السترس يجعل لبنان بيئة حاضنة للعنف.. التغريبة السورية 2


تّفق الجميع على تدهور نوعيّة الحياة في لبنان وانحطاط الخطاب التحريضي، المذهبي والطائفي، بحيث بلغ مستويات أدنى وأخطر مما عرفتها سنوات الحرب الأهلية. لكن المشكلة الأخطر تكمن في تدهور الأمن الاجتماعي وازدياد نسبة الحوادث والجرائم والجنح على أنواعها، بشكل غير مسبوق.

لا شكّ بأنّ للأوضاع المتفجّرة المحيطة بنا وانعكاساتها على الداخل اللبناني دوراً كبيراً في ذلك؛ لكنه لا يعني إغفال تقصير الدولة في القيام بالتدابير التي تساعد على الحدّ من هذا التدهور. فدولة لا تسيطر على حدودها ولا على سياساتها، تكون من دون سيادة ولا تطبّق فيها القوانين، وبدهي أن تخضع لقانون الغاب، خصوصاً أن الأحداث تبرهن يومياً أنّ اللجوء والهجرات السكانية الكثيفة تهدد أمن المجتمعات.

ومن المتوقّع أن تقصّر في مواجهة النزوح السوري وفي التعامل معه.

نعم، شكّل النزوح الكثيف بنسب غير مسبوقة مقارنة بعدد السكان ثقلاً كبيراً على لبنان حيث لم تواجه أي دولة وطنية في العالم الحديث مثله. لقد استقبل لبنان ما يقارب 40% من سكانه من السوريين؛ بينما أغاثت أوروبا بقضّها وقضيضها ما يقارب 1% أو 2% من سكانها. الوضع في لبنان استثنائي ونتائجه ستكون كذلك.

ولفهم معنى ونتائج هذه المسألة لا بدّ من العودة إلى بعض القوانين السوسيو - سيكولوجية التي تحكم سلوك الكائنات الحيّة، بمن فيهم البشر.

في ضوء الأبحاث الإيتولوجية[1] عُدّ الإنسان كائناً اخترع امتداداته وأوصلها إلى مستوى من التخصّص بحيث سرعان ما ورثت، هذه الأخيرة، الطبيعة وحلّت مكانها. فالإنسان بحسب إ. هال، مخترع بعد جديد هو البعد الثقافي. وتتميز العلاقة التي تربط الإنسان به بإعادة التشكيل المتبادل، فبإمكان الإنسان الآن أن يبني مجمل العالم الذي يعيش فيه وهو ما يطلق عليه البيولوجيون البيوتوب[2] الخاصّ به. وعند قيامه بهذا البناء فهو يحدد في الوقت نفسه "الكائن" الذي سوف يكونه أو يصبحه. مع الإشارة إلى أنّ البعد الثقافي يختلف من مجتمع ومن حضارة إلى أخرى. يسهم ذلك في ولادة أفراد مختلفين بعمق.

ويصبح السؤال الإشكالي الآخر المرتبط هو ما الذي يحصل عندما يلتقي أفراد ينتمون إلى ثقافات وبيئات مختلفة ويدخلون في علاقة؟ وسنعالجه لاحقاً.

تثير الأوضاع في المدن الحديثة القلق لدى العلماء بسبب أحزمة البؤس التي تزنّرها والسجون والمستشفيات العقلية ومخيّمات الفقر. والازدحام الذي تعانيه، ليس سوى أحد العناصر المقلقة فقط.

هنا تبرز أهمية مفهوم الحيّز الحيوي[3] والإقليمي territoriality الموجود عند الإنسان، الذي طوّره مع بروز الدولة الوطنية فاخترع العديد من الطرق للدفاع عنه وأطلق عليه: "أرضه وترابه ومساحته"، بحيث صار نزع الحواجز ودخول ملكية الآخرين يسببان العقاب في كامل أنحاء العالم، وخصوصاً الغربي. يستنتج هال، أنّ فحص مفهوم الحيّز الإقليمي يكفي للبرهان على أنّ الأمر متعلّق بمنظومة سلوك أساسية أو جوهرية، تخصّ جميع الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان.

ويبدو أنّ الازدحام أو الكثافة السكّانية هو إحدى أهمّ المشاكل التي نواجهها حالياً، فقد برهن عالم الإيتولوجيا جون كريستيان تأثير ظاهرة الازدحام عندما بيّن أنّ عدد الحيوانات الفائض في مساحة معيّنة يسبب القلق الذي ينتهي بإطلاق سلسلة من الإفرازات الصمّاء المهلكة أو المميتة كردّة فعل على الكثافة. وفرضيته تقول إنّ ما ينظم التموّجات السكّانية عند الثدييات هو هذه الآليات الفيزيولوجية.

ونفسّر ذلك عبر ما عُرف بأزمة الوفيات في جزيرة جايمس:

على مبعدة كيلومترات عدّة من مدينة كامبردج (في الميريلاند) وعلى بعد كيلومترين من الشاطئ توجد جزيرة جايمس ومساحتها 70 هكتاراً غير مسكونة. أطلق فيها عام 1916 نحو 4 أو 5 أيائل حيث تكاثرت بحرّية نظراً لمواءمة البيئة، إلى أن كوّنت قطيعاً من 280 إلى 300 رأساً عام 1955، أي أيّلاً واحداً لما يقل عن نصف هكتار لكل واحد، حيث صار من الواضح وجود ازدحام يجب ألّا يستمرّ.

بدأ كريستيان أبحاثه. لم يحصل أيّ تغير حتى عام 1958 حيث توفي في بداية العام أكثر من نصف القطيع، ووجدت 161 جيفة. كذلك ازداد عدد الوفيات في العام الذي تلى ذلك، إلى أن ثبت العدد على 80 رأساً. تم استبعاد النقص الغذائي كمسبب للوفاة لأنّ التغذية كانت وافرة؛ أثبتت الفحوص الدقيقة لجيفة 12 أيّلاً منها حصول تغيرات هامّة على مستوى الغدد (خاصة الغدة الكظرية) تترجم حالة من القلق، ولوحظ الأمر نفسه على الناجي من الحيوانات أيضاً[4]. وجد عامل إضافي زاد من نسبة القلق هو حصول الجليد في شباط من عام 1958 ما منع الأيائل من السباحة حتى الشاطئ، وهي عادة ليلية كانت تخفف من شدّة الازدحام.

لخّص كريستيان ملاحظاته في أحد المؤتمرات حول العلاقة بين الازدحام والقلق بالتالي: "من المؤكد أنّ الوفيات نتجت من الصدمة التي تبعت الفوضى الأيضية التي يمكن إرجاع سببها إلى النشاط الغددي الزائد والممتد. ولا يمكن تفسير هذه الوفيات الكثيفة بالوباء أو بالمجاعة أو بأيّ ظاهرة مماثلة.

وهذا ما يعرف بأزمة مواصلة العيش، أنّ مجتمعات الحيوانات تنمو حتى اللحظة التي تبلغ فيها كثافة حدّية (نقدية critique) معيّنة، فتنشأ عنها حالة أزمة يكون حلّها شرط حياتهم نفسه. ذلك أنّ جميع الكائنات بحاجة إلى حدّ أدنى من المساحة، أو الحيّز الحيوي، يكون بقاؤهم من دونها مستحيلاً.

لا يمكن الإطالة في مقال، لكن تأكّد علمياً ظهور مجموعة من الانحرافات السلوكية المرضية عند الكائنات (حيوان أو إنسان) جرّاء الازدحام الشديد، تتعلق بالحضانة وسلوك النشاط الجنسي والتكاثر والتنظيم الاجتماعي. والأخطر سلوكات جديدة مهدّدة وغير متكيّفة وعنفية، كالقتل والاغتصاب والعنف بأقصى درجاته.

إنه نوع من التأقلم مع الوضع غير الطبيعي، وسبق أن تم الاعتراف بقاعدة في علم النفس، أنّ المثيرات غير السويّة تثير سلوكاً يتلاءم معها، أي سلوكاً غير سويّ (وتعدّ هذه استجابة سويّة).

إذا ربطنا هذه المعلومات بما صار معروفاً عن ظاهرة العنف: من أنّ الجرائم تزداد بازدياد عدد السكّان حتى نسبة معيّنة، وأنّ المناطق التي تعرف جريمة أكبر هي التي تحيط بقلب المراكز التجارية والإدارية للمدن المكتظّة. كذلك ترتبط الجريمة بوجود تمركز للمساكن الفقيرة أو ما تعرف بأحزمة الفقر.

لكنّ الأمر لا يتوقف هنا، فيسجل أيضاً ارتفاع الجريمة غير القصديّة والمرتبطة بالحوادث وبازدياد حركة السيّارات وازدياد المواقف. كما أنّ انتقال الأفراد، أو تغيير مكان سكنهم الأصلي، حيث تجعلهم الرقابة الاجتماعية أكثر قدرة على مقاومة ارتكاب الجنح والحفاظ على القيم، يجعلهم أكثر هشاشة وعرضة لارتكاب المخالفات والجنح، دون أن ننسى تأثير المخدّرات والكحول.

أيضاً يساعد اتساع أوقات الفراغ وزيادة الأوقات غير المنتجة على الجريمة، خاصّة عند المراهقين الذين يمضون الكثير من أوقات الفراغ في زوايا الشوارع والأزقّة. كذلك يسهم هذا في نشوء العصابات المساعدة بدورها على الجريمة. ناهيك عن البطالة وغياب الأفق، وهذه جميعها من الآثار الجانبية للتهجير.

باختصار العنف أكثر انتشاراً في البيئات المسبّبة للقلق.

ولبنان تحوّل، موضوعياً وعملياً، إلى أكثر بلد يعاني هذه الظاهرة، الأمر الذي يسبب وسيسبب المزيد من ارتفاع العنف والسلوكات غير السويّة ومنها طرق التعامل المشكوّ منها على جميع الصعد؛ سواء تجاه المهجّرين السوريين أو بين اللبنانيين أنفسهم؛ في ظل السياسات القائمة.

[1] علم سلوك الكائن الحيّ في بيئته الطبيعية.

[2] Biotope مدى جغرافي، مساحة من الأرض موافقة لجماعات من الكائنات الحيّة الخاضعة لشروط أساسية متناسبة.

[3].Espace vital

[4] وتؤدي هذه الغدّة دوراً هامّاً في تنظيم النموّ والتناسل وفي أنظمة الجسم الدفاعيّة. وحجم الغدد الكظرية ووزنها ليسا ثابتين بل يتغيران بحسب القلق. وفي حالة القلق المتواتر بكثرة، تخضع الكظرية بالضرورة لنشاط زائد ما يسبب ضمورها الشديد كنتيجة لما يحصل.

* منى فياض- أستاذة جامعية

تعليقات: