انتخاب الجنرال وانتصار «الربيع الطائفي»


قريباً يقال: وداعاً للطائفية المزغولة. انتهى زمن الطائفية العرجاء. لم يعد مجدياً أبداً تلوين الكيان بما ينتسب إلى الوطن. غداً، هو زمن الطائفية الخالصة. لقد بلغ لبنان حالة النقاء الطائفي. غداً، لن ينتصر الجنرال ميشال عون فقط، بل ستسجل الطائفية أفدح انتصاراتها على اللبنانيين. غداً، لبنان طائفي مئة في المئة.

كان متوقعاً أن يتدرّج لبنان، بعد استقلاله، من الحالة الطائفية إلى المسار الوطني. قيل، إنها لساعة عظيمة تلك التي يصار فيها إلغاء الطائفية. حدث العكس بالتمام. قيل بعد الحروب الطائفية المدمّرة، كلام بصيغة الأمل. جاء الميثاق الوطني على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه». حدث العكس تحديداً. وُضِعت خريطة طريق، بعد الجحيم اللبناني، الذي سبق جهنم ما بعد الربيع العربي، للانتقال من حال الأتباع إلى عافية المواطنة. حدث الضد بالتمام. حَلُم «الطائف» بلبنان معافى، ولو بعد عقود، فأكد «مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، واتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية... ودراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية». لم يلتفت أحد. نص الدستور على حتمية إنهاء النظام الطائفي، وأنشأ موادّ محددة تفترض قانوناً انتخابياً مبرّأً، تبرئة تامة، من أي تلوث طائفي، على أن تناط الأمور الروحية بمجلس شيوخ. لم يمتثل أحد. كان متوقعاً، بعد احتضار الطائفية أن يُصار إلى دفنها. ها هي تعود بكامل عدتها، مجتمعة في «تحالف» غير مسبوق. لتدفن فكرة الوطن.

إن الآمال المريضة اليوم، معقودة على الانتصار السلمي الذي حققته الطبقة السياسية، بالتفافها، الجامع المانع، حول تأهيل النظام اللبناني وتدعيم ركائزه، بالمزيد من التلاحم الطائفي، الماروني، السني، الشيعي، الدرزي الـ... الخ.

لبنان الجديد المقبل، قديم جداً وعادل بإجحافه. أساسه تحالف الظالمين. مبنيّ على اعتراف الأطراف، بالاستقلال الطائفي والاستقالة من الوطني. ممنوع الزغل الطائفي. لا تستدين طائفة من أخرى، نواباً أو وزراء أو مديرين. من حق الممثل الشرعي والوحيد، ولو كان بصيغة المثنى، أن يعيد إلى بيت الطاعة، كل من يشرد إلى طائفة ليس منها. كل فريق يقرّر حصته في النظام، وغير مسموح للهامشيين من أصحاب العقول والنفوس والضمير، أن يمثلوا أحداً بالاستقلال عن طوائفهم. اللوائح الانتخابية ستفرغ بالتدريج، من انتهازيين يبصمون على صحة مواقف وحصص طوائف ليسوا فيها ومنها. كل ممثل طائفي عليه أن يحظى بأصوات من طائفته. السطو مستحيل ويعاقب برفع صوت الميثاقية. سيعلو شعار «ما لنا هو لنا، وما لكم هو لكم». الشعار الظالم العتيق انتهى إلى غير رجعة... وللبيوتات السياسية العتيقة، أن تقول وداعاً وتغلق أبوابها، الانتساب إليها بات مقفلاً. جلّ ما تستطيعه هو أن ترضى بأن تكون ملحقاً متواضعاً في القاطرة الطائفية، وبمقدار ما تتوطّد الزعامات ذات الوزن التمثيلي، تتضاءل حظوظ القوى التقليدية. لا شرعية تعلو شرعية التمثيل الطائفي المبرم.

لبنان، لم يكن كذلك. الزغل الطائفي كان محموداً قليلاً. لم يعد لبنان كذلك أبداً. بات يشبه المعتقل.

الترجمة الفعلية لهذا المشهد، متحققة راهناً. لقد فرض الجنرال ميشال عون «إصلاحاً» في النظام و «تغييراً» في آليات التعاطي مع نتائج التمثيل الشرعي. هو فعلاً، الأقوى في طائفته، ومن «حقه» الطائفي أن يلزم الآخرين، الممثلين الشرعيين لطوائفهم، بانتخابه رئيساً لمركز يخصّ الموارنة. هذا «حق» له ولو كره الكارهون. وهم كثر جداً، وانتقاداتهم معروفة ولا تُحصى، ولا يُطاق التذكير بها أو استعادتها. عفا الله عما مضى. وانتخاب «الجنرال» كأس مرّة على كثيرين. حملوا عليه كثيراً، ولم يوفرهم هو من حروبه وصخب الاتهامات. سيتجرع نواب انتخاب عون ببسالة «التضحية». هذا «حق» الجنرال، لا ينازعه فيه أحد. لم يكن ذلك صدفة أو «نتعة» عونية. كان الرئيس رفيق الحريري قد انتزع «حق» تمثيل السنة، بنصاب المال والأصوات والدعم «الأخوي» المشترك، الذي تبرّع به السوري والسعودي معاً. وقد ورثه ابنه سعد الحريري ممهوراً بالدم. هذا «الحق» يحوزه وليد جنبلاط، أباً عن جدود، بصفته الممثل الشرعي الأقوى للموحّدين الدروز في لبنان. وهذا «الحق» تمرّس به الرئيس نبيه بري ببراعة فائقة وانتهجه «حزب الله» من دون عقد نقص وطنية. وعليه، لم يعُد «نظام الحقوق» المغلق يسمح بالتفلت من قيوده وعبوديته المطوّبة، بدعم شعبي يعفّ عن المساءلة والمحاسبة.

إنه زمن النقاء الطائفي. سيكتمل نصابه إذا تمكّنت التسوية الراهنة، أن تبلغ مرتبة إبرام قانون انتخابي «أرثوذكسي»، يكفل تنقية اللوائح من أي خرق. فلكل طائفة حق الحصرية في التمثيل. وعلى كل نائب أن يلتحق بقطيعه.

غداً، عهد آخر، وبلد آخر. ومنطق آخر. ومشكلات أخرى، لن تجد حلولاً لها. الطائفية، في أي مستوى وفي أي شكل، هي مصدر أزمات وولادة عقبات. أمور اللبنانيين الحياتية والاجتماعية والتربوية والتنموية والسياسية إلى تفاقم. كل حل أو قرار، يتطلب الإجماع، وإلا رفعت راية «الميثاقية».

هذا ما ارتكبته التسوية لملء الفراغ في المؤسسات. ستمتلئ هذه ويفرغ الوطن. والغريب، أن «لبنان الجديد» هذا، برغم ثيابه الرثة، سيصبح النموذج الخلاصيّ لما بعد حروب التوحّش المذهبي والطائفي والعرقي.

هذا زمن خريف الأوطان. هذا زمن الربيع الطائفي. فما أقبحك أيها الزمن!

تعليقات: