مايا دياب تنقذ عراقة الوسط الثقافي

منذ أيام، تعلو ضجة إنتقادية، موضوعها، إحياء الفنانة مايا دياب لحفلة "غير شكل" على خشبة "مسرح المدينة" (15 أيار)، وذلك، "برفقة تخت شرقي وغناء"، بالإضافة إلى وصلة رقص يقدمها الفنان أليكسندر بوليكيفيتش. سبب هذه الضجة أمران: الأول، هو الإعتراض على استقبال "مسرح المدينة"، بوصفه "مكاناً عريقاً"، لنجمة شعبية، فهذا، وبحسب "الضاجّين"، بمثابة تشويه له، وطبعاً، لـ"تاريخه الثقافي".

الثاني، هو سعر البطاقة، التي على محبي مايا وأليكس أن يدفعوه، وهو مئتا دولار، لكي يتسنى لهم التفرج عليهما، بالتوازي مع متابعة "المفاجآت" التي وعدهم إعلان الحفلة بها، عدا عن تناول مأكولات "العشاء الخاص" الذي "يحضره طباخون ماهرون". وبحسب الضاجّين أيضاً، سعر البطاقة مرتفع مقارنةً بأسعار البطاقات التي اعتادوا شراءها عند مشاركتهم في النشاطات الثقافية البيروتية، لا سيما المسرحية، التي يقدمها "المدينة" أو غيره.

القليل من التوسع هنا مفيد. ثمة، وعلى أساس الضجة الإنتقادية، دخيلة على الوسط الثقافي، وهي الفنانة الاستعراضية والغنائية، مايا دياب، طلبت منها مديرة "مسرح المدينة"، نضال الأشقر، أن تحيي حفلة على خشبته تكون داعمة له، لكي يسدد ديونه السنوية ويحافظ على أسعار تذاكره المنخفضة. بالتالي، من الممكن القول أن تلك النجمة المدعوة إلى "المكان العريق" هي، فعلياً، منقذته، التي ستجذب إليه الساهرين من الطبقة الوسطى والعليا، فسيدفعون مئتي دولار من أجل بقائه، وفي المقابل، سيمارسون تسليات البصبصة والصدح والهز والتفاجؤ والأكل، أي يستهلكون متعاتهم.

لقد فتح "مسرح المدينة"، باعتباره إحدى القِبلات الثقافية، بابه للثقافة الشعبية، ممثلةً بالنجمة مايا دياب، وذلك، لكي تنقذه من ديونه وتضمن استمراريته. ولقارئ تصريحات الأشقر حول الحفلة اياها أن ينتبه إلى أنها، ولولا حاجتها إليها، لكانت وصفتها بـ"الهابطة"، ووضعتها في مواجهة ما سمته "الحفلات الجدية". ثم، وعند الوقوف على ردودها، تظهر نبرتها تبريرية وغاضبة على حد سواء، كما لو أنها، في ظنها، ارتكبت ما يشبه "الفعلة"، وكأنها ليست مقتنعة بها، لكنها، أقدمت عليها عنوةً: "حسناً، أتيت بمايا دياب لكي أنقذ مسرحي، فماذا أفعل أيها المنتقدون؟".

وهذا ما يتصل بملصق الحفلة. فالتحديق فيه، يفيد بكونه مصمماً على نحو نبرة الأشقر أيضاً، بحيث أن مؤلفه رمى إلى جذب الساهرين بالإنطلاق من وعدهم بإمتاعهم، لكنه، فعل ذلك بأسلوب غير مثير، كأنه يتأرجح بين إرادته و"ضميره الثقافي الجدّي". فمن ناحية، يريد أن يصمم ملصقاً جذاباً، ومن ناحية أخرى، "ضميره الثقافي" يأمره بألا يفعل ذلك، خصوصاً أنه اعتاد تصميم ملصقات العروض "الجدية"، وفي النتيجة، أخرج "بوستر" مباشراً، يبدأ بـ"سهرة غير شكل"، ثم يشرح محتوياتها المُتعَوية، أي الرقص والإندهاش والتخت والأكل ووجه مايا دياب، محيطاً إياها بإطارات مضاءة وملونة. لكنه، ولكي يخفف مما يجده "انحداراً" من "العراقة"، و"انحرافاً" عن "الجدية"، أضاف، وباللغة الأجنبية، Burlesque.

دائماً، وعندما ينفتح فن الوسط الثقافي، ولنسميه باقتضاب الفن الثقافي، ولأسباب متعلقة بضعف مقوماته، على الفن الرائج، يقدم على ذلك كأنه يُحسن إليه، ويتنازل له عن "مكان" بقربه. فالفن الثقافي، وكما يعتقد منتجوه، هو "جدي" و"رزين" و"مهموم"، في حين أن الفن السائد "هزلي" و"هابط" و"ركيك". وتالياً، لما ينفتح الأول على الثاني، يبدو أنه "ينزل" إليه، لكنه، وبالفعل نفسه، غالباً ما يحسب أنه يمده بمعنى آخر، يفقتر إليه: يرغب فيه، وفي الحين ذاته، يرفضه بسبب ضميره. أما مرد هذه الرغبة، فهو التوق إلى الرواج، إلى الشهرة، التي يمتلكها الفن الشعبي.

بغرور، ومكابرة، وإدعاء، يرغب الفن الثقافي في الذيوع الميديوي، الذي يتميز به الفن السائد، لكنه، ولكي ينفي هذه الرغبة، يسترها بخطابات وإجراءات متنوعة، من قبيل الإستحضار الروحي، كما في حفلات الإستعادات الغنائية لنجوم الطرب الشعبي، ومن قبيل العرض المفرغ منه، كما في حالة ذلك الفنان المعاصر، الذي، ذات مرة، استقدم السيارات التي يركنها سائقوها على الكورنيش البحري بعد أن يبثوا صوت الموسيقى الصادحة منها، استقدمها إلى أحد المراكز الفنية، وكان هذا هو "عمله الفني" طبعاً. يومها، اقترب منها المتفرجون، وهم، في غالبيتهم من الفنانين، كما لو أنهم يكتشفونها للمرة الأولى!

وربما، أقل تلك الخطابات والإجراءات نكراناً ومراوغةً، هي التي نمّت عنها تصريحات الأشقر، صاحبة حلم "الديفا"، التي قالت إنها أتت بمايا دياب لكي تحصل على أموال تسدد بها ديون مسرحها، وبعبارة أخرى: جاءت بها لأنها أكثر شهرة من باقي الفنانين الثقافيين، بحيث تستطيع أن تجذب الكثير من المتفرجين. فهي نجمة. أما هُم، فلا. كلام الأشقر دقيق، فالوسط الثقافي، وعلى الرغم من شدة رغبته في الرواج الميديوي، لم ينجح في إنتاج نجوم لهم شعبية تستقطب كمّاً من المتفرجين، الذين لم نعتَد رؤيتهم في المسارح والمعارض والمؤسسات الفنية. وفي الوقت نفسه، لا يبدل ذلك الوسط موضوع رغبته، بل يبقي نفسه عليها، ويحاول، بأساليب شتى، تحقيقها، إلا أنه غالباً ما ينتهي إلى نوع من الهذر الذي لا يحمد عليه.

إحدى التعليقات الإنتقادية على حفلة مايا دياب في "مسرح المدينة"، سجلتها ندى بو فرحات. اللافت فيه أن هذه الفنانة تصف نفسها، وبطريقة هزئية، بـ"النجمة ندى بو فرحات"، قبل أن تبدأ بالمقارنة بين أسعار بطاقات عروضها المنخفضة، وسعر بطاقة حفلة دياب المرتفع. على أن هزء بو فرحات، ومقابلتها بين "عرق الجبين" و"التخت الشرقي"، لا يبدد رغبتها في أن تكون "نجمة"، ولا يبدد، تحديداً، أنها تستعمل في عروضها المسرحية أدوات ميديوية، وتحت عناوين "تحرروية" لا تُغني ولا تسمن، لتحقيق رغبتها تلك، لا سيما مخاطبة النزوعات عبر الكلام البذيء والفرجة الخليعة وغيرهما، تماماً، كما تفعل أي وسيلة إعلامية تبغي رفع عدد متابعيها.

حين تقترح نضال الاشقر على مايا دياب ان تحيي حفلة لدعم "مكانها العريق" وانقاذه من ديونه، تشير بذلك الى ان وسطها الثقافي لا يمكنه ان يحقق ما تحققه تلك الفنانة، وتشير الى كونه لم ينتج نجومه، على الرغم من طموحه الظاهر باستمرار الى هذا. لكن، المهم ايضاً، انه في حال تخلّى عن هذا الطموح، عن انشداده الى الرواج الميديوي، قد يرتطم بفراغه، وبعجزه عن انتاج شيء بلا ان يكون استهلاكه المُتعَوي هو قوامه الاول والأخير، وبلا ان يقع في ما يسمى "نخبوية"، وهي، في حالتها المحلية، صيغة للعجز عن قول المفيد والضروري من خلال العمل الإبداعي.

ثم، لنتذكر ان انتقاد حفلة دياب بسبب سعر بطاقة حفلتها، يحصل في ظل مهرجان "بايبود"، حيث يصل سعر البطاقة الى مئة دولار، من دون أن يعترض عليها أحد، فضلاً عن عروض أخرى، المقارنة بين سعر بطاقتها ومضمونها يدفع المتفرج الى الاكتشاف بأنه تعرض لعملية نهب. فعلياً، على الوسط الثقافي ان يفتش عن مخرج له من عقدته الميديوية، من دون أن يستند الى الفن السائد، أو يتطفل عليه، وفي الوقت نفسه، يعتقد بأن "السائد" هو أقل شأناً وقيمة منه، وفي اثناء ذلك، عليه ان يشكر مايا دياب لأنها تُسعف عراقته.

* المصدر: المدن

تعليقات: