18 عاماً على توقيع اتفاق الطائف


الانتقال من حالة الحرب الى اللاحرب [1 من 3]

الترويكا وضعف التمثيل المسيحي في الحكم ساهما في تطبيقه المتعثر

بعد 18 عاماً على تصديق مجلس النواب اللبناني وثيقة الوفاق الوطني او ما عرف باتفاق الطائف، يطرح السؤال: ماذا حقق اتفاق الطائف؟ ولماذا اظهرت الأزمة السياسية الحالية عجز هذا الاتفاق عن تقديم الحلول الناجعة، وبالتالي محاصرة الأخطار التي تهدد بنية النظام السياسي؟ في هذا التحقيق من ثلاث حلقات نحاول تفنيد بعض البنود الاصلاحية التي نص عليها الطائف ولم تحقق حتى اليوم.

شكّل اتفاق الطائف نقطة تحول اساسية في مسار الأزمة اللبنانية بمختلف ابعادها الداخلية والدولية والاقليمية، ووضع هذا الاتفاق الأسس والمرتكزات لاعادة توحيد المؤسسات الدستورية وبناء الدولة، لكن الطائف انهى الحرب الأهلية وحروب الآخرين على الأرض اللبنانية.

وبعد مرور 18 عاماً على هذا الاتفاق، لماذا لم تقم في لبنان دولة القانون والمؤسسات؟ ما الذي نفذ من الطائف؟

صحيح ان اتفاق الطائف جاء نتيجة تراكم مشاريع اصلاحية عدة ابرزها "الوثيقة الدستورية" (1976)، و"الاتفاق الثلاثي" (1985) وغيرهما من المبادرات التي دأبت الأحزاب والقوى اللبنانية. الداخلية والقوى الاقليمية والدولية على اطلاقها، ما أدى الى انضاج "الحل السياسي الشامل للأزمة اللبنانية". ويسود اعتقاد مفاده ان قيام الجمهورية الثانية بعد الاستقلال يضع حداً لتناقضات الصيغة اللبنانية ومزاوجة الديموقراطية التوافقية والنظام البرلماني الديموقراطي، من خلال مروحة واسعة من الاصلاحات الدستورية التي وضعت حداً لاستئثار "المارونية السياسية" بمفاصل الحكم في لبنان، وبالتالي اعادة توزيع الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعاً.

وزير التربية والتعليم العالي وأحد المشاركين في صوغ بنود الاصلاحات الدستورية الدكتور خالد قباني يؤكد ان الطائف جاء ثمرة توافق لبناني برعاية جامعة الدول العربية، في ظل مناخ دولي كانت حصيلته نقل لبنان من حالة الحرب الى السلام. ويعتقد ان تطبيق الطائف قد تعثر في بداياته بعد عام من اقراره، ويضيف "لقد كان الهم الأول للحكومة التي انبثقت من هذا الاتفاق بالتعاون مع مجلس النواب، توحيد السلطة وعودة المؤسسات الدستورية الى العمل بشكل طبيعي ومعالجة مشكلة الميليشيات. ورغم صعوبة هذه المهام، استطاعت الدولة ان تستعيد انفاسها وان تشق طريقها نحو البدء بهذه المسيرة". كان من المفترض ان يلعب مجلس الوزراء دوره في تنفيذ الاصلاحات الدستورية، وفي مقدمتها حسم موضوع المشاركة في صنع القرار السياسي على مستوى السلطة التنفيذية بعيداً من الاستئثار بالسلطة، على غرار المرحلة التي سبقت توقيع الطائف.

ويشير قباني الى تعديل المادة 17 من الدستور التي نقلت السلطة التنفيذية من يد الشخص (رئيس الجمهورية) الى يد هيئة جماعية تتمثل في مجلس الوزراء، الذي تشارك فيه مختلف الطوائف والقوى السياسية اللبنانية.

في المقابل ضمن الطائف لرئاسة مجلس النواب الاستقرار وكرّس ولاية رئيس المجلس بأربع سنوات، كي يلعب مجلس النواب دوره بعيداً من ضغوط السلطة التنفيذية وتأثيراتها، ويمارس دوره التشريعي والرقابي ليستقيم عمل السلطات الدستورية في اطار التعاون والتوازن وضمن مفهوم مبدأ فصل السلطات الذي نصت عليه مقدمة الدستور.

وخلافاً للعرف الذي ساد قبل توقيع الطائف، أحجم مجلس النواب عن منح الحكومة الصلاحيات الاستثنائية، وبالتالي لم تستطع اصدار المراسيم الاشتراعية رغم طلب الرئيس الاسبق الشهيد رفيق الحريري من رئيس مجلس النواب نبيه بري في العام 1992 موافقة البرلمان على منح الحكومة هذه الصلاحيات، الامر الذي حصن نظرياً موقع مجلس النواب واحتكاره التشريع تطبيقاً للنص الدستوري (تنص المادة 16 من الدستور: تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب ).

استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام سليمان يعتبر ان الطائف لم يطبق بكامل بنوده، وان هذا التطبيق جاء مخالفاً في بعض الأحيان لروحية الاتفاق، ويظهر ذلك من خلال قوانين الانتخاب التي اعتمدت منذ العام 1992 تاريخ اول انتخابات نيابية بعد الطائف، يقول "لم تتعارض قوانين الانتخاب مع الطائف وحسب، انما خالفت النصوص الدستورية، وخصوصاً ان الطائف نصّ على قانون انتخاب يحقق تمثيلاً صحيحاً وعادلاً، اضافة الى تقسيم الدوائر الانتخابية على قياس المرشحين المطلوب انجاحهم. والطامة الكبرى، تكمن في اعتماد النظام الأكثري في الدوائر الكبرى مما ادى الى تجييش العصبيات الطائفية والاستعانة بالمال السياسي لاحتكار تمثيل الطوائف الكبرى".

ويرى سليمان ان الانتخابات النيابية التي جرت بعد الطائف وحتى العام 2005 لم تؤد الى تعددية داخل الطوائف الكبرى، "بل دفعت في اتجاه احتكار التمثيل من زعماء الطوائف وبالتالي منعت تشكل المعارضة، وتسببت في شل المؤسسات الدستورية، وخصوصاً مجلسي النواب والوزراء في ظل تحول الصراع السياسي الى صراع مذهبي".

استاذ القانون الاداري والدستوري في الجامعة اللبنانية الدكتور رئيف خوري يعتبر ان اتفاق الطائف جاء نتيجة لصيغة توفيقية اكثر مما هو ولادة لارادة مشتركة عند اللبنانيين من دون ان يحمل التغيير في العقلية السياسية الهادفة الى تطوير الحياة السياسية والنظام الدستوري والسياسي للوصول الى ما هو افضل واجدى للبنان، ويضيف "ان اتفاق الطائف احدى الصيغ السياسية الطائفية المتعاقبة منذ العام 1840، ويتضمن تسوية سياسية ترعاها التوازنات الطائفية البعيدة من ارادة التخلص من التعصب الطائفي والمذهبي والايديولوجي والمصالح الفئوية نحو صيغة حضارية متطورة تعترف بغنى التنوع الديني على صعيد العقائد من دون ان تطغى هذه الأخيرة على الصيغ العملية لتنظيم الدولة. بحيث يفترض بناء الدولة العادلة والقادرة مؤسساتها الدستورية وبناها القانونية والاجتماعية والاقتصادية القادرة على صهر اللبنانيين وعلى رعاية شؤونهم وتحقيق الاستقرار الدائم والنمو والعدالة، وعلى تأكيد اولوية الانتماء الوطني على ما عداه من الانتماءات الباقية. فلهذه الناحية يمكن ببساطة اعتبار اتفاق الطائف في مثابة تجديد للتسويات الطائفية التي اختبرها اللبنانيون، الذين باتوا اليوم في حاجة الى تجاوز هذه الصيغة الطائفية، الى صيغة حياة مدنية تنقل لبنان من دولة الطوائف الى دولة الحقوق والقانون والمؤسسات، ومن دولة متخلفة الى دولة متطورة، ومن دولة الأقليات الى وطن الكرامة الانسانية".

الغاء الطائفية السياسية

يرتكز النظام اللبناني على صيغة تحفظ للطوائف الكبرى مواقعها الأساسية في الحكم، وتكرس عرفاً قضى بتوزيع الرئاسات الثلاث على الموارنة والشيعة والسنة، وأضحت هذه المعادلة من المسلمات في لبنان.

لكن التوزيع الطائفي للمناصب لم يقتصر على رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة، بل تعداه الى مختلف الوظائف بدءاً بالمناصب السياسية وصولاً الى الوظائف في الادارات والمؤسسات العامة. لذلك وضع المجتمعون في الطائف نص المادة 95 من الدستور التي تقضي بتشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية. لكن هذه المادة لا تزال حبراً على ورق، ولم يتّم تسجيل اي محاولة جدية في اتجاه تشكيل هذه الهيئة لالغاء الطائفية السياسية، وحصل العكس عبر تكريس الطائفية الوظيفية بدءاً من الفئة الأولى وصولاً الى الفئة الثالثة وغيرها. وحسب قباني فان الطائف لم يكرس الطائفية او النظام الطائفي "لأنه كان حكيماً في مقاربته هذا الموضوع الذي يتسم بالحساسية المفرطة، ولا سيما ان لبنان كان على اهبة الخروج من حرب مدمرة دامت اكثر من 15 عاماً. واتسمت في بعض مراحلها بالسمة الطائفية. وبالتالي في مثل هذه الأجواء يصعب الغاء الطائفية بقرار حكومي او بقانون يقره مجلس النواب، لذلك وضع النصّ الدستوري آلية الغاء الطائفية السياسية عبر تشكيل الهيئة الوطنية، وفق ما جاء في المادة 95 من الدستور وايضاً ما نصت عليه مقدمة الدستور".

اذاً، كان من المفترض ان يصار الى تشكيل هذه الهيئة الوطنية من اجل وضع الدراسات والآليات والاقتراحات لالغاء الطائفية السياسية. اضافة الى ضرورة تشكيل مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الطوائف، وتناط به صلاحية اصدار القرارات المصيرية.

لم تبصر الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية النور، وكرّست الترويكا مفهوماً جديداً للمحاصصة الطائفية وتقاسم نفوذ الطوائف داخل المؤسسات الدستورية والادارات العامة مما افضى الى واقع جديد ارادت من خلاله كل طائفة الامساك بمفاصل الحكم من جهة، وتأكيد على مكتسباتها بغطاء اقليمي احياناً ودولي احياناً اخرى، وبالتالي تحول الغاء الطائفية السياسية شعاراً يردده زعماء الطوائف لحماية مكتسباتهم.

في هذا السياق يوضح سليمان "بعكس ما نص عليه الطائف، جاءت الممارسة لتكرس الطائفية والمذهبية ليس في وظائف الفئة الأولى، وانما في مختلف الميادين ومنها القضاء وغيره. كل هذا يتعارض جذرياً مع الدستور والطائف اضافة الى ان الحكومات المتعاقبة منذ الطائف حتى اليوم انتهكت نص المادة 95 وكرست طائفية الوظائف ومذهبيتها على الصعد المختلفة في الدولة".

من جهته يأخذ خوري على اتفاق الطائف تكريس اشكاليات النظام الطائفي في لبنان، لأنه "أعاد تأكيد استمرارية الطوائف كوسيط بين الدولة والمواطن مما جذّر الطائفية السياسية وأوجد حائطاً سميكاً بين المواطن والدولة، وعمق اشكالية الانتماء بعدم ايجاده الظروف المناسبة والمؤاتية لخلق المجتمع المتجانس والمتكامل الحافظ للتعددية ضمن الوحدة، كما انه لم عن ينه اشكالية الازدواجية بين الدستور والصيغة الطائفية، اي مسألة تقاسم السلطات بين الطوائف المعطلة لقواعد النظام البرلماني الديموقراطي، كما انه لم يستجب لحاجة مشاركة الشعب في الحكم عبر قانون عصري متمدن للانتخاب وقانون يطوّر الأحزاب وينمّيها ويشيع العمل الحزبي المانع التموضع الطائفي".

الانماء المتوازن

يردّد الرئيس حسين الحسيني على مسامع زواره ما قامت به الحكومة اليابانية عندما انشأت نفقاً يربط جزيرة صغيرة يقطنها آلاف عدة من اليابانيين باحدى الجزر الثلاث الكبرى التي تتألف منها اليابان وتكبدت الأخيرة مليارات الدولارات لانجاز بناء هذا النفق.

هذا المثل يسوقه الحسيني في معرض حديثه عن اهمية الانماء المتوازن في تعميق شعور المواطنة لدى المواطنين.

من هنا جاءت مقدمة الدستور التي اضيفت الى الدستور بموجب الطائف لتؤكد اهمية الانماء المتوازن وذهبت المقدمة الى ابعد من ذلك عندما اعتبرت ان الانماء المتوازن، للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن اساسي من اركان وحدة الدولة واستقرار النظام.

لكن الحكومات المتعاقبة لم تول الانماء المتوازن اي اهمية، وفضّلت الشروع في اعادة اعمار وسط بيروت واعادة انشاء البنى التحتية في بعض المناطق واهملت مناطق عدة، وخصوصاً في الأطراف من عكار وصولاً الى الهرمل مروراً ببعض مناطق جبل لبنان...الخ

ويعلق سليمان "رغم ان مقدمة الدستور نصّت على ضرورة تحقيق الانماء المتوازن، الا ان الأمور سارت بخلاف ذلك منذ العام 1990، علماً ان الحكومات المتعاقبة ومجالس النواب ملزمة باعتماد السياسات التي تؤدي الى تحقيق الانماء المتوازن، مما يعني ان السياسات التي اعتمدت على مدى السنوات المنصرمة لم تعر اهتماماً للنص الدستوري".

وينتقد سليمان السياسات التي "اغرقت" الدولة في الديون، ولم تقدّم اي رؤية للانماء المتوازن "علماً ان الرئيس الراحل فؤاد شهاب كان السباق في معالجة مسألة الانماء عبر استقدامه بعثة ايرفد التي اشارت في تقريرها الى التفاوت الرهيب في المستوى المعيشي والانمائي بين المناطق اللبنانية وأوصت بردم الهوة بين هذه المناطق من طريق الانماء المتوازن".

ويجزم سليمان بأن عدم تحقيق الانماء المتوازن ينذر باعادة التوتر في المستقبل. ومن المسلم به ان الانماء المتوازن هو من وجوه العدالة الاجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الاجتماعية، وتساهم في تعزيز حقوق المواطنين، وبالتالي تحول دون استغلال بعض الأحزاب والقوى السياسية تقصير الدولة في القيام بواجباتها لتظهر هذه الاحزاب والقوى كأنها البديل من الدولة تحت حجج رفع الحرمان وتأمين الخدمات، مما يضعف شعور المواطنين في المناطق المحرومة الانماء بالمواطنة ويُراكم لديهم اسباب النفور من السلطة وبالتالي يضعف النظام السياسي على حساب نفوذ هذه الأحزاب.

اللامركزية الادارية

لم تقتصر البنود الاصلاحية في الطائف على الغاء الطائفية السياسية وتحقيق الانماء المتوازن، بل نصّت ايضاً على اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة وانشاء المجالس على مستوى القضاء وما دون، الأمر الذي يحقق التنمية المحلية. لكن الحكومات المتعاقبة تقاعست عن وضع مشروع قانون اللامركزية الادارية، واكتفت بما تحقق من لامركزية اقليمية على مستوى البلديات واتحاد البلديات، وحسب سليمان فان السبب يكمن في رغبة بعض المسؤولين في الدولة في الحفاظ على النظام المركزي لتكريس نفوذهم.

في هذا السياق يرى خوري ان عدم الشروع في تطبيق ما نص عليه الطائف لجهة توسيع اللامركزية الادارية "عزّز التبعية السياسية، اذ ان ابناء الأطراف، ظلوا مضطرين كي يضمنوا احتياجاتهم ومصالحهم والتي يتركّز معظمها في العاصمة، لأن يؤمنوا مصالح زعمائهم. وبالتالي ان عدم تحويل اللامركزية الادارية من نص دستوري وقانوني الى امر عملي مطبق على الأرض يساهم في منع قيام الدولة العادلة والقوية".

-------------------------------

18 عاماً على توقيع اتفاق الطائف: الانتقال من حالة الحرب الى اللاحرب [2 من 3]

سعى إلى إرساء القواعد الأساسية للنظام الديموقراطي واستبعاد كلّ تفرد

... لكن تطبيقه أدى إلى محاولة احتكار السلطة على حساب المؤسسات

لا يمكن القول ان ما طبِّق على مدى 18 عاماً كان اتفاق الطائف، في الوقت عينه لا يمكن التبرؤ بشكل مطلق من انجازات تطبيق بعض ما ورد في الطائف، في الفترة السابقة، وفي مقدمها اقرار التعديل الدستوري في ايلول 1990 وبالتالي اعتبار الطائف جزءاً لا يتجزأ من الدستور اللبناني.

يجزم وزير التربية والتعليم العالي الدكتور خالد قباني ان اتفاق الطائف لا يزال صالحاَ للتطبيق، وخصوصاً انه لم يطبَّق كما يجب، ويضيف "ان ما طبِّق من الطائف تم استنسابيا، واغفلت البنود الإصلاحية التي هي على جانب كبير من الأهمية وتفتح الطريق امام بناء الدولة المدنية الحقيقية بعيداً عن الطائفية ولذلك نصت المادة 95 من الدستور على "انشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية".

ويعتبر قباني ان "الطائف لم يعط الفرصة الكافية كي يحكم المواطن اللبناني على صلاحيته او عدمها، وخصوصاً انه ارسى القواعد الأساسية للنظام الديموقراطي البرلماني، ووضع المبادئ الدستورية التي تؤكد دولة القانون والتعاون بين السلطات والتوجهات المستقبلية لبناء الدولة واشراك الطوائف والقوى السياسية اللبنانية في الحكم وصنع القرارات وادارة الشأن العام". ويستدرك قباني ان "اي نص من النصوص واي دستور من الدساتير اذا لم يطبق بحسن نية ولم يُصر الى التزام بأحكامه يفقد الكثير من جاذبيته ومن حصانته، وهذا ما حصل خلال الأعوام التي تلت اقرار الطائف في العام 1990". ويجزم قباني بأن الطائف شدد على اهمية دور المؤسسات الدستورية و"اراد ان يبعد كل انفراد في السلطة عبر اناطة هذا الدور في اطار الفهم الحقيقي للنظام البرلماني، لكن الواقع جاء بعكس ذلك وانتهى الأمر الى محاولة الاحتكار والاستئثار بالسلطة على حساب المؤسسات. وهذا ما تبلور من خلال ما سمي بنظام الترويكا الذي شكل خللاً اساسياً في مفهوم الطائف وبالتالي افراغه من مضمونه عبر هذا النسق من التطبيق، في ظل المناخ السياسي والأزمات السياسية التي اضطربت في المنطقة العربية مما اثر سلباً على تطبيق الطائف".

من جهته يعتبر استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام سليمان ان فترة الوصاية السورية ادت الى تهميش دور المسيحيين في صيغة الحكم بدءاً من العام 1992. ويضيف "في المقابل كان رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء يمثلان قاعدة شعبية واسعة في طائفتيهما (الشيعة والسنة). وادت هذه الممارسة الى خلل واضح بين المسلمين والمسيحيين، وبدا ان الموقع المسيحي الأول في الدولة، اي رئاسة الجمهورية اضحى مهمشاً".

ويفند استاذ القانون الاداري والدستوري في الجامعة اللبنانية الدكتور رئيف خوري بعض البنود الإصلاحية التي نص عليها الطائف ولم تطبق حتى اليوم، ومنها "اعطاء مقدمة الدستور مفاعيلها الحقوقية كلها، او وضع احكام المادة 95 من الدستور موضع التنفيذ، او الحفاظ على المكسب الديموقراطي والدستوري المهم المتمثل في تشكيل المجلس الدستوري المنوط به الرقابة على مدى دستورية القوانين والنظر في الطعون الرئاسية والإنتخابية بعدما جرد من صلاحية تفسير الدستور والقوانين بمراجعة مباشرة تقدم لديه، وتم حصر صلاحية التفسير بمجلس النواب، او تفعيل دور المجلس الاقتصادي الاجتماعي، او اخراج المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من الإطار الشكلي الفولكلوري، او عدم ربط احكام المادة 58 من الدستور بالإرادة الشخصية لرئيس مجلس النواب بعدما عززت ولايته بجعلها مجلس النواب اربع سنوات، او عجزنا طيلة 17 سنة عن معالجة مشاكل المهجرين، او تقنين العلاقات اللبنانية - السورية في اطار سيادة البلدين ووضعهما في اطارها الصحيح القائم على حسن الجوار وعدم تشكيل اي من الدولتين مصدر تهديد للدولة الأخرى بعد تجفيف مصادر التهديد. وهذه الامور كلها تشير الى ان لبنان ليس دولة دستورية بالمعنى الكامل للكلمة”. ان هذا العجز الواسع المتمادي والمتفاقم يدل على ان هناك ما هو مواز للنص الدستوري يرعى صيغة الحكم في لبنان. انه الدستور الموازي غير المكتوب المتمثل في النظام الطائفي الملي للأعراف السائدة منذ الاستقلال، والمانع للاصلاح الدستوري والسياسي من ان يؤدي كامل غاياته. انها مسألة الازدواجية بين الدستور والصيغة الطائفية التي تشير الى تراجع احكام الدستور امام الصيغة الطائفية، مما يجعل لبنان امام كونفدرالية الطوائف، ان لم يكن في خضمها الشائك البغيض. وان مجرى الأمور في لبنان يشير الى محدودية تأثير الدستور على الحياة السياسية العامة، اذ ثمة شعور ان الدستور صك منسي مهمل وضع على الرف، بحيث يؤدي اهماله واهمال تطويره وتعديله وتغليبه على ما عداه الى اخفاقات تلو الإخفاقات.

فجوات في الاتفاق

هذا وقد ثبت ان الطائف ترك في الدستور اللبناني فجوات عدة، لأنه وضع ليبقي دوراً لوصي خارجي، يستطيع من خلال غموض بعض مواده ونقصها، ان يحفظ لنفسه هامشاً كبيراً من التدخل في الحياة السياسية. وهذا ما كان حاصلاً اثناء الوجود السوري وتأكد بعد خروجه من لبنان. فبعد انفتاح الحياة السياسية على الإحتمالات كلها، ظهرت الفجوات التطبيقية للمواد الدستورية المعدلة في الطائف، الأمر الذي سبب هذا الوضع الشاذ، وهذه "العصفورية الدستورية" كما وصفها الأستاذ غسان تويني.

فلو طبقت تعديلات الطائف بالروحية التي وضعت من اجلها، وهي المشاركة الإيجابية من الجميع دون وضع العراقيل من فئة ومحاولة الاستئثار من فئة اخرى، لكان النظام السياسي اللبناني شهد تطوراً ديموقراطياً لافتاً ولكانت الحياة البرلمانية الرقابية والإشتراعية شهدت انبلاج فجر جديد.

ويعتبر خوري ان عدم اعتماد قانون انتخابي على اساس الدوائر الصغرى، ساهم بشكل كبير في استفحال النزاعات السياسية، حيث ان ظهور الكتل النيابية الكبرى، ساهم في تطويق الرئيس ووضعه تحت الأمر الواقع، اذ ان اتفاق رؤساء الكتل يطوق الرئيس، واختلافهم يكبل الوطن”.

الإصلاحات الدستورية

ارتكز اتفاق الطائف على التوفيق بين المبادئ والقواعد المعتمدة في الأنظمة البرلمانية من جهة، ومبدأ المشاركة الطوائفية في السلطة من جهة ثانية. وناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء بعدما كانت حكراً على رئيس الجمهورية، في موازاة تعزيز رقابة مجلس النواب على اعمال السلطة التنفيذية، مما افضى الى تعزيز موقعي رئيسي الحكومة والبرلمان في مقابل صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية ابرزها مشاركته في تشكيل الحكومة، بحيث ان الحكومة لا تتشكل من دون موافقة رئيس الجمهورية وخلا النص الدستوري من اي اشارة الى المهل التي يجب التقيد فيها خلال تشكيل الحكومة اذا ما حصل خلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تشكيل الحكومة تبعاً لنتائج الإستشارات النيابية الملزمة التي يتوجب على رئيس الجمهورية ان يجريها لتسمية رئيس الحكومة. علماً ان اقتراحات عدة طرحت قبل توقيع الاتفاق، ومنها الاحتكام الى مجلس النواب في حال تخلف رئيس الوزراء المكلف عن تشكيل الحكومة خلال 30 يوماً، وفي حال عدم الإتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف على اصدار مرسوم تشكيل الحكومة يحق للأخير العودة الى مجلس النواب واذا نال الأكثرية المطلقة من عدد النواب تعتبر الحكومة مشكَّلة وعلى رئيس الجمهورية اصدار المراسيم اللازمة.

ولعل ابرز ما ادخله الطائف على الدستور بموجب التعديل الدستوري في 21 ايلول 1990 هو استحداث مؤسسة مجلس الوزراء، والتي يناط بها رسم السياسات العامة واتخاذ القرارات الإجرائية.

رئيس الجمهورية : الصلاحيات والدور

منذ قيام الجمهورية اللبنانية في العام 1926، تمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات دستورية واسعة، مما دفع البعض بوصفه بـ "الملك غير المتوج"، حيث كان يمسك بالسلطة الإجرائية ويعين الوزراء ويختار منهم رئيساً، اضافة الى صلاحية حل مجلس النواب وغيرها من الصلاحيات، في ظل واقع لبنان الطائفي الذي جعل من هيمنة رئيس الجمهورية هيمنة الطائفة المارونية على مقدرات الحكم، مما اثار حفيظة بقية الطوائف التي دأبت على المطالبة باشراكها الفعلي في الحكم، وبالتالي رفع ما كانت تسميه الغبن. وجاء الميثاق الوطني في العام 1943 كتسوية سياسية بين المسيحيين والمسلمين من دون ان تمس بروح الدستور او تتعرض لصلاحيات رئيس الجمهورية، نظراً الى الإجماع اللبناني على التخلص من الانتداب الفرنسي واقامة دولة مستقلة عن الشرق والغرب .

هذه التسوية ترنحت امام المتغيرات الإقليمية، وبدت كأنها التربة الخصبة لنمو النزاعات والصراعات الداخلية لتتفجر في نيسان 1975 حرباً مدمرة للدولة والمؤسسات الدستورية، وترافق ذلك مع ازدياد المطالبة الإسلامية بالمشاركة في الحكم ووضع حد لما سمي هيمنة "المارونية السياسية" متمثلة برئيس الجمهورية المحصن بالصلاحيات الدستورية الواسعة، الى ان جاء اتفاق الطائف ليشكل نقطة تحول اساسية في مسار الدولة اللبنانية، والأهم من ذلك لينهي الحرب الداخلية وحروب الآخرين على الأراضي اللبنانية.

نص اتفاق الطائف على جملة من الإصلاحات الدستورية ابرزها نقل السلطة الإجرائية من رئيس الجمهورية المسيحي الى مجلس الوزراء الذي يرأسه مسلم.

وقد اثار نقل هذه الصلاحيات جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية، واعتبره بعضهم مثابة اضعاف لموقع رئاسة الجمهورية على حساب مجلس الوزراء مجتمعاً.

في هذا السياق يرى قباني ان الطائف ميز رئاسة الجمهورية من خلال موقعها ودورها "باعتبار ان رئيس الجمهورية يسهر على استقلال لبنان وسيادته ووحدة اراضيه وسلامتها. الطائف اراد ان يجعل رئيس الجمهورية رمزاً لوحدة الدولة واناط بها دور الساهر على تطبيق الدستور(...) وفي الوقت عينه اصبح رئيس الجمهورية حَكَماً في اي صراع سياسي داخلي، ولا يتحول خصما او فريقا يؤثر على موقعه ويعوق دوره في حماية النظام واستقرار الأوضاع في البلاد. كما اناط الدستور برئيس الجمهورية، خلافاً لما يخطر في بال البعض بصلاحيات مهمة جدا يستطيع من خلالها ان يحافظ على موقعه السامي، وان يلعب دوره في الحياة السياسية. ويرى قباني ان المشكلة تكمن في عدم فهم الطائف على حقيقته.

من جهته، يعتقد سليمان ان الممارسة في الأعوام المنصرمة "خرجت من هذا الإطار بهدف القبض على مؤسسات الدولة، وظهر ذلك جلياً من خلال ما عرف بالترويكا في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، تحت ذريعة تحقيق المشاركة الطوائفية في السلطة، مما ادى عملياً الى تقليص حجم المشاركة الطوائفية نفسها وتحويلها الى المحاصصة، وبالتالي تحجيم دور مجلس النواب والوزراء. فما يتم الاتفاق عليه في الترويكا يمرر بسهولة، وفي حال الإختلاف يوضع في الأدراج وتعطل المؤسسات الدستورية تحت وقع "الإعتكاف" الذي لجأ اليه مراراً رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، او يتم الاستعانة بالقيادة السورية لحل الخلاف وتوزيع الحصص".

اما المحامي ميشال تويني فيرى ان رئيس الجمهورية "لا يزال يتمتع بصلاحيات اساسية ومهمة رغم التعديلات الدستورية التي اقتطعت الكثير منها" ويضيف "ان الجزء المؤثر من هذه الصلاحيات لا يزال موجوداً انما طريقة الممارسة التي على الرئيس اتباعها اختلفت، حيث يقتضي على رئيس الجمهورية ان يسمي عدداً من الوزراء يشكلون له الضمانة للتدخل وابداء الرأي في اي من قرارات الحكومة، انطلاقاً من كونه صاحب التوقيع الوحيد الذي تبصر من خلاله الحكومة النور”.

ويضيف: "صحيح ان نظامنا قبل العام 1990 كان قائماً على وجود ثنائية تتولى السلطة التنفيذية تتمثل في رئيس دولة يحكم ولا يحاسب، وحكومة تحكم وتكون مسؤولة عن اعمالها امام البرلمان، بحيث اتت التعديلات الدستورية للعام 1990 لتجعل صلاحيات السلطة الإجرائية موزعة على مثلث: رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ومجلس الوزراء.

علما ان رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف- نتيجة لإشكالية الازدواجية بين الدستور والصيغة الطائفية - لم يكن مطلق الصلاحيات، ولم يكن حاكماً بأمره واقرب الى ديكتاتور، ولم يكن ليتجاهل رئيس الحكومة بعدم اعارة صلاحياته اي اهتمام، ولم يكن ليمارس الصلاحيات المنوطة برئيس الدولة في النظام الرئاسي، وحتى لم يمارس صلاحيات رئيس الدولة في النظام شبه الرئاسي.

كما ان رئيس الجمهورية لم يتحول بعد العام 1990 "شرابة خرج" او "صندوق بريد" او "بوسطجي"، انما ما زال يتمتع بصلاحيات واسعة وفعالة منها ما اتى نتيجة لاتفاق الطائف. وهذا ما تدل عليه الحياة السياسية اليومية في لبنان بعدما جعله اتفاق الطائف حكماً بين اللبنانيين ورمزاً للوطن ورئيساً للدولة وحامياً للدستور وللسيادة الوطنية. كما ان بعض الأحكام الدستورية تعطي رئيس الجمهورية صلاحيات تجعل منه قطباً دستورياً مؤثراً، بحيث لا يمكن السلطة التنفيذية او السلطة التشريعية تجاهله.وهذا ما اتت عليه احكام المواد 52 و53 و55 و57 و58 وغيرها من الدستور اللبناني.

ويتمثل صدق التحليل في نزع الصفة التسلطية الفردية الديكتاتورية عن رئيس الجمهورية في مرحلة ما قبل الطائف عبر توافر المشاركة الفعلية في تلك المرحلة بمشاركة رئيس الحكومة في تأليف الحكومات وبالتوقيع المجاور على المراسيم، اضافة الى انه لم يحصل ان اقيلت حكومة بقرار مباشر من رئيس الجمهورية. فان رئيس الجمهورية في مرحلة ما بعد الطائف لم يُجرد من صلاحياته الفعالة، لأن الحياة اليومية تدل على عكس ذلك تماماً" ولا سيما ان النظام الدستوري اللبناني قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”.

--------------------------

18 عاماً على توقيع اتفاق الطائف: الانتقال من حالة الحرب الى اللاحرب [3 من 3]

وُلـــد مـــيـــتـــاً لأن الـــشــــريــــك الـمــــســـيـــحــي غُــــــيّـــب وضُـــــرب

فـــــشـــــل فــــي بـــنـــاء مـــؤســـســــات الــــدولـــة وتنظــيم العلاقــات مـــع ســـوريــا

يعتبر انشاء المجلس الدستوري من ابرز الانجازات التي تحققت بموجب الاصلاحات الدستورية في العام 1990 (التعديل الدستوري رقم 18 في 18 ايلول 1990)، لكن التجربة اثبتت ان السلطة القضائية لم تتمتع باستقلالية تامة عن السياسة، وثمة أمثلة كثيرة، قد يكون أبرزها القرار "الغريب" للمجلس الدستوري الذي أبطل نيابة المهندس غبريال المر في العام 2002.

يعتبر وزير التربية والتعليم العالي الدكتور خالد قباني أن الطائف اراد ان يؤسس لسلطة قضائية مستقلة كمدخل لبناء دولة القانون، ويرى ان انشاء المجلس الدستوري جاء في مثابة الضمانة الأساسية والأصيلة للحريات، ولضبط عمل المؤسسات الدستورية في اطار الدستور عبر الرقابة على دستورية القوانين وعدم الخروج على احكام القانون الأسمى (الدستور)، وخصوصاً ان الأخير يتضمن المبادئ والقواعد الأساسية التي يرتكز عليها نظامنا الإجتماعي والإقتصادي والسياسي.

في العام 1991 عيّن مجلس الوزراء 40 نائباً بدل النواب المتوفين ولزيادة عدد النواب على قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وقد سبق تعيين النواب الإنتخابات النيابية الأولى في عهد الجمهورية الثانية بعد الإستقلال، ويسميها البعض مجازاً جمهورية الطائف.

هذه الإنتخابات الأخيرة في العام 1992 شكلت بداية متعثرة لتطبيق الطائف بعد مقاطعة معظم القوى المسيحية، احتجاجاً على قانون الإنتخاب الذي فُصّل على قياس بعض الزعامات الطائفية الإسلامية.

ولم يستطع اللبنانيون الإتفاق على قانون انتخاب عادل يجاري ما نص عليه اتفاق الطائف. وجاء قانون انتخاب 1996 رغم ابطال المجلس الدستوري للقانون الانتخابي رقم 530، لأن الاخير جاء مشوباً بعيب صحة التمثيل ويكرر الأمر مع ما عرف بقانون غازي كنعان في العام 2000.

وغدا الإستثناء ولمرة واحدة فقط قاعدة من ادبيات النظام السياسي اللبناني، وفاقم من تعقيدات هذا الواقع عدم وضوح رؤية المجتمعين في الطائف الى قانون الإنتخاب حيث جاء في النص: "تجرى....... بعد اعادة النظر في التقسيمات الإدارية".

لم تهتم اي من الحكومات المتعاقبة منذ العام 2000 بإعداد مشروع قانون لإعادة النظر في التقسيمات الإدارية، واقتصر الأمر على استحداث محافظتي بعلبك الهرمل وعكار، ليرتفع عدد المحافظات اللبنانية الى ثمان من دون ان يكون لهذا التقسيم الإداري الجديد اي مفاعيل انتخابية، بمعنى آخر ان قانون الإنتخاب الذي قسّم الدولة على أساس المحافظات لم يجعل لبنان ثماني دوائر انتخابية. في العام 1992 تم جمع محافظتي الجنوب والنبطية في دائرة انتخابية واحدة، في المقابل قسمت محافظة جبل لبنان الى اكثر من دائرة انتخابية ... الخ. هذه التقسيمات جاءت لتحافظ على الأحجام النيابية للزعامات الطائفية اللبنانية، مما شكل انتهاكاً صارخاً لروح اتفاق الطائف ودفع شريحة واسعة من اللبنانيين، وخصوصاً المسيحيين، الى مقاطعة الإنتخابات مما شكل انتقاصاً للتمثيل النيابي المسيحي، وبالتالي اظهرت هذه الإنتخابات ان هناك فريقاً غالباً على حساب فريق مغلوب.

ودلت التجارب العالمية على ان نظام المجلسين (احدهما مجلس الشيوخ) يشكّل في بلد متعدد الطائفة كلبنان توفيقاً بين مشكلة التمثيل النيابي الشعبي ومشكلة المشاركة الطائفية في القضايا المصيرية. كما ان اللامركزية الإدارية واللامركزية الإنمائية تشكلان في الدولة الحديثة قاعدة اساسية من قواعد الديموقراطية والمشاركة الشعبية في تسيير الأمور الحياتية وتسهيلها. اضافة الى ان الإنماء المتوازن هو احد اوجه العدالة الإجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الإجتماعية ، وأحد اوجه تطبيق حقوق الإنسان.

أستاذ القانون الاداري والدستوري في الجامعة اللبنانية الدكتور رئيف خوري يعتبر: "ان اتفاق الطائف شكل قفزة ايجابية نحو تعزيز النظام الديموقراطي، لكن لا يمكن اعتباره خاتمة مطاف الإصلاحات، لأن نظامنا الدستوري والسياسي في حاجة ماسة الى تطوير لكي نلج دولة الحقوق والقانون والمؤسسات والكرامة الإنسانية.

وعند كل ازمة تعصف بهذا الوطن الصغير المتعدد الطائفة تعلو الأصوات لإيجاد الحلول على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، باعتبار ان اي طائفة أو قوة لبنانية لا يجب ان تحقق "نصراً" على نظرائها في الوطن، مما عزز الشعور اللبناني ان اتفاق الطائف جاء على قاعدة لا غالب ولا مغلوب".

الأسعد: ثلاث إشكاليات

يعتبر المهندس رياض الأسعد ان الطائف يستند الى ثلاثة مرتكزات وهي:

1 - نقل البلاد الى السلم.

2 - بناء مؤسسات الدولة.

3 - تنظيم العلاقة مع سوريا.

يلاحظ ان الطائف اخفق في هذه المحاور الثلاثة، "صحيح اننا انتقلنا من حالة الحرب الى حالة اللاحرب، وتوقف القتال، لكن الحرب لا تزال قائمة ويظهر ذلك من خلال الخطاب السياسي ونوعية الطبقة السياسية غير القادرة على التوافق. وعندما يتم طرح حكومة وفاق وطني فللإتفاق على الخلاف وليس للإتفاق".

وعليه، يؤكد الأسعد ان "الطائف ولد ميتاً لأن الشريك المسيحي فيه تم ضربه من خلال عناصر الإقتتال الداخلي فيه (حرب الالغاء) والإعتكاف عن المشاركة في الإنتخاب 1992.

ومن خلال الإستمرار في عملية "الضرب"، عبر الإبعاد وسجن وتهميش القادة المسيحيين فيه إضافة الى ان عملية بناء الدولة كانت بين "السني المقاول" و"الشيعي المقاوم" وأضحت حكراً على توجهات سياسية تحت الوصاية، حيث تمت اضاعة الفرص الواحدة تلو الاخرى، ليظهر لاحقاً ان "الصفقة بين السنة والشيعة تحت الرعاية السورية لم تستطع بناء الدولة، وخصوصاً بعد التحرير في 25 ايار 2000. وتعقدت الامور في ايلول 2004 عشية التمديد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود، علماً انه كانت هناك فرصة ضائعة للبدء في عملية بناء الدولة".

انتخابات 1992

في العام 1992 جرت الانتخابات النيابية الاولى في ظل الطائف، ارتكزت على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، على ان يصار الى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، ثم انشاء مجلس الشيوخ وتمثيل الطوائف بنسب متساوية في هذا المجلس، دون طغيان طائفة على اخرى. لكن الامرين الاخيرين تعثرا رغم ان الطائف ادخل الإصلاحات لبناء الدولة.

المجلس سيد نفسه: لا يمكن حل مجلس النواب

يؤيد الأسعد اعطاء رئيس الجمهورية صلاحية حل البرلمان، وخصوصاً ان النظام البرلماني يرتكز على مسؤولية الحكومة امام البرلمان، في الوقت عينه تستطيع الاخيرة حل البرلمان، الا ان الطائف سحب هذه الصلاحية من رئيس الجمهورية ولم يمنحها للسلطة الاجرائية، رغم ان الدستور نصّ على صلاحية حل البرلمان الا ان الاجراءات اللازمة لحل مجلس النواب لا يمكن تطبيقها وبالتالي البرلمان هو الوحيد القادر على حل نفسه. وزاد في الامر تعقيداً ان الانتخابات النيابية جاءت مشوبة بعيب صحة التمثيل. ويعتبر الاسعد ان "الإنتخابات من 1992 – 2005 كرست حالة عدم التوازن بين الطوائف واختزال روحية الطائف عبر تركيبات "عجيبة" من الترويكا والدويكا وعنجر والرملة البيضاء، عدا عن صفقات الإنماء فوق الطاولة وتحتها.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم تجد القوى السياسية الأساسية في البلاد إلا التحالف الرباعي وبالتالي اعادة صوغ مشروع تهميش المسيحيين من خلال التحالف الرباعي.

التحالف الرباعي هو توافق سياسي على "سرقة" الكبار واختزال مؤسسات الدولة باعتباره "نصّ صراحة على ان لا تؤخذ قرارات اساسية في ما يخص مجلس الوزراء وخير دليل على ذلك ان 2900 قرار اتخذت بالإجماع ورفع الأيدي والإختلاف على قرارين ولدا "الهجرة الصغرى" و"الهجرة الكبرى" (اي الإعتكاف الصوري التمثيلي، والإعتكاف التلفزيوني...)".

اما عن المرحلة الراهنة فيعتبر الأسعد انه منذ العام 1992 وحتى اليوم لا نزال نعيش ازمة "الأخلاق والسياسة" وازمة الحكم التي اوصلتنا الى ازمة الكيان، نظراً الى حالة عدم التوافق المطلق، اي بالنصف ناقصاً واحداً.

ويصر على ان لبنان يمر اليوم في ازمة كيان رغم محاولات تغييرية عدة جرت في السابق، لكنها اقتصرت على تعديل "شكل الهيكل".

من هذه المحاولات ما شهده لبنان في عهد الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب. اما المحاولة الثانية كانت في العام 1975 "رغم انها وجدت جذورها في التحركات الشعبية التي رفعت المطالب الإجتماعية منذ مطلع السبعينات ولكنها ذابت في اتون حرب شعواء".

ويخلص الأسعد الى وصف العهد الشهابي بمحاولة التغيير من فوق، اما الحرب فكانت تجربة للتغيير بدءاً من الأسفل.

اما الطائف، فقدّم بدوره "قوننة للعلاقات الطائفية تحت غطاء دستوري، وجعل هذه العلاقات مرتبطة بشراكة غير قادرة على التطور، هي لا تزال خاضعة لمبدأ البيع والشراء".

ويضيف الأسعد: "هذا النمط من العلاقات أجهض الآمال الوطنية المبينة في صيغة الطائف وروحه".

ويطرح الأسعد اشكاليات يعتقد ان الطائف لم يعالجها مشيراً الى: "ان من يدعم هذا "الهيكل" (الكيان) الطبقة غير السياسية أي عامة الناس عبر اطرهم وتشكيلاتهم المختلفة، وفي حال قرر هؤلاء التخلي عن دعم "الهيكل" سوف يسقط على رؤوسهم، باعتبار ان الطبقة السياسية هي "لصوص" هذا الهيكل ويكونون قد غادروا الهيكل الى قطعانهم واقطاعهم وملاذهم".

يضيف: "الأنكى من ذلك ان الناس محكومة باعادة بناء الهيكل". علماً ان "الهيكل" فقد دوره، حيث تكرست معالمه للحفاظ على "لصوص الهيكل وكهنته" وبالتالي اصبح "الهيكل" يشكل يومياً حالة اغتيال لآمال الناس واحلامهم.

واخيراً لا عملية تغييرية او تطويرية قادرة على النجاح في المدى المنظور من دون العودة الى الأساس. ويظهر ذلك من خلال الأزمات الدورية التي تعصف بالوطن منذ 1951 حتى 2005 مروراً بـ 1975 و 1989 ... الخ". ويرى الأسعد ان البديل يكمن في عملية تغييرية يكون مدخلها القانون الإنتخابي الذي يعيد انتاج طبقة سياسية جديدة . ويخشى "أن نصل الى العام 2009 ونعود الى "مثلث الرحمات" اي قانون غازي كنعان الذي يسميه رئيس مجلس النواب نبيه بري افضل الممكن، علماً ان ثمة مشاريع عدة لقانون الإنتخاب ومن ضمنها ما يجعل من الأكثرية اقلية والأقلية اكثرية بتلاوين مختلفة. ونظراً لإستحالة قيام عملية اقصاء ذاتي من هذه الطبقة السياسية سوف نصل الى قانون انتخابي يعيد تكريس هذه الطبقة، لذلك فإن الرئيس العتيد التوافقي، ومهما كان حجم الإجماع الشعبي والتأييد العربي والدولي ومباركة البطريرك الماروني نصرالله صفير، لن يستطيع النهوض والوصول لأي قانون انتخابات الى بر الأمان من دون مشاركة الطبقة السياسية نفسها، لذلك البلد بحاجة الى بلاغ رقم واحد، واليوم هو زمن هذا البلاغ".

•• •

إذاً اتفاق الطائف الذي وضع حداً لحالة عدم الاستقرار في لبنان لم يحسم صراحة كل ابنائه نهائية هذا الكيان القائم على "اتحاد فيدراليات الطوائف المتنافسة". إضافة الى أن الممارسة اظهرت ان الطائف كرّس غالباً على حساب مغلوبين. المغلوب الأول: الأحزاب اليمينية اللبنانية التي "كافحت" للحفاظ على نظام سياسي يكرس امساكها بمفاصل الحياة السياسية. اما المغلوب الثاني فيتمثل في الأحزاب اليسارية والشخصيات الإسلامية "غير البورجوازية" التي غامرت من اجل تغيير ذلك النظام. وفي المحصلة انهزم كلا الطرفين امام انتصار الصيغة الطائفية التي عادت للتحكم بمفاصل الحياة السياسية.

عباس الصباغ

تعليقات: