كذب المنجِّمون وصدق المبصِّرون

الوزير السابق المهندس الفضل شلق
الوزير السابق المهندس الفضل شلق


يزدهر سوق التبصير هذه الأيام. «سلعة» يستهلكها الجمهور وتنتجها وسائل الإعلام والإعلان أو ما يسمّى في عالم «الميديا» «Showbusiness». لا ندري إذا كانت السلعة تلبّي حاجة حقيقية أو وهمية. السوق تخلق الحاجة وتخلق وسائل تلبيتها. المشروبات الغازية (كوكا كولا مثلاً) لا تروي العطش أكثر من الماء، لكن الشركات التي تنتجها هي من أكبر الشركات العالمية.

ليست هذه الحاجة معرفيّة. لدى الانسان حاجة للمعرفة. لكننا نعيش زمناً أعلنت فيه الفلسفة أنها مجرّد تدريب ذهني. والأمر ليس جديداً، فقد قال الغزالي منذ ألف عام أن الدين والدنيا حالتان من حالات نفسك. والعلم أعلن أيضاً أن الكون أكثر تعقيدا بكثير من أن يستطيع احد حصر التعبير عنه في بضع قواعد كميّة رياضية أو كيفيّة. لا نستطيع توقّع، أو التنبؤ بحوادث المستقبل. أكثر من ذلك، يشكك العلم والفلسفة، في هذا القرن، بسبب قصور العقل البشري، وبسبب تعقيدات الوجود المادي والنفسي أيضا، بإمكانية المعرفة الموضوعيّة. لماذا إذن تزدهر صناعة معرفة المستقبل؟ ولماذا يزداد الإقبال على استهلاك سلعة التبصير؟

الأرجح أن هناك حاجة سياسية عند منتجي هذه السلعة. لديهم رسالة، أو رسائل سياسية يريدون إبلاغنا إياها بطريقة مستساغة. هم لا يتورّعون عن وضع تنبؤاتهم السياسية حول الأوضاع المحليّة والإقليمية والدوليّة في سلّة واحدة.

الأحداث التي يجري توقّعها هي في حقيقتها أحكام. الوقائع سياسية والأحكام سياسية يسرد أصحابها المستقبل كما يسرد المؤرخ الماضي والحاضر. ولا سرد للحاضر أو الماضي أو المستقبل دون حكم قيمة من نوع ما، دون وجهة نظر مسبقة تملي هذا الحكم بطريقة أو بأخرى.

تنتقى التعابير بعناية فائقة كي تكون على مستوى من العمومية بحيث أن كل توقع يمكن أن ينطبق على احتمالات عدة. في نهاية العام تعلن جردة الحساب للتوقعات. يجري إسقاط التوقعات على الأحداث في احتفالية مبهرة؛ وهذا أساسي في جميع أنواع الـshowbusiness. يتكرر الأمر عاماً بعد عام. يصير انتظار إعلان التوقعات لكلّ عام مقبل طقساً يمارسه الجمهور بشوق ولهفة. يجري نقاش التوقعات المعلنة للعام المقبل، يتمّ تداولها وكأنها قد حصلت فعلاً بعد أن كانت توقعات افتراضية أو حقائق افتراضية. يزول الافتراض وتبقى التوقعات وكأنها حقائق راهنة للمستقبل.

يُحرم المشاهدون من التساؤل حول كيفية توصّل المتنبئ إلى توقعاته، على اعتبار أنها رؤى وحسب. الرؤيا لا يُسأل عنها صاحبها، وهذا الأخير يضع نفسه فوق التساؤل. تجرّد الأحكام السياسية من القرائن، ومن إمكانية وضع البراهين والدلائل موضع البحث والتمحيص. تُجَرَّد السياسة من أهم أركانها، من الحوار المرتكز على البراهين والأدلة، تصير مجرّد أحكام لا أساس لها إلا ما يدور في رؤوس منتجي التوقعات. ديكتاتوريات دون جيوش. جيوشها استوديوهات الإعلام والإعلان والذين يموّلونها.

في العلاقة بين منتج التبصير والمشاهد، أو السامع، لا مجال للحوار، ناهيك بالتنظير. النظرية استقراء للحوادث، محاولة للربط فيما بينها، سعي لجعل بعضها أسباباً وبعضها الآخر نتائج، علّ الصورة للوضع المحلّي أو الإقليمي أو الدولي أن تتضّح. يجري تبادل الآراء، علَّ كلّ فريق يستطيع تعديل وجهة نظره نحو مستوى أكثر إحاطة. في التبصير تزول العلاقة بين منتج السلعة ومشاهدها. على الجمهور أن يسمع ويشاهد فحسب؛ هو مجرّد مستهلك لسلعة لا يعرف كونها تنفعه أو تضرّه. في آخر البرنامج، أو خلاله، عندما يمتدح المبصر أو مقدّم البرنامج هذا السياسي أو الأمير أو الحاكم أو الملك أو ذاك، يكون الجمهور قد هيّئ لتقبل المراد له أن يتشبّع به.

يقال أن في تلفزيون الواقع reality show يزول الفارق بين الواقع والتمثيل. في الحقيقة يصير التمثيل مكان الواقع. يصير كل شيء تمثيلاً، ويصبح المشهد واقعاً، والمسرح واقع الحياة. يصير كل شيء واقعاً افتراضياً بعدها لا لزوم لأن يسعى الجمهور نحو فهم واقعه ومعالجته والنقاش حوله وتبادل الرأي مع الآخرين لتكوين رأي عام يشكّل قاعدة الحياة السياسية. تصير الأوهام المزروعة في رؤوس المشاهدين هي الحقيقة. يبطل السعي للاجتهاد الفكري. يصير المشاهد مجرّد متلق للأفكار، مجرّد موضوع لها. يفقد ذاته.

التنجيم عادة قديمة. ادعى المنجّمون أنهم يدرسون حركة الأفلاك، ويستطيعون بالتالي تبيّن ما يحدث على الأرض. لجأ إليهم القادة والملوك في أيام الأزمات أو قبل اخذ القرارات الكبرى كشنّ الحرب، أو بناء مدينة، الخ... التبصير اليوم وسيلة إعلامية إعلانية تستخدم قبل الحدث لصنعه، وسيلة تهيّئ الرأي العام لتوقّع ما سيحدث. هي جزء من حملة عامة تهيّئ الرأي العام لما سيحدث، بالأحرى حملة لتعيد صنع الرأي العام. وقد رأينا جماعات طائفية ومذهبية يعاد صنعها في لبنان، يعاد إنتاجها وبرمجة أفكارها. لقد كذب المنجمون لكن المبصرين أفلحوا في الدور المرسوم لهم.

يحتاج الناس إلى المعرفة. الكون والمجتمع أشدّ تعقيداً مما يمكن حصره في نظرية أو فكرة تضمن لنا توقع أحداث المستقبل. لكن السعي من أجل ذلك أمر ضروري. السعي للمعرفة، للاجتهاد، أمر أساسي في حياة البشر. إمكانية الخطأ لا تقلّ عن إمكانية الصواب. لذلك فإن من اجتهد فأخطأ له أجر واحد ومن أصاب له أجران. كلّ ذلك لأن الإرادة البشرية، التي تقرر كلّ فعل، يجب أن تتأسس على المعرفة وأن تستنير بها كي لا تبقى قراراتها عشوائية. لا فائدة من رأي عام يسوده الجهل والجهالة. برامج التبصير تنزع من الإنسان إمكانية المعرفة، وبالتالي تلغي الإرادة، تُسطِّح الفكر والإرادة لدى الرأي العام. يصير الفعل كما هو مقرّر في الغرف السوداء، في مراكز البرمجة وإعادة البرمجة. هي ديكتاتورية من نوع آخر. لا حاجة فيها لوسائل القمع والضرب والسجن والعقوبة. تصير الديمقراطية مجرّد تعداد لأصوات الذين يستجيبون لدواعي البرمجة. الديكتاتوريات العسكرية تحتاج إلى سنوات طويلة من القمع والترهيب كي يصير المواطن مستجيباً، يعرف سلفاً ما هو مطلوب منه وما هو مرادٌ له. في زمن الميديا لا يحتاج الأمر إلى أكثر من برنامج تلفزيوني يكون النجم فيه مبصراً يقرّر المستقبل دون دراسة حركة المجتمع، هو بالأحرى يصادر حركة المجتمع.

يغار العلماء وأصحاب الفكر أنهم صرفوا كلّ الجهد والوقت من أجل المعرفة ومن أجل التعامل مع المستقبل بشكل معقول. لا يستطيعون اكتشاف ما يكتشفه المبصرون بلمح البصر، بمجرّد الرؤية. ويغار المحلّلون الاقتصاديون والماليّون وجميع العاملين في بورصات العالم لأنهم لا يمتلكون الرؤيا التي يستطيعون جني الثروات عن طريقها. والمبصرون أنفسهم ربما يغارون من أنفسهم لأنهم لو كانوا كما يدعون لاستطاعوا ولوج بورصات العالم وتحقيق ثروات تفوق بيل غايتس. يغار، أكثر من هؤلاء، الحكام ورؤساء الأجهزة الأمنية في الأنظمة الأمنية لأنهم ما استطاعوا أن يحققوا على مدى عقود السنين ما يحقّقه المبصِّرون بلمحة بصر.

مقالة كذب المنجمون ولو صدقوا للكاتب حسين عبدالله

.

تعليقات: