رميـش: الأم الحزينة ... وجدت مَن يعزيها

نعش اللواء الشهيد فرنسوا الحاج أمام منزله في رميش أمس
نعش اللواء الشهيد فرنسوا الحاج أمام منزله في رميش أمس


تأخر الشهيد عن رميش فانتظرته بصبر الأم الحزينة.

قبل ساعات طويلة من وصوله في نعشه، كانت القرية قد ارتدت صوره التي لا تحصى، زينة ليومه الأخير فيها. مبكرة أتت نساؤها كلهن بالأسود الى بيت «والد البطل». ومنه خرج صوتهن ينوح على «العريس» ويندبه.

حين لم تعد الدار تتسع لهن، خرجن إلى العراء القارس. وتحت المطر، تحلقن في دوائر متداخلة حول نسوة يؤدين رقصة الحزن البطيئة. يدرن حول بعضهن. أمامهن مهى، ابنة شقيقته، الصبية التي لوّحت بالصورة والورود معا. حولها تلوح النسوة بالسواعد. تقول مسنة منهن: «أكرموا العميد بالله يا شباب». أمامهن تقف بصمت صفوف من جنود اللواء السادس أتوا لتقديم السلاح.

بالقرب من هؤلاء فرقة من الجيش ستعزف لحن الموت المهيب.

لم يغب النواح عن فضاء رميش، كما لم يتوقف المطر. غير أن القرية المصرة

على وداع ابنها بما يليق به، صبرت على يومها العصيب. وبيت العائلة لم يكن وحده في استقبال الناس. بيوت الجيران كانت مشرعة، ليس لأبناء القرية، بل للآتين من القرى المجاورة يعزون رميش بشهيدها. «شهيد الوطن»، يقول الرجل الآتي من عيتا الشعب لابن رميش.. «هذا مصاب مشترك». «استشهدا معاً». يجيبه الثاني، «الجيش لا يعرف المسلم من المسيحي». يقصد الرقيب الأول الشهيد خير الله هدوان. بالقرب من الآتي من عيتا الشعب، تجلس سيدة مسنّة بعباءة سوداء. كانت ترتاح بعدما وقفت طويلا بين النسوة تنوح وينحن بعدها.

طقوس الحزن واحدة هنا، في هذه الجهة من الجنوب. كذلك طقوس الجيرة. لم تترك عيتا الشعب وعيثرون وعيناثا وبنت جبيل القرية الحزينة لوحدها في هذا اليوم. جاءت القرى في وفود تحمل لافتات، وظلت حتى آخر النهار. واجب يتعدى استنكار جريمة إرهابية. هي أخلاق القرى التي تحكي اللهجة نفسها وتزرع التبغ نفسه.

عند الثانية عصراً وما بعد، صار المطر غزيراً. تفرقت الناس من الشارع الى البيوت وعند أطرافها. وبين الثانية والرابعة، مر الوقت على الحال ذاتها. يشتد المطر فيتفرقون ويخف فيعودون الى الشارع.

عند الرابعة عصراً، وبعد الكلام عن وصول الموكب إلى عين إبل القريبة، مشى الناس الى الطريق التي تربط القريتين.

كان الموكب قد خرج من بنت جبيل، حيث الهواء عاصف، بالمعنى الحرفي للكلمة، عند صف الهوا، ومع ذلك تجمع أهل المدينة وجوارها وودعوا عسكرياً عزيزاً.

في رميش، وفي الساعة الفاصلة بين مسيرة الناس للقاء الشهيد، وبين وصوله، ترتب المشهد الأخير بهدوء ونظام لافتين. شبان وأولاد كشافة لبنان وكشافة الرسالة الإسلامية اصطفوا على جانبي الطريق، ومنهم من انتظموا في مجموعات فرق موسيقية. وتحت المطر، وقف هؤلاء في أماكنهم بينما مشى كثيرون لملاقاة اللواء عند أول القرية. عند الخامسة وصل الموكب الكبير، وخرج النعش الملفوف بعلمين لبنانيين، واحد فوق الآخر. حمله جنود وشبان ومشى خلفه المصفقون «للقائد». اختلط المدنيون بالعسكر برتبه المختلفة. والرجل المسن بالحطة والعقال، راح يقبل كل ضابط أو جندي يلتقيه معزياً. وتقبل هؤلاء عزاءه بامتنان كبير.

دخل اللواء الشهيد قريته وهي تلوّح له بالعلم وتنثر عليه وردا وأرزّاً وتصفيقا ونواحاً وموسيقى وأجراس كنائس. أمامه رفع شاب كشفي صليباً فضياً على عصا طويلة. وحول هذا مشت صلبان من ورد أبيض، وأكاليل كثيرة. وعلى مخدة نبيذية، حمل جندي الشرطة العسكرية أوسمة اللواء، وكان حذراً على بعض من سيرة الشهيد في الجيش اللبناني. السيرة التي يحملها أبناء قريته له، هو كبيرها المتواضع، كما يرونه، البطل الذي خطف منهم قبل أن يكلل بنجمتين أخريين تجعلانه عماداً وقائداً للجيش.

تأخر الشهيد عن بيت العائلة. وصله ليلاً فأضاءت المفرقعات السماء. على وقع الموسيقى الجنائزية دخل بيت أبيه. كان الأب قد سبقه الى البيت يسنده عميد في الجيش. قدّم العسكر السلاح ورفع الضباط أكفّهم نحو جبينهم لوقت طويل. غصّ الشارع بآلاف حافظوا على هدوء غير معتاد في مناسبات حاشدة كهذه.

لم يطل مكوثه الأخير في بيت والده. خرج بعد دقائق. ومن البيت إلى كنيسة التجلي مشى النعش في رحلة مهيبة في ليل معتم توقف مطره عن الانهمار ولم تصمت أجراس كنيسته.

مشوار اللواء كان طويلا هذا اليوم. أوقفته مدن وقرى كثيرة لتحييه. رميش كانت مسك ختام رحلته. في صحن الكنيسة الملآنة بالضباط اللبنانيين ومن اليونيفيل والنواب ورجال الدين من طوائف مختلفة، أقيمت الصلاة، وبدأ المطران نبيل الحاج كلامه بعبارة «مسلمة». قال: «عظّم الله أجوركم». قرأ عظة البطريرك نصر الله صفير التي تلاها في حريصا.

بعدها حملت رميش ابنها إلى مسقط رأسه الأبدي. كانت، بين شقيقاتها القرى، أماً حزينة وجدت من يعزيها. وجدت بلداً برمته يحضنها في يومها التاريخي. كانت أماً حزينة لكنها، تحت المطر، مشت وقد رفعت رأسها عالياً.

تعليقات: