الحلال والحرام في بغداد


أقحم البرلمان العراقي نفسه في التشريع في مسائل الحلال والحرام، جرد بغداد من تاريخها ومن أبي نؤاسها (وغيره)! أظهر فهماً مغلوطاً للمدينة وللدين معاً. مرة أخرى يعتدى على كرامة المدينة وشعب العراق بعد الاحتلال الأميركي. تجاهل البرلمان مآسي العراق وجعل أولويته التشريع في مسائل الحلال والحرام، فكأنه وضع نفسه مكان الله. هل يُفهم ذلك إلا تعويضاً عن هزيمة يشعر بها كل عراقي تجاه الاحتلال والفقر والعجز؟

ظن البرلمان العراقي أنه وضع السياسة (السلطة) في خدمة الدين. المؤمنون لا يشربون، على أي حال. بعض المؤمنين يعتقد بعدم تحريم الخمر بل تجنبه. الذين يشربون سوف يحصلون على الشراب من مصادر غير قانونية، من عصابات المهربين، بأسعار أعلى مما هو شائع. القانون يؤدي خدمة للخارجين على القانون، بل تحريض للخروج عليه. من يعرف بغداد يرى ذلك.

لا يفهم هؤلاء المدينة، الإسلامية العربية، ولا غيرها من المدن، يتجاهلون أنها لا تصبح مدينة بالتعريف إلا إذا التقى فيها الطرفان. ما يعتبره هؤلاء فسقاً هو ما يضفي على المدينة زهوها الثقافي والحضاري. إذا اقتصر الأمر على جانب واحد نُسفَ الجانب الآخر. فهل المطلوب إبادة عمران المدينة الثقافي؟ ليس شرع الله ما ينطق به من يعتبرون أنفسهم ممثلين لله على الأرض، هو شرعهم هم.

اختصار الحياة إلى الحلال والحرام خطأ يحول الحياة إلى هيكل فارغ. بين الحلال والحرام مساحات واسعة من المكروه والمستحب والمباح، وهنا معظم الحياة البشرية. كل برلمان معني بهذه الأمور، وهو غير معني بالحلال والحرام. تجاوز البرلمان حدوده لصالح دين أثبت أنه لا يفهمه حق الفهم، ضد مجتمع تنكر هو له وأنكر تاريخه. شائع بين جميع أطياف الإسلام السياسي ومذاهبه المتعددة تجاهل التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجتمع.

العمل، الصناعة، الزراعة، النفط المنهوب، الإدارة العاجزة، الحرب الأهلية، تدمير الحياة الاجتماعية، ابتزاز الحياة الدينية، كل تلك الأمور ليست ذات أولوية. حياة المجتمع ليست ذات أولوية لدى برلمان همه الأول مسائل الحلال والحرام. الاقتصاد متروك. أليس له أولوية في السياسة على كل الأمور؟ إذا لم يكن الاقتصاد جوهر السياسة فهي خرقاء بالضرورة. خلط في الأولويات، تشوش في الرؤية. لو كان البرلمان يمثل الشعب العراقي لما وصل إلى ما وصل إليه. لو أجرى حواراً عامّاً في المجال العامّ لكانت النتيجة غير هذا القانون. كأنه يريد فرض الأمر قسراً!

اختصار الحياة إلى الحلال والحرام هو كاختصار الألوان إلى الأسود والأبيض. الأبيض يحوي كل الألوان والأسود يخلو من الألوان. ما بينهما ملايين غير محدودة من الألوان الرمادية. الحياة هي بين الأسود والأبيض، هي كل الألوان الرمادية. سابقة ذلك عن جورج بوش الابن هي في اعتبار الآخرين «إما معنا» «وإما ضدنا». كان ذلك مقدمة لاحتلال العراق وتدميره، تدمير مجتمعه وعمرانه. ما نراه الآن في العراق وفي المنطقة هو نتيجة هذه السياسة الخرقاء التي ساهم بها أهل بلادنا. كانوا وما يزالون أداة لها.

اختصار الحياة إلى ثنائية الحلال والحرام يلغي حرية الاختيار، يلغي السياسة. أنت مضطر لاختيار الحلال من دون تفكير. الخيار الواحد المفروض مؤداه الاستبداد. السياسة هي في تعدد الاحتمالات وتعدد الخيارات. لا يستطيع مجتمع صنع مستقبله دون حرية الخيار وحرية النقاش في مجتمع مفتوح على إمكانيات متعددة، ألوان رمادية كثيرة.

اختصار الحياة إلى ثنائية الحلال والحرام يغلق المجتمع لأنه يقضي على ملكة التفكير، هذه أساس العقل. بالتفكير يتجاوز المجتمع نفسه، بالتجاوز يقرر مصيره. بالثنائية يبقى عبداً لنفسه ولغيره. الغير يستغل هذه العبودية فيستخدمها.

مجتمعات التعدد والحرية هي مجتمعات الدين الحقيقي، حيث يترك الدين للضمير الفردي لا للسلطة التي تملي على الضمير ما ليس منه. عندما يخالف الضمير الفردي ذاته، وعندما يخضع لسلطة خارجية فإنه يخالف مبادئ الأخلاق. لا أخلاق عندك إذا لم يكن فعلك ورأيك نابعين من ذاتك، من ضميرك، مما أنت عليه، ومما تريد أن كون.

موضع النقاش هنا ليس عودة الاستبداد. لم يخرج من الباب ليعود من الشباك. هذا الاستبداد هو وريث الاحتلال الأميركي والبعث وكل تراث العبودية. يسأل المرء: هل كانت هناك ضرورة للتخلي عن تراث أبي نواس وألف ليلة وليلة؟ هل هذه الضرورة إلا تأبيد الاستبداد؟

المجتمع المغلق لا يرى إلا نفسه. يصنع تراثه من بؤس الحاضر، من الحاضر البائس. الداعون إلى إغلاق المجتمع لا يعرفون كيف الانخراط في العالم، لا يرون لأنفسهم إلا هوية دينية. هوية تميزهم عن الإنسانية جمعاء. لا يرون أن وسائل النهوض والتقدم تستدعي الأخذ بالأفكار والممارسات من الثقافات الأخرى. لا يرون أن ثقافتنا الموروثة ذات روافد عريضة من ثقافات أخرى وسابقة. لا يعرفون، أو لا يريدون المواءمة بين الدين والعالم، بين الهوية والآخر. يرون الحياة فسطاطين: فسطاط الحلال وفسطاط الحرام. لا يرون ما بينهما. الأهم من كل ذلك أن الدين نفسه يتسطح ويصيبه اليباس إذا لم ينبع من الضمير الفردي، من الإيمان. والإيمان لا يمكن أن يكون إلا فردياً. كل ما عدا ذلك عقيدة تتبع السلطة.

في أرجائنا العربية تياران: أحدهما يدعو للانغلاق وثانيهما يدعو للانفتاح والانخراط في العالم. اختار البرلمان العراقي الانغلاق.

قال الشاعر:

لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً

فإن حظركه في الدِين إغراء

تعليقات: