بدعة النسبية خدعة طائفية


غريب!

عاصفة الهدوء السياسي مستمرة. التيارات والأحزاب والقيادات والمرجعيات. تتحدث بلغة واحدة. يغرفون تصريحاتهم من قاموس واحد. يتحدثون عن تأليف الوزارة فتحار مَن يتكلّم. الصمت «العوني» مفهوم. ما بعد الرئاسة ليس كما قبلها. تكاد لا تعرف النائب العوني عن النائب «البلا» لون. المدائح لعون من «تيار المستقبل»، لا تشبه سيل اللعنات والاتهامات السابقة. الغزل «القواتي» ـ «العوني» وإن لم يكن بريئاً، فلا شك فيه. غزل صارم ومبتوت، ولا تأتيه شهوة إلا في ما بعد. «التسامح» الذي يبديه «حزب الله» إزاء «القوات» جديد. لم تفتح الطريق بعد، ولكنها رُسِمت. القوات قرأت الرسالة من «السيد» وأبدت تحية مكتومة. جنبلاط يكرّس انسحابه بعد فقدانه «بيضة» الترجيح. «الكتائب» تعصف ولا أحد يسمع. بري على عادته، «هبّة باردة وهبّة ساخنة»... يحدث كل ذلك والفراغ يجدد إقامته. طريق قصر بعبدا فارغة. «بيت الشعب» بحاجة إلى أعمدة السلطة.

غريب حقاً!

لم يتغيَّر شيء بعد. الكلام على القانون الانتخابي قديم. أكثري، نسبي، مناصفة، أكثري، نسبي، «الستين»، التمديد، المهل... تكرار البحث في جنس القانون، وكل ما يبتغيه الجميع، تحسين التمثيل الطائفي، وتوزيع التوازن المذهبي بالقسطاس، وإقامة الحكم الطائفي، بلا مظلومية، وهذا من سابع المستحيلات. لم يتغير شيء بعد. الفراغ المجلسي، لا تملأه الأرانب ولا تحرّض عليه الثعالب... مكانك راوح. هذا هو البلد.

غريب جداً!

غياب البدائل مُزمِن. ملهاة اللحاق بالتيارات وبالاصطفافات مستمرة. هناك مَن يراهنون في «تيارات» المجتمع المدني على قانون النسبية. يتطلّعون إلى حصة طائفية من التمثيل. النسبية مع الطائفية، عملية تجميل لوجه قبيح. إعطاء التمثيل الطائفي صك براءة، وهو الجريمة. باعتماد النسبية، تطوَّب الطائفية مرجعية نهائية، لجميع الآليات الانتخابية. أكانت، دائرة موسّعة أم متوسطة أم صغرى، أكانت فردية أم جماعية، أكان لبنان دائرة واحدة أم دوائر عدة. المشكلة ليست في الآلية ولا في قانون الستين ولا في قانون الـ96 (المحافظات)، ولا في أي قانون. الفائزون فيها كلها هم «أمة الطوائف» مع تباين في الأوزان والحصص وأحجام المشاركة. النسبية مع الطائفية، أعوام للتغيير وتأبيد للتخلّف وتأجيل للدولة وامِّحاء للوطن. ومن المؤكد أن القانون الطائفي الذي سيُعتمد، سيكرِّس مبدأ الطائفية المنتصر، وتكون الخسارة من نصيب التغيير. مؤلم علاج الطائفية بالمزيد منها.

غرابة تامة!

طبعاً. لبنان الغد الموعود، هو لبنان هذا بالتحديد. لا قدرة ولا فرصة لإنتاج غيره مختلف عنه، قابل للحياة، والحياة فيه مُرضية. لبنان الغد، هو لبنان الأمس وقبله، مع مفاضلة جائزة: لقد كان لبنان الأول أقل فتكاً من لبنان الراهن ولبنان الغد. السلامة السياسية التي حكمت لبنان من قبل، كانت، على تخلّفها، أقل وطأة من النسل السياسي لتلك السلالة. فلبنان غداً، لا هو أمة ولا هو وطن ولا هو كيان ولا هو دولة. لا هو إسلامي أو مسيحي أو عروبي أو سوري أو سعودي أو إيراني. هذا بلد بلا هوية واحدة ينتسب إليها اللبنانيون. إنه لا يشبه أفكار الاستقلاليين الأقحاح، ولا يتشبّه بأفكار التقدميين المنقرضين، ولا يقبل «لوثة» العلمانية، بمنع وصدّ من المرجعيات الدينية والمذهبية العريقة في أصوليتها المذهبية المنغلقة. والغرابة، أن أهل الفكر والعقائد، استسلموا لمنطق التغيير من داخل النظام، فتغيّروا هم وترسّخ النظام، وباتوا ملحقين بأذيال الطائفيين. هل من مذلّة أشد استنكاراً؟ لبنان هذا، لا يشبه أي فكرة وأي عقيدة وأي صيغة وأي ميثاق وأي نص دستوري. هو تلفيقة وصفقة. لذا، فاتخذه كما شئت وبأي اسم تشاء وبأي قانون انتخابي يقرّ. ستصدق جميعها عليه. فهو كل تلك الأسماء، وليس واحداً منها. فليبق لغزاً معلَّقاً. إنما، فقط في لبنان، بلوغ المؤمنين من جحر واحد مراراً، ويقيمون عند كل جحر مزاراً. فانتظروا عجائب الانتخاب، وتصوّروا كيف يكون النصاب الحكومي بعد ذاك. لا يدرك الشبيه غير الشبيه. تلك هي حكمة الشعوب البدائية، كما اكتشفها ليفي برول.

ليس غريباً أبداً!

البناء على الخسارة، سياسة رابحة. البناء على النجاح والانتصارات يحتاج إلى جهد وتضحيات. لقد خسرت التيارات الطائفية في الحرب، كامل مشاريعها و «طموحاتها»، ولكنها ربحت في البقاء والإقامة في الخسارة. كما خسرت الأفكار وسقطت العقائد وتراجع التغيير واستحال الوطن وامتنع الاستقلال وبارت السيادة. أضاع لبنان في حروبه وصراعاته الكثير من شعبه وخيراته ومن إمكانيات احتضان شبابه، فازدادت الهجرة بعد المعارك حتى تكاد تفرغ البيوت من أهلها... إنما، كسب اثنان فقط:

الطائفية انتصرت واكتمل نصابها في «مشاركة الأقوياء».

الفساد تفوّق وبات حزبه هو الأقوى، وهو حزب بأجنحة متعدّدة، تنضوي تحتها قيادات وأحزاب وتيارات... وتنوء جماهير.

لبنان الغد، هو هذا، حتى بعد انتخاب الجنرال رئيساً. المشكلة بنيوية. الأساس غلط. للنظام قاعدتان اثنتان: الطائفية والفساد، وهما أقوى من أي رغبة او نية في الإصلاح. فؤاد شهاب نموذجاً.

لبنان هذا، مؤهل للبقاء المعتل، بالنسب الطائفي «العنيد» وبَرَكة الفساد المعمَّم.

لن تكون هذه الزاوية في «السفير» حاضرة في موسم الانتخاب المقبل. البياض سيملأ الصفحات الغائبة. وليست «السفير» الوحيدة. أزمة الإعلام، ليست عابرة. أزمة الديون مقيمة. أزمة الاقتصاد مستفحلة. أزمة الإنتاج متنقلة. الإصلاح هو الوجه الآخر للخراب. وفي هذه الأثناء، تستمرّ رقصة السياسيين على حافة الهاوية. لا يمكن أبداً تصوَّر لبنان المستقبل، قادراً على الصمود، وهو على هذه الركاكة. سينعكس «سلم المنطقة» عليه إذا جاء. فهل يسلم؟

تعليقات: