الدكتور ابراهيـم بيضـون
يحيرك ابراهيم بيضون استاذاً ومؤرخاً في حال حاولت مقاربته. فالرجل الآتي من بنت جبيل، او الخيام، او غرينوبل، او قاعة المحاضرات في الجامعة اللبنانية، او من على منصة المؤتمرات، لا يختزل بكلمات، وقد قارب عدد مؤلفاته العشرين وابحاثه العشرات.
وابراهيم بيضون المتواضع على كثير من العلم والكدح عبر مؤلفاته، يثبت ان العلم يؤتى إليه، وتلقى في حضرته الكلمات، دون ان يطمع قائلوها من الاصدقاء انهم يتعطفون السلطان او يتقربون منه. ألقى المكرِّمون كلمات في المكرَّم، وكانوا يكرمون بعض ما فيهم، مما تكثف في شخصه، اذ ليس هينا في زمن الغرغرة ومرذول التكرار وبهرجة الاعلام ان يحمل بيضون تعب حياته غارساً علمه ليفيء إليه الاصدقاء. وهو الذي بحث ونقب وقلب بطون الكتب وامهات المصادر بحثاً عن الثورات المجهضة، رجالاتها المصلوبين، مقطوعي الرؤوس، ومدفوني الاجساد بالخفاء كي لا تنبش قبورهم وتحرق جثثهم...
لكن ابراهيم بيضون لا يبحث عن الماضي، عن سلالات الاجداد المقتولين، الصرعى في كربلاء والحرة وعين الوردة والكوفة... بل يبحث عن المستقبل عبر موضوعية قراءة التاريخ واخراجه من قدسيته الى السياق البشري والانساني الذي يضيء التجربة ويضعها في نصابها العلمي.
ولمناسبة نيله جائزة مهرجان الإمام علي الذي اقامته وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي في ايران بالتعاون مع مؤسسة آل البيت لاحياء التراث قم اقامت رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية مساء أمس حفلا تكريميا للدكتور بيضون في قاعة نزار الزين تحدث خلاله كل من: وزير التربية والتعليم العالي عبد الرحيم مراد، العلامة القاضي السيد محمد حسن الامين، الامين العام للمجلس الثقافي للبناء الجنوبي حبيب صادق، الامين العام لاتحاد الكتّاب اللبنانيين جوزف حرب، رئيس تحرير "السفير" طلال سلمان، امين الاعلام في الحركة الثقافية انطلياس د. انطوان سيف، مدير الفرع الاول لكلية الآداب د. اسامة محيو، ممثل مؤسسة آل البيت حامد الخفاف، عضو الهيئة التنفيذية للرابطة د. عصام خليفة، رئيس مجلس المندوبين في الرابطة د. رباح ابي حيدر، الذي مثل رئيس الجامعة د. ابراهيم قبيسي، وقدم الخطباء عضو مجلس الجامعة ممثل الكلية د. منذر جابر. وحضر الحفل الوزير اسعد دياب، النائبان السابقان حسن علويه واحمد سويد، رئيس الرابطة د. بهيج الرهبان، امين عام المجمع الثقافي العربي د. عبد الرؤوف فضل الله، وحشد من مديري وعمداء واساتذة الجامعة وأدباء ومفكرين.
مراد
اعرب الوزير مراد بعد تقديم من د. جابر عن سروره بأن يكون هذا التكريم تقليداً جامعياً ودورياً في الجامعة اللبنانية التي تجمع بين اساتذتها نخبة فاعلة في البحث والتقصي عندهم من المكانة المرموقة وحصانة الذات ما يجعل بحوثهم علمية وموضوعية ومراجع للدارسين والباحثين. وأكد ان الدكتور بيضون واحد من هؤلاء الذين زودوا طلابم ومكتبة الجامعة والمكتبة العربية بالبحوث المعمقة والكتب القيمة.
وختم بالقول: "مع اعترافنا وتقديرنا بأحقية مطالب الاساتذة على كل الصعد، يجب ان نواجه معا وبشجاعة أدبية ضروب الاستنساب الكثيرة التي ترافق تصنيف الشهادات وتقييم البحوث وحالات الظلم اللاحقة بمن تأبى كرامتهم المعرفية التوسط السياسي لانصافهم.
الأمين
ورأى العلامة محمد حسن الامين ان مهمة المؤرخ ذات وجهين احدهما ان يمزج بين المنفصلين بين كمية الماضي والحاضر من جهة وان يفكك المنفصلين بين الممتزجين اللذين يشكلهما العنصر الثالث الذي هو مزيج غامض من الحاضر والمستقبل في آن واحد.
وقال، ان الكتابة ليست عملا تأريخيا فحسب بل جرعة قوية من المستقبل وهكذا يستقيم عمل المؤرخ بوصفه شاهداً على عصره من خلال رؤيته التاريخية.
اضاف: اراد د. بيضون ان يجلو مفهوم الدولة من خلال سيرة الإمام علي بوصفه مفكراً ومنظراً يسجل ذلك عبر نهجه الخالد ومن ذلك جاء عنوان الكتاب "الإمام علي كما يتجلى في التاريخ وفي نهج البلاغة".
صادق
وتوقف صادق، عند ثلاثة عناوين توائم في شخصية المكرّم، الاول "يطالعك من أبي علي وجه تتجلى فيه الروح العاملية بأصفى دلالاتها واصدق رموزها وأنبل المعاني". والثاني "يطالعك من أبي علي، وجه الانسان الشاعر... ولابدع فهو، في أرض الشعر، ولد وفيها نمى عوده، وتفتحت لغة قلبه وأورقت لديه الذاكرة" مشيراً الى ان ابراهيم بيضون الشاعر، لم تتألق صورته لدى العامة على نحو ما تألقت لدى الخاصة. والثالث "يطالعك، من أبي علي وجه بالغ الخصوصية تتعذر قراءته، في يسر وعمق، على غير المنتمين الى أسرة ذلك البيت الجنوبي المرصود منذ تأسيسه لقضية الجنوب وقضية الثقافة الوطنية... هذا البيت هو المجلس الثقافي للبنان الجنوبي".
حرب
وسأل الشاعر حرب: كيف استطاع بيضون ان يغلب تجرد التاريخ على عميق ايمانه بالإمام وهواه إليه؟ وقال: هنا تكمن قيمة المؤرخ خصوصاً انه اذا تجرد، انصف واحق، وعَدَل واستقام، ولا اظن، ان احداً يعطي الإمام من الحق ما يعطيه مؤرخ، هو منزه عن اي ميل واي غرض، وهذا ما فعله بيضون.
اضاف: قدم الكتاب قناعة اخرى هي ان معاوية قد غلب الإمام علي بالدولة، وان الإمام قد غلب معاوية بالدين، وإذا كان للدولة حدود كما القومية، فإن للدين اقامة هي الأرض وحدوداً هي الجنة.
ورأى ان المسيحية والاسلام قد توقفا كدين محض وخالص باغتيال الإمام علي وقطع رأس القديس بولس الرسول.
سلمان
ولاحظ سلمان في بداية كلمته ذلك التأخر عن تكريم المبدعين، واعرب عن فرحه في ان ينظم التاريخ شاعر وان يقرأ وقائعه عاملي تشكل أرضه الحد الفاصل بين الصحيح والمزور... وربط بين عطاء المكرَّم وعطاء الدم المقاوم في الجنوب حرمة لترابه ودفاعاً عن فلسطين وأهلها.
واعلن فرحه ثانية ان يكون الشاعر ذا رؤية سياسية وان يقرأ سيرة السابقين بعقله قبل عاطفته، وان يقرأ المجريات بفكر مفتوح وليس بعصبية مغلقة، وبمنهج تحليلي. وأكد ان بيضون انتدب نفسه لمهمة صعبة ان يقرأ ويقارب التاريخ، تاريخ المحكومين، انتفاضاتهم، تحركاتهم الشعبية، وثورات غضبهم بجذورها الفكرية كما بظواهرها الاجتماعية ومعطياتها الاقتصادية.
ودخل سلمان في تفاصيل إماطة بيضون اللثام عن مواقف المحكومين وتطلعاتهم ووجوه الاعتراض والطموح المشروع الى التغيير ونحو الافضل والساعين الى حياة كريمة... مما اسقط الظل الاسود للسلطان عنها، فجاءت شهادة تنصف الناس الذين قتلوا مرة بأيدي السلاطين ومرة اخرى بأيدي بعض مؤرخيهم. وهو ما فعله بالضبط بيضون على امتداد ثلاثين عاما وخمسة عشر مؤلفا وحوالى ثلاثين بحثا ودراسة ومساهمة في كتاب.
وختم بوصف بيضون انه ناظم ديوان التاريخ العربي.
سيف
وتمحورت كلمة د. سيف، حول كتاب بيضون "الإمام علي: في رؤية "النهج" و"رواية" التاريخ"، الذي رأى انه يقرأ بمنظار اجتماعي ثقافي، مموضع هو حصراً منظار بيئته اللبنانية "لقد تكلم عن الإمام بموضوعية ذاتية" لقارئ عالمي مفترض ليس من شيعته، عن موضوع ذي ابعاد إنسانية كونية، اي عن إرث حضاري مشترك، حيث الجرح والفكر توأمان. وهو ينضم بذلك الى رهط من مواطنيه المسيحيين الذين رأوا في الإمام نبراساً عالمياً وتراثاً مشتركاً. وخلص الى اعتبار الكتاب ايضا نتاج وطني بكل ما تحمل الوطنية من مجافاة، غالبا للوقائع العينية.
محيو
اعتبر محيو، ابراهيم بيضون، اكثر من استاذ جامعي، واكثر من باحث، واكثر من عالِم، واكثر من صديق، "انه كيمياء خاصة من الاحاسيس المرهفة والاخلاق المترفعة والعصامية التي تنشد الحقيقة بين ثنائية الايمان والعلم". واضاف "لا عجب ان نلتقي اليوم لنكرمه لنيله جائزة على كتابه عن الإمام علي رضي الله عنه، الذي سكن عقله وقلبه بوصفه بابا لمدينة العلم وقبسا من انوار الايمان. لقد برهن بيضون مرة اخرى، انه بوسع العلم مقاربة الايمان كما خاطب الاسلام غير المسلم بالمنطق، محققا نسيجا خاصا للكتابة التاريخية في اسلوب يتحلى بالصناعة اللغوية والذوق الادبي الرفيع".
الخفاف
وألقى ممثل مؤسسة آل البيت لاحياء التراث حامد الخفاف كلمة اشار فيها الى الجائزة التي وضعتها المؤسسة بالتعاون مع وزارة الارشاد والثقافية الاسلامي في الجمهورية الاسلامية في ايران لافضل مؤلف عن الإمام علي وفي جميع اللغات وقد فاز د. ابراهيم بيضون بالجائزة الاولى بين اربعة آلاف كتاب من جميع انحاء العالم بعد جوجلة تحكيمية شديدة ودقيقة لمئات النصوص، وقد منح د. بيضون الجائزة في مهرجان كبير عقد في مدينة قم الايرانية بمشاركة حشد كبير من العلماء والاكاديميين من داخل ايران وخارجها.
خليفة
وحيا الدكتور خليفة الروح الانسانية الطيبة والمودة والصداقة التي يحملها المحتفى به للزملاء بعيدا عن كل مصلحة. وهو الباحث الاكاديمي الغزير الانتاج والاستاذ الاكاديمي الرصين ورجل المؤسسات العامل بدأب ومثابرة وصمت من اجل ان يصبح العلم والثقافة قاعدة لتقدم مجتمعاتنا، وروح المواطنية عنده، جعلته يتعالى عن عصبيات المناطق والمذاهب والطوائف والاحزاب. واشار الى ان اصرار بيضون على عملية التجديد في البحث التاريخي ادى الى ترجمة كتبه الى اللغات الاجنبية، وليس غريباً ان يستفيد الايرانيون من معارف علماء جبل عامل وان يقدروا جهدهم.
وتحدث عن مسألة تعزيز قدرات البحث في مؤسسات التعليم العالي. مؤكدا من استمرار تدفق المحتفى به في عطائه الاكاديمي بما يشير الى قدرة الجامعة على ان تؤمن لمجتمعنا سبل التقدم والانماء الحقيقي بفضل الاساتذة الباحثين الكبار امثال بيضون.
أبي حيدر
وتحدث الدكتور أبي حيدر عن صفات واعمال المحتفى به وانجازاته. واشاد بمبادرة رابطة الاساتذة التي تهدف بإقامة هذه المناسبة الى تكريم الاخلاق العلمية والاصالة الوطنية والتجديد المعرفي والصدق والنزاهة والموضوعية والابداع. واعتبر ان الجامعة اللبنانية بجميع مؤسساتها وهيئاتها مدعوة اليوم اكثر من اي وقت مضى الى الالتفاف حول قضايا الجامعة الوطنية، كما ان ابناء الوطن مدعوون الى اعتبار قضية الجامعة قضيتهم والمشاركة من عملية نهوضها وتطويرها وتحديثها بعد الغبن الذي لحق بها لاكثر من عقدين.
بيضون
ورد المحتفى به د. بيضون بكلمة عرض فيها لمنهجه في كتابة التاريخ، باعتباره مفتوحا على النظرة الاستشرافية الواعية للمستقبل، وليس مجرد صفحة مطوية من الماضي. وقال: لقد خضت التجربة على مساحة التاريخ الاسلامي بهذا المفهوم وفي سياق هذا المنهج، وامام عيني لا تزال مقولة الريحاني في وصفها للمؤرخ بأنه "شاهد لا قلب له". وعرض للتحدي الذي واجهه في الكتابة عن الإمام علي “وفي يقيني ان اية محاولة خارج هذا المنهج ستكون عبئا عليه وليست اضافة تنشر الضوء في مجاله”. وقال اعتقد وبكل تواضع اني قد حققت عملاً يتسم بالموضوعية ولم استدرج الى معطيات خارج النص والى قراءة منفعلة له. وانهى شاكرا د. ابي حيدر والاصدقاء المتحدثين والرابطة وكلية الآداب والحضور.
إقرأ نهج البلاغة
كلمات جنوبية
الأستاذ طلال سلمان في تكريم المؤرخ الدكتور ابراهيـم بيضـون:
"كيف بنت جبيل ستسمي فلسطين إسرائيل، وهي إن أنكرتها أنكرت ذاتها؟"
السفير - 2 آذار 2001
هـوامش بين مؤرخي الرعية ومؤرخي السلطان
قبل أسبوع، وفي قاعة ضيقة المساحة، ملتوية الهندسة، فقيرة الأثاث، غنية الحضور بأبناء الجامعة الوطنية التي تعاني اليتم، احتشد جمهور من الخطباء لتكريم <<شاعر التاريخ الاسلامي>> الدكتور ابراهيم بيضون وكتابه الجديد عن الإمام علي بن أبي طالب.
فأما الكتاب الذي حظي بجائزة دولية، وأما موضوعه الذي عنده انقسم التاريخ، فصار وجهات نظر لأطراف متورطين في حرب أهلية مفتوحة، فيقعان خارج نطاق هذه <<الهوامش>> اذ هما <<المتن>>، بدءاً وانتهاءً.
هذه كلمة عن <<شخصية>> الكاتب الذي دخل التاريخ من باب الشعر ثم لم يخرج منهما.
مفرح ان تحتفي بالجهد المتميز، وأن تحيي صاحبه وهو أمامك يراك ويسمعك ويسجل عليك السهو والغلط وزلات اللسان في النحو والصرف والإملاء فضلا عن البيان!.
فلقد تعودنا ان يسبقنا الموت الى من يستحق تكريمنا، وأن نلحق به نادبين ونادمين على التقصير.. فإذا ما تعجلنا التكريم لحقنا بصاحبنا وإحدى قدميه في القبر، نأتي به محمولاً، ونضع الى جانبه من يدله على المحتفين به، ومن يسمعه ما يقال فيه، ثم من يقرأ بالنيابة عنه كلمات الشكر على التأبين.. المبكر!
مفرح ان ينظم التاريخ شاعر، وأن يقرأ وقائعه <<عاملي>> تشكل أرضه الحد الفاصل بين الصحيح والمزور، وبين الحقيقة المضيعة عمدا عبر التوازن المفقود بين الحق المهمل والمنسي لضعف أهله وبين القوة التي تفرض منطقها تاريخا مقلوبا لأرض هي منبت التاريخ وأهلها فيها إطاره وسياقه، منها ينبع وإليها ينتهي مهما شدته فحرفته عواصم القرار البعيدة.
والدم المقاوم هو السياق، يرسم بالقاني الحد الفاصل بين أهل التاريخ وأرضه وبين الآتين من خارجه وخارجها ليصطنعوا من الاسطورة دولة تلغي كل من وما عداها، فيكون للارض اسم غير اسمها وللبشر ملامح الأغراب، لا الشمس طهرتهم ولا منحهم ترابها المبارك سمرة البشرة التي ميزت النبيين والصديقين كما مساكين الارض من أمثالنا مجتمعين!
كيف بنت جبيل ستسمي فلسطين اسرائيل، وهي ان أنكرتها أنكرت ذاتها وأهلها وكل اولئك الشهداء الذين عبروا إليها أفواجا إثر أفواج لكي تبقى لها هويتها واسمها ومسجدها الاقصى الذي باركنا من حوله، وناصرتها التي منها جاء عيسى بن مريم بكلمة الله؟!
كيف يكون خارج التاريخ هذا الذي يسكن فيه، باسمه وأسماء آبائه وأجداده وأسماء الدروب والجبال والبطاح والقلاع والشجر والأنهار والنجوم الهادية... وقد استكمله فصولاً بأسماء ذريته فإذا البيت مؤلفه الاكمل والاجمل!
مفرح ان ينظم التاريخ شاعر، يعيش بالفرح الانساني النبيل، يعشق الارض بناسها، لا يفصلها عنهم ولا يفصلهم عنها. فليس التاريخ مركبة فضائية تدور في سديم الفراغ بل هو حصيلة الصراع على الارض وعلى السلطة، اي على حكم الناس في أرضهم.
ومفرح ان يكون الشاعر ذا رؤية سياسية، وأن يقرأ سيرة السابقين بعقله قبل عاطفته، وأن يقرأ المجريات بفكر مفتوح لا بعصبية مغلفة، وأن يقرأ الوقائع السياسية بمنهج تحليلي يعيد إليها قوامها المفتقد نتيجة الانغلاق بالتعصب او الكسل في البحث والتنقيب او التعنت في الاستنتاج بما يلائم الهوى او الغرض او تجنب مخاطر الاجتهاد حتى لا تكون فتنة.. فإذا النتيجة التأسيس لفتن تتوالد باستمرار حتى تفرض نفسها سياقا بديلا للتاريخ المستمر والذي يصنع الغد من رحم الماضي وليس من خارجه.
وكثير من المؤرخين كتبوا او أعادوا كتابة تاريخ الحكام ونسوا او تناسوا المحكومين، وأغفلوا او تجاهلوا الواقع الاجتماعي الاقتصادي، فاغتالوا الناس من غير ان يصلوا الى الحقائق التي تفسر الاحداث وتعطيها مدلولها الفعلي.
وإبراهيم بيضون انتدب نفسه لمهمة صعبة: ان يقرأ ثم يقارب تاريخ المحكومين، انتفاضاتهم، تحركاتهم الشعبية، ثورات غضبهم بجذورها الفكرية كما بظواهرها الاجتماعية ومعطياتها الاقتصادية.
فمن كان الشاعر عنده أهم من السلطان، والارض تعطي الحقيقة قداستها، لا بد ان تكون قراءته للتاريخ مختلفة جدا. ذلك ان التاريخ ليس تراكما عشوائيا للحوادث والاحداث وسياقا منتظما لإنجازات السلاطين.
وعلى امتداد ثلاثين سنة او يزيد، عكف ابراهيم بيضون على اعادة نظم التاريخ برهافة الشاعر التي ثبت انها لا تتناقض مع دقة العالم، وإن كان لها من قوة التأثير والقدرة على كشف الحقائق المختفية وراء السلوك ما يكفل فضح التعصب والعصبية والوتر الشخصي او النقص في دقة النقل والاقتباس.
وفي كثير من الكتب التي ألفها واقتبسها او ترجمها بعض المحكومين بموقف مسبق، خلاصته احتقار العاديين من الناس، البشر الطبيعيين، اي كل الناس، وتقديس الحكام وتصنيمهم واعتبارهم أساس الكون وسر الوجود، يتبدى وكأن اولئك الحكام اقتتلوا واصطرعوا وتحالفوا وقاتلوا فانتصروا او هزموا في صحراء خالية من البشر، او ان اولئك البشر كانوا خُشُبا مسندة، مجرد عساكر او رعية لا رأي لهم ولا دور، بل ولا فكر عندهم ولا تطلعات، لا يشغلهم همّ اليوم ولا القلق على الغد، لا يعترضون ولا يتذمرون بل يحمدون ويشكرون او يكفرون بالنعمة فيعدمون ويعلقون على المشانق ولا قضية لهم او نصير.
مُسخت المعارضات ووجوه الاعتراض والطموح المشروع الى التغيير والى الافضل وتم التشهير بالكثير من المناضلين والدعاة والمبشرين بالغد الافضل والساعين الى تأمين حياة كريمة للناس في دولة تقوى بمواطنيها الأعزاء لا بجيوشها الجرارة، وتقوم على أكتافهم وأفكارهم ومطامحهم وأقلامهم لا على المرتزقة والانكشارتو والجنود المستقدمين من الخارج والذين بعدما اعتمدوا حماة للنظام في وجه شعبه انقلبوا على النظام وجعلوا الخلفاء عبيد أهوائهم وأغراضهم وشطبوا العروبة باسم الإسلام ثم أقاموا سلطتهم خارج الإسلام فدالت دولهم تاركين الأمة غارقة في دياجير التخلف والطقوس اللاغية للدين ونقص الولاء للأرض لأن السلطان عدو الوطن.
آسف لهذا الاستطراد السياسي، لكن ابراهيم بيضون مؤرخ صاحب موقف، وهو عبر مؤلفاته وكتاباته التي ملأت ثلاثين عاما من عمره او يزيد، عزز موقفه بإعادة قراءة الوقائع بعين الناس، مسقطا عنها الظل الأسود للسلطان الاسود فجاءت مؤلفاته شهادة تنصف الناس الذين قتلوا مرة بأيدي السلاطين ومرة أخرى بأيدي بعض مؤرخي السلاطين.
منذ ثلاثين سنة او يزيد... يعني نصف عمره، هذا الشاب الذي أغواه الشعر فحفظ المعلقات وقلد المتنبي وبصم أبا نواس ثم تفرغ لحماية آثار موسى الزين شرارة والمليون شاعر عاملي الذين غنوا الأمة وهم يسمرون في دردارة الخيام.
لكأن هذا الذي يتنزه بين رياحين الشعر في فترة الاستراحة ما بين كتابين قد ولد والقلم في يده، حتى استطاع ان ينجز 15 مؤلفا وحوالى ثلاثين بحثا ودراسة ومساهمة في كتاب، في وقت فراغه من التعلم ومن التعليم ومن العمل لإنجاح مشروع شقيق روحه الدكتور كامل مهنا في مؤسسة <<عامل>>، ومن تأمين النصاب في المجلس الثقافي للبناني الجنوبي، ومن المساهمة في المؤتمرات والندوات... بغير ان ينقطع عن سهرات السمر وعن تمارينه لإضافة حركات جديدة الى الدبكة الخيامية!
تعليقات: