طريق المطار من ألفها إلى يائها

طريق المطار تستقبل kfc
طريق المطار تستقبل kfc


9 كيلومترات معبّدة بالأحداث الساخنة والتناقضات اللبنانية

على بعد 9 كلم من الضاحية الجنوبية لبيروت يقع مطار رفيق الحريري الدولي، كما أعيدت تسميته في 22 تموز 2005. على امتداد هذه الكيلومترات، تشكلت الطريق المؤدية إليه، ورغم استحداث الأوتوستراد الجديد بقي القديم عالقاً في ذاكرة الكثيرين مَكوّناً وحدهُ ما يسمى «طريق المطار»

تشير اللافتة الزرقاء المعلّقة فوق بوابة المطار الرئيسية إلى احتمالين منطقيين: المغادرة والوصول. المغادرون هم على الأغلب شباب لبنانيون، يرون أن الطريق إلى المطار قبلة لهم، بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية في لبنان. أما الواصلون وكأيّ مدينة جديدة يزورونها، فلا بد أن تجيب هذه الطريق عن معظم الأسئلة الانطباعية التي رسموها في مخّيلاتهم عن بيروت وهويّتها الثقافية.

في عيون القادمين

الطريق ليست طويلة، لكن مرور الوقت عبّدها بالأحداث والمشاهد غير المألوفة بالنسبة إليها لكونها طريقاً مؤدية إلى المطار ومخرجاً منه.

بعد الأمن العام وغرف المطار، يمثّل حاجز الجيش اللبناني المحطة الأولى. هاشم الطالب اللبناني المقيم في بلجيكا، يسأل مستغرباً: «لماذا الجيش هنا في كل مكان؟ لا عسكر في مطار بروكسل!». ينظر ناحية الجيش، ويشير إلى أن عتاد عناصره حربيّ بالكامل، رافعاً يديه في الهواء ليشرح أنه مثل بقية القادمين: مدنيّ وأعزل!

الجنود مدجّجون فعلاً بالسلاح الحربي، لكنهم يتعاملون مع الناس باحترام شديد. ملاحظة لا يمكنها أن تلغي سابقتها، فزوّار المطارات لم يعتادوا الوجود العسكري الظاهر بهذا الشكل.

الجيش اللبناني ليس سيئاً، على العكس تماماً، إنه يكافح للحفاظ على الأمن بسبب التقصير الفاضح في أجهزة الدولة الأمنية الأخرى المولجة بهذه المهمات، لكن هذا ما لن يستطيع الآتون إلى لبنان استيعابه بسهولة. صحيح أن البلاد تعيش حالة طوارئ قصوى، لكن يبقى أمن المطار مسؤولية لا تخصّ الجيش على الإطلاق.

كاتيا الأميركية من أصل لبناني التي تزور لبنان سخرت من صور الساسة اللبنانين المعّلقةً على العواميد والجدران. «أشعر بأنني في العراق قبل احتلاله، أو في كوريا الشمالية»، مشيرة إلى أن «تشويه المنظر العام بهذه الصور ليس ضرورياً... كائناً من كان أصحاب هذه الصور». «فليصنعوا هذه الفوضى في منازلهم» تقول كاتيا بسخط، على مقربة من التحويلة المؤدية إلى صيدا والساحل الجنوبي.

في منتصف الطريق، صروح عدة، أغلبها ليس ذا أهمية بالنسبة إلى سائح يبحث عن مقصد، كما يؤكد حسين القادم من فرنسا الذي يسأل «مصرف واحد فقط على الطريق؟». يرى حسين أن المشهد اللافت بالنسبة إلى أي زائر أجنبي هو مفترقات الطرق المؤدية إلى حارة حريك والمربع الأمني التابع لـ «حزب الله»، لأن «المربع صار معلماً يفوق كل المعالم أهميةً بعد الاعتداء الإسرائيلي. أول ما يشد الانتباه في الطريق الأولى إلى بيروت حركة السير الفوضوية بسبب حجم الدمار الإسرائيلي الهائل الذي حلّ بالأحياء الداخلية للضاحية».

وبمعزل عن الانتماء السياسي المطابق أو غير المطابق لرؤية الآتين، فإن التكهن بالأفكار التي ستتبادر إلى أذهانهم سهل جداً عند رؤية «فوضى الصور والسير» تجتاح الجدران. المشكلة الرئيسية أن الصور الأولى تسيطر على حيّز كبير من الاهتمام، حتى لو جاءت صور أخرى لتمحو اللون الأسود، فإنه يبقى ويشغل المساحة الأكبر من الذاكرة.

طريق المطار مقطوعة!

الحديث عن ذاكرة المطار يأخذ اللبنانييّن إلى الثامن والعشرين من كانون الأول 1968، عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية المطار ودمّرت ثلاث عشرة طائرة مدنية ردّاً على عملية خطف قامت بها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في أثينا. دفع اللبنانيون مجدداً ثمن العدوانية الإسرائيلية في تموز 2006، عندما قام سلاح الجو الإسرائيلي بضرب الطريق المؤدية إلى المطار ومدارجه المدنية.

لم تغب الأحداث السياسية الداخلية عن طريق المطار، بل تحوّلت إلى حبل غسيل تتبادل فوقه الأطراف المتنازعة وحلَها السياسي المستمر، مسببةً نمواً في حجم الفوضى وتفشّي المشاكل. الناس لا يستطيعون ترك منازلهم، والتعويضات التي عرضت في السابق غير كافية على الإطلاق كما يؤكد ربيع، أحد أبناء المنطقة. بعد أحداث الرمل العالي في 6 تشرين الأول 2006، استشهد طفلان من سكان المنطقة بطلقات نارية من رجال قوى الأمن الداخلي عند محاولة الدرك إيقاف مخالفات متعلقة ببناء وحدات سكنية غير مرّخصة. أدى الأمر إلى أزمة جديدة واتخاذ الجريمة طابعاً مناطقياً وطائفياً لا يُحتمل.

«غاب رجال الأمن عن طريق المطار وأتوا ليقتلوا طفلين»، يقول أحد الشبّان الغاضبين. كثرت الأحاديث والتحليلات المبرمجة بالأسلوب الطائفي نفسه الذي ينسحب على كل الاضطرابات في لبنان. أدى الأمر إلى تفاقم أزمة الوجود الأمني اللبناني الرسمي على الطريق. قوى الأمن الداخلي تحاول العودة بحياءٍ إلى المنطقة الآن. الحضور رمزي جداً في طريق أساسية كهذه، عنصران على الأكثر، يعجزان عن تخفيف الاختناق الذي تسبّبه الزحمة!

ساءت الأمور وصار المتظاهرون يستغلون قرب سكنهم من طريق المطار لشلّ الحركة. بين الحين والآخر، لا بد من اندلاع عاصفة سياسية ما تؤدّي إلى التجمهر بأعداد كبيرة، تكون نتيجته غالباً إحراق الإطارات في منتصف الطريق وإقفالها نهائياً، ريثما تنتهي هذه المهزلة العفوية.

مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيّين يقبع بدوره بمحاذاة طريق المطار، وقد شهد توتراً أمنياً في الآونة الأخيرة، استدعى نقل عدد كبير من ملّالات الجيش اللبناني إلى مداخل المخّيم وعزله عن الطريق بشكلِ قاطع وحاسم في فترات التوتر المتلاحقة.

جسور المشاة... أو الإعلانات

تقوم الجهات المسؤولة بمحاولات حثيثة لإصلاح الأمور، لكنها لا تزال غير مجدية. فور انتهاء عدوان تموز، قدمت الجمهورية الإيرانية مشروعاً ضخماً قضى بإنشاء جسور للمشاة، كمساعدة «إلى الشعب اللبناني المقاوم»، علّها تخفّف من وطأة الموت الذي لحق بالكثيرين من عابري ضفتي الطريق. مثّل الحدث إنجازاً للبلدية، فهو من شأنهِ تسهيل العبور والحفاظ على سلامة المواطنين. لم تغيّر الجسور شيئاً. بقيت خالية من زوارها في أغلب الأحيان، وبقي المنظر القديم رائجاً، مواطنون، مع أطفالهم أحياناً، يمرون من تحت الجسر ويبتسمون عند النجاح في الوصول إلى الجهة المقابلة.

الجسور لم تذهب سدىً، واستُخدمت لغايات أخرى. فقد احتلتها الإعلانات وهي، على الأرجح، تدرّ ربحاً كبيراً لأهمية الموقع. ليس من ضوابط جدية لتنظيم حركة مرور الآليات، وبالتالي، لن يكون هناك أي تنظيم لحركة مرور المشاة. الضابطة الحقيقية الوحيدة هناك تكمن في تنظيم الإعلانات فوق الجسور. نوعية الإعلانات المسموح بها تخضع للاعتبارات الاجتماعية والسياسية ذاتها التي تخضع لها المناطق القريبة. أحد الجسور يحمل علماً إيرانياً ضخماً: «يخيل أنك داخل إلى طهران لا إلى بيروت» يقول جورج القادم من دبي حديثاً.

التغيّر الجذري الوحيد الذي طرأ على طريق المطار هو اختفاء الجسر الضخم بعد إصابته بصاروخ إسرائيلي «قاتل». كان الجسر عاملاً فعّالاً في تخفيف حدة الازدحام، لكن بعد إزالته يعيش المكان فوضى عارمة سبّبها غياب الجسر نفسه، وأضافت الحفريات الجارية تحضيراً لإنشاء نفق، مأزقاً آخر. وفيما «يؤمن» معظم العابرين بأن هذه الحفريات ستستمر طويلاً كالعادة، يؤكد رئيس بلدية الغبيري محمد الخنسا أن «مجلس الإنماء والإعمار وعد بإنهاء الأعمال في نهاية كانون الثاني المقبل، لكن اكتشاف بعض الآثار أثناء عمليات الحفر أخّر إنجاز النفق. الناس يتذمرون ويصرخون: أصلحوا طريق المطار، لكنهم لا يلبثون أن يستكينوا، ويأخذون أماكنهم في الزحمة».

بعد عناء طويل واستماع إلى كمية كافية من الشتائم بحق القادة السياسين مجتمعين، يبدأ سائقو سيارات الأجرة العمومية لعبة التكّهن. إعادة بناء الجسر فرضية ضعيفة، لكنها ممكنة. ربما سيصار إلى تحويل المكان إلى مستديرة على شاكلة الطيونة. الأغلب يرّجح فرضية النفق مكان جسر المطار الذي كان يصل المدينة بتشعباتها وضواحيها. وحده سائقٌ طاعنُ في السن يبتسم بهدوء ويجيب إجابةً واضحة. لقد وقع الجسر على رؤوسنا، ودخلنا في النفق المظلم!

الـ KFC على أبواب الضاحية

بالتزامن مع عيد الفطر المنصرم، افتتح المطعم الأميركي الشهير KFC فرعاً جديداً له في لبنان عند طريق المطار، وتحديداً عند مدخل حارة حريك أي في منطقة معروفة بصبغتها المعادية لأميركا... وشركاتها؟ يمكن الافتراض أن نعم، لأن المطعم كان موجوداً في الضاحية قبل سنوات قليلة (معوّض) وأغلق أبوابه بالتزامن مع حملة المقاطعة الواسعة للشركات الأميركية الداعمة لإسرائيل التي بدأت في لبنان مع بدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

خلال هذا الوقت، كانت الضاحية تشهد افتتاح مطاعم دجاج تحمل أسماء مشابهة للـkfc، ورفع المطعم دعاوى قضائية عديدة على تلك المطاعم التي حاولت تقليده وانتحال اسمه وشكله، لكنها فشلت جميعاً في إقفالها بل نجحت في إحداث تغيير بسيط على لافتاتها.

لكن لا شيء يعوّض عن «الأصل» وها هو المطعم يفتح في الضاحية مجدداً. لا شيء يدلّ على أن هذ المطعم يخسر. بل إن الحركة الكثيفة التي يشهدها عند مدخل بيروت، تعطي انطباعاً بأن لبنان بلد صديق للولايات المتحدة، على حد قول الممثل الأميركي الشهير آل باشينو في فيلمه «الاستقطاب»، حيث يؤكد الأخير أن «البلد الذي فيه ماكدونالد ومطاعم أميركية لا يمكن أن يكون عدواً لأميركا».

ربما لم يكن لبنان في ذهن آل باتشينو آنذاك، وتحديداً بيروت والطريق إلى مطارها بالتحديد. فهنا، مدّت الولايات المتحدة إسرائيل بالصواريخ وكان القصف والتدمير. الـKFC والازدهار التجاري الذي يعيشه مؤشر طبيعي على انفتاح اللبنانيّبن وحبهم للحياة، لكنه لا يعني أبداً أن لبنان بات اليوم صديقاً للولايات المتحدة الأميركية.

حين تكون للطرقات حكاياته
حين تكون للطرقات حكاياته


تعليقات: