القرى (بعد اتفاق الطائف)، صار الناس يقيمون فيها في انتظار ترميم بيوتهم».

لم يؤثر زيّ غزال الديني، ولا موقعه الكنسي على علاقاته مع فعاليات صيدا ومحيطها «بالعكس كان المسلمون ينظرون إليّ نظرة احترام وتقدير وتعاون». والسبب يعود إلى دوره التوحيدي الذي اضطلع به منذ انتدبته كنيسته لرعاية أبناء طائفته في المنطقة في العام 1961. آنذاك كان يعلّم الدين في المدارس الرسمية "وكنت على علاقة مميزة مع المسلمين. تصادقت مع الشيخ الذي يعلّم الدين الإسلامي في ثانوية عين الحلوة التي كانت تسمى باسم مدرسة الزعتري نسبة إلى مديرها الأستاذ مصطفى الزعتري والذي جعلها من نخبة المدارس. وكان المدير يعطي الحرية للطلاب ليحضروا صفوف الدين أينما أرادوا. وغالباً ما كنت أتبادل أنا والشيخ الصفوف، فأدخل أنا إلى صفوف المسلمين والعكس ما بنى لي الكثر من الصداقات».

يعيد غزال نجاحه في هذا الإطار إلى أنه لم يتعامل مع الحوار على أساس النقاش في العقيدة. «لم أركز على الفروقات الدينية بل على إعداد مواطن صالح. أنا لم أتخصص في الجامعات ولم أولّف كتباً عن الحوار بل عشته على الأرض».

الخزّان الأساسي لهذه العلاقة الطيبة مع «الآخر» كانت بلدة مشغرة البقاعية، مسقط رأس المطران: «كانت هذه البلدة تضمّ الأحزاب العقائدية وليس الطائفية. هي خليط من المسلمين والمسيحيين وعشنا فيها الطفولة سوياً. هذه البلدة كانت رصيدي الأول والمدرسة الأولى التي تعلمت فيها فن العيش المشترك». في التاسعة عشرة شعر غزال بميل إلى التكرّس لخدمة الرب «أتيت إلى دير المخلّص، حيث المنطقة مختلطة أيضاً فلم يتغيّر عليّ الكثير. تفاعلت مع هذه الجيرة. وعندما انتدبت إلى صيدا والجنوب أكملت هذه المسيرة، لكن في ظروف صعبة خلال الحرب مع wwالتقسيم النفسي بين المواطنين أنفسهم».

العمل الاجتماعي كان وسيلة النجاة الوحيدة من هذا التقسيم، وقد انخرط فيه غزال منذ الستينيات في إطار محاولة توسيع نشاطات «الحركة الاجتماعية» التي أسسها المطران غريغوار حدّاد مع الإمام موسى الصدر: «كلّ الذين عملوا في الحقل الاجتماعي بقوا منفتحين على الجميع وبقيت المؤسسات الاجتماعية تشكل جسراً بين المواطنين».

في مرحلة لاحقة، شارك في تأسيس دار العناية. كما أسّس بعد الحرب مع مجموعة من المثقفين (مسلمين ومسيحيين) «حلقة التنمية والحوار»، التي ساهمت في أكثر من برنامج تنموي وتوعوي مثل «برنامج التربية على السلام» والتأهيل المهني للميليشيات و«برنامج البيت السعيد» وغيرها...

إلى كلّ هذه النشاطات، يدير غزال (وحلقة التنمية والحوار) مشروع قروض الترميم التي تؤمنها المؤسسة العالمية "habitat" التي تعرّف إليها عام 2001 عن طريق أحد اصدقائه (زاهي عازار). «عرض المشروع عليّ وتأكدنا أن أهداف المشروع مفيدة لمنطقتنا وبعيدة عن كل غايات سياسية فوافقنا عليها وبدأنا نعطي قروضا للترميم من دون فوائد». وقد ساهمت هذه القروض في تفعيل عودة الكثير من المسيحيين إلى قراهم. أما بعد الحرب الاسرائيلية الأخيرة فقد قدّمت المؤسسة هبات لأصحاب البيوت المتضرّرة «والآن هناك مشروع لتقديم دراسات هندسية لـ750 بيتاً مهدّماً».الخادم الشاهد لكلّ الناس...

العمل الجدّي الذي رعاه المطران و«حلقة التنمية والحوار» هو ما عرّفه إلى دان موصللي (الحائز على جائزة السلام والحرية في الأرض العام الفائت) والذي ذكر اسم غزال في كلمته التي ألقاها خلال تلقيه الجائزة، فتحمست اللجنة للتعرّف إلى هذا الرجل وطلبت أن تعرف المزيد عنه... وهكذا كان.

يوصف المطران غزال بالعلماني، وهو لا يرفض هذه التسمية، كما يبتسم حين يتذكر أن هناك من يناديه «الشيخ» سليم. يقول: «رأينا أين أوصلنا التعصّب الطائفي والطائفية في هذا البلد. هذه المرحلة التي نجتازها في لبنان تظهر أهمية التربية على المواطنية التي تطال كلّ شرائح المجتمع من أي طائفة ودين ومذهب. نعم، يمكن القول إني مع العلمنة أو النظام المدني أيضاً لأن الكلمة الأولى تخيف بعض الشرائح في مجتمعنا».

هاجس الوطن والتربية على المواطنة هي التي دفعت غزال إلى المشاركة في إطلاق «صرخة ضمير» كان يفترض أن تتم قبل أسبوعين، وقد دُعي إليها الصحافيون لكنها ألغيت. يقول غزال: «توجهت تحت المطر وانتظرت أكثر من ساعة في انتظار وصول بقية المشاركين لكن لم يأتِ إلا سبعة أشخاص من أصل ثلاثين»، كاشفاً أن المطر قد يكون سبباً لعدم التلاقي لكن هناك أيضاً «ارتباط عدد من المثقفين مع مجموعة من طرفي الصراع على الأرض، علماً أن المطلوب أن نكون نحن المثقفين جسراً بين الفئتين».

قصة الجائزة

في العام 1963 أصدر البابا يوحنا الثالث والعشرين رسالة أسماها "السلام على الأرض". تحوّلت إلى جائزة تقدّمها مؤسسات دينية وأهلية في أميركا (أبرزها مطرانية دافنبورت الكاثوليكية). ومن الشخصيات المعروفة لنا التي حصلت عليها: مارثن لوثر كينغ، الأب توتو الذي ناضل ضد العرقية، الأم تيريزا...

وبحصول المطران غزال على هذه الجائزة يكون الأول في منطقة الشرق الأوسط. علماً أنه اتصل قبل الموافقة على استلامها بصحافيين لبنانيين يسألهم عنها وعن خلفيتها وإن كانت مسيّسة، "أجابوني أن لا، وإنها غير مرتبطة مع الحكومة الأميركية".

ويبدو غزال مسروراً برحلته الأميركية التي أتاحت له اكتشاف أشياء جديدة أهمها أن «الشعب الأميركي بالعموم شعب طيب وقلّما يتعاطى السياسة العليا لدولته، وأن نسبة كبيرة منهم مع القضايا المحقة والعادلة في شرقنا، إن كان في فلسطين أو العراق أو لبنان». لكن ما لفته أن السؤال المتكرّر من الصحافيين كان عن الحوار مع اليهود «وكانت إجابتي إننا لسنا ضد الديانة اليهودية. المشكلة سياسية مع الصهاينة الذين احتلوا أرضاً وطردوا شعباً». الأهم في هذا المجال، أن غزال لم يتلقّ أي تهنئة رسمية من الدولة اللبنانية، واقتصرت الاتصالات التي تلقاها على سياسيي المنطقة وفعالياتها.

الخادم الشاهد لكلّ الناس... هكذا يفهم تعاليم الكنيسة
الخادم الشاهد لكلّ الناس... هكذا يفهم تعاليم الكنيسة


تعليقات: