بحثاً عن قلعة «أبو الحصن» الصليبية

آثار القلعة المختفية في الأحراج
آثار القلعة المختفية في الأحراج


«أبو الحصن»، «أبو الحسن»، «قلعة ميس»... أسماء لموقع دفاعي صليبي بُني لحماية ولاية صيدا، ولم يستطع العلماء تحديد مكانه حتى يومنا هذا. ولكن ماذا لو كانت هذه القلعة هي البناء القابع فوق تل صخري وسط نهر بسري، أحد روافد نهر الأولي الذي يصبّ في البحر شمالي مدينة صيدا؟ زيارة الى الموقع ووصف له قد يفتحان سجال تحديده

بحث المؤرخون كثيراً وحاروا مطوّلاً في تحديد موقع قلعة «أبو الحصن» أو «أبو الحسن» أو Belhocem الصليبية التي أدّت دوراً أساسياً في حماية ممتلكات «بارونيّة صيدا»، التابعة لمملكة بيت المقدس الصليبيّة. ففيما ترجّح بعض المراجع أنها «قلعة ميس» الواقعة بين أنصار والزرارية (بين قضاءي النبطية والزهراني)، تؤكد أخرى أنها «قلعة صليبية بُنيت قرب ساحل صيدا لحماية المدينة دونما تحديد مكان بنائها».

هذه الحيرة، تطرح التساؤل عن هوية القلعة الجميلة الرابضة على تلّ صخري يرتفع نحو ثمانين متراً عن نهر بسري شمالي صيدا، الذي يلتف حولها من جهات ثلاث: الشرق والغرب والشمال، ما يظهر موقعها العسكري الاستراتيجي جلياً. إذ يبدو مستحيلاً على أيّ مهاجم السيطرة على القلعة من دون سلوك المعبر البرّي الجنوبي الوحيد. ويمكن الدّاخل إلى القلعة أن يتلمّس روعة المكان والارتفاع وتحكّمه بمنطقة واسعة وبمجرى النّهر المجاور.

استخدم بناة القلعة الصخر الطبيعي في تشييد المكان وتحصينه. ويقع جزء من الأدراج التي تقود إلى مدخلها في الصخر الطبيعي الصلد، فيما الجزء الآخر منها قد هوى.

بعد اجتياز الأدراج، يبدو المدخل الرئيسي للقلعة المبني فوق جرف صخري حاد يؤدي الى النهر. وهو يفضي إلى ردهة يبلغ ارتفاعها نحو خمسة أمتار، محصّنة من جهتها الشرقية بكوّة للسهام. ومن الردهة، يصل الزائر إلى باب آخر هو المدخل إلى غرف القلعة وقاعاتها، التي ترتفع الى عدة طبقات، وإن كانت قد فقدت الجزء الأكبر من سطوحها.

للوصول إلى القلعة، يجب المرور بقرية أنان، فبلدة صفاريه في قضاء جزين، ثم النزول لأكثر من خمسة كيلومترات في منطقة حرجيّة بامتياز، جلّها من السّنديان. ومن بعدها تبدأ الطريق إلى أعلى القلعة للمشاة وتمر بالأحراج. من أسفل القلعة، تبدو بوضوح كوّات السّهام المنتشرة على جهتها الشرقية، ويروي السّكان، بحسب الذاكرة الشفهية والحكايات أنّ الهجوم عليها جرى بالمنجنيق من ناحيتها الشّرقيّة. وفي الجهة الشمالية الشّرقيّة للقلعة، هناك فتحة بئر واسعة، يرجّح الأهالي أيضاً أنّها تمتدّ إلى مجرى النهر، حيث كانت حاميتها تعتمده للتزوّد بالمياه خلال الحصار. وفيها كذلك مرابض للخيل التي كانت تصعد إليها من طريق جانبيّة في ناحيتها الغربيّة. وهناك آبار محفورة في الصخر الصلد؛ وتحتها عند النهر آثار حمّامات قديمة. وما يضيف إلى هذا الموقع أهمية كبرى، الآثار التي لا تزال ظاهرة في الجهة المقابلة للقلعة لجهة بلدة جون، على الضفة المقابلة للنهر. فهناك تقبع «تلة النقبة» التي لا تزال تحتفظ ببقايا أبنية مهدمة ومنشآت عمرانية، يبدو أنها تعود إلى الحقبة التاريخية نفسها التي أنشئت فيها القلعة. ومن المرجح أن يكون الموقعين مترابطين، وهما قد أنشئا لأغراض عسكرية ودفاعية من جانب الجماعات والدويلات التي حاربت الصليبيين...

إذ كان من الطبيعي لحماية صيدا التي سيطر عليها الصليبيون في 4 كانون الأول سنة 1110م وجعلوها إمارة، أن يقيموا خطوط دفاع أولى عنها من الجهات الأربع. وكانت قلعة شقيف تيرون المبنية على جبل يرتفع نحو 1100 متر عن سطح البحر بالقرب من مدينة جزّين، أوّل المراكز الدفاعية، فموقعها كان يسمح للحامية الصغيرة الموجودة فيه، بأن تحذّر حاميات الساحل من وصول أي قوات معادية تمر عبر منطقة جزين.

وبين جزين وصيدا، وفي المعبر النهري الممتدّ من جزين نحو الساحل، الفاصل بين الشوف والجنوب، كان لا بدّ من موقع وسط يستطيع أن يتلقى الإشارة من حامية منطقة جزين وينقلها بسهولة نحو حامية صيدا؛ وبالتالي يمثّل نقطة دفاع أولى قبل صيدا. لذلك تبرز أهمية قلعة «أبو الحصن» التي جاء في كتاب «تاج العروس»: «قلعة أبي الحسن قلعة بساحل الشام، وهي المعروفة بقلعة المُوت، تاريخ عمارتها سنة 577هـ. وكان موقعها يسمح لحاميتها بأن تفاجئ أي فرقة عسكرية تحاول السلوك في وادي نهر الأولي الضيق؛ وكانت حماية طريق صيدا ــــــ دمشق تتم بواسطتها وبواسطة قلعة شقيف تيرون وجزين».

فهل تكون قلعة «أبو الحصن» هي تلك القابعة على التل الصخري في خراج قريتَي أنان وصفاريه؟ هذا ما يؤكده معجم البلدان: الذي يقال بحسبه إن «قلعة أبي الحسن هي قلعة عظيمة ساحليّة قرب صيدا بالشّام، فتحها يوسف بن أيّوب، واقتطعها ميموناً القصريّ مدّة ولغيره، ويُظنّ أنّها المسماة قلعة ميس».

أما بالنسبة إلى المؤرخين الصليبيين، فيذكر وليم الصّوري قلعة «Belhocem» أو قلعة «بيت الأحزان» في منطقة صيدا، في معرض حديثه عن بطريرك بيت المقدس، الذي كان محارباً مقداماً شارك في حصار مدينة صور، التي سقطت بيد الصليبيّين عام 1124م. وفي عام 1128م ذهب لنجدة حصن «Belhocem» الذي احتلّته مجموعات من المسلمين، لكنّه توفي أثناء الحصار. فهل يمكن اعتبار تسمية «أبو الحصن» على أنها تعريب «Belhocem»، وبالتالي، الجزم بأن هذه هي القلعة المنشودة؟

وحدها التنقيبات الأثرية والدراسات العلمية المفصلة تؤكد أو تنفي هذا الطرح. ومن الضروري أن يلتفت أحد العلماء أو الجامعات والمعاهد العلمية الى هذا الموقع، وإتمام الدراسات الضرورية لتحديد «هوية» القلعة، لجهة موقعها وتاريخها والتفاصيل المتعلقة بمجريات الأحداث فيها وحولها.

الجدير بالذكر أن عالم الآثار الفرنسي دينان كان قد زار عام 1936م هذه القلعة وحدّد موقعها ووصف أنقاضها، فقال: «إنّ الجّزء الأكبر من القلعة بحالة سيّئة، وهو من العهد العربيّ أو التركيّ، ومع ذلك، فإن آثار اللمسات المعماريّة للإفرنج بادية

بوضوح».

ولكن، مع الأسف، لم يجر حينها إتمام أي دراسة للموقع بغية إزالة الشك وإبعاد النسيان والإهمال عن جدرانها. وقد ساهمت الحروب والغزوات التي تعرضت لها القلعة من جهة، والنهب والإهمال في الحقب اللاحقة؛ وعملية التآكل بفعل العوامل الطبيعية طوال مئات السنين إلى تدمير جزء من البناء. والقلعة اليوم مقصد الزوار من أبناء الجوار، ممن يعرفون موقعها وجمالها. وقد «استعادت» أخيراً بعضاً من الأهمية لمركزها الاستراتيجي، فهي محط رحال الصيادين الذين يبيتون فيها ليلاً، تربّصاً بالخنازير التي تتحرك في المنطقة.

صيدا الصليبية

تعد صيدا من أقدم مدن الشاطىء اللبناني، فقد سكنها الانسان القديم وبنى على شواطئها أولى قراه. وما يميزها هو أنها بقيت مسكونة بشكل مستمر حتى يومنا هذا والاثار الدفينة في أرضها شاهد على كل تلك المراحل. ولكن بالطبع، تبقى الاثار الصليبية أوضحها، فالقلعة البحرية أصبحت «صورة هوية المدينة». وكانت صيدا، أيام الصليبيين، مركز ولايةِ من ولايات مملكة القدس، وكانت حدودها الجغرافية تمتد من الدامور حتى جبل الكرمل. احتلها الصليبيون سنة 1111 وبنوا داخل أسوارها القلعة البرية. وفي سنة 1187 استسلمت المدينة من دون أي مقاومةٍ أمام الفاتح الأيوبي صلاح الدين الذي هدم أسوارها. ولكن في سنة 1197 استعادها الصّليبيون وأعادوا تحصينها وبعد معارك 1249 عمل الملك الفرنسي (خلال إقامته فيها) لويس التاسع أو القديس لويس على تحصينها، وإعادة تشيد أسوارها وتدعيم قلعتها البرية التي أطلق عليها إسم قلعة القديس لويس. وبقيت صيدا في يد الصليبيين إلى حين سقوط عكا سنة 1291، حينها شيد «فرسان المعبد» الذين كانوا يسكنونها، القلعة البحرية في فترة وجيزة في محاولة منهم للمحافظة على معقلهم، ولكن لم يجدِ ذلك نفعاً. لأنهم اضطروا على الرحيل بحراً ومغاردة آخر معقلٍ لهم.

.... ومن الداخل
.... ومن الداخل


تعليقات: