راشيا الوادي حارسة التراث: لا تزوروني كل سنة مرة!


ترفض راشيا الوادي حصر إرثها ومواردها بقلعة الاستقلال التي تفرض قاعدة «زوروني كل سنة مرة»، في إطار الاحتفالات بالمناسبة في 22 تشرين الثاني. البلدية الحالية مع الجمعيات البيئية والثقافية، تجهد للترويج لنشاط متكامل طوال عام لا يؤثر فيه سوى طقس الشتاء القاسي في سفح حرمون. تملك راشيا الوادي موارد عدة تجعلها موقعاً سياحياً دائماً.

إلى قلعة الاستقلال، هناك السياحة البيئية والدينية التي تعتمد على أنشطة التسلّق والسير في الطبيعة باتجاه جبل حرمون، ولا سيما في عيد تجلي السيد المسيح في 6 آب. علماً بأن راشيا جزء من درب الجبل اللبناني وتضم بيت ضيافة. أما السوق التراثي المشيد في زمن الانتداب الفرنسي، فله مخطط خاص لاستفادة البشر من الحجر، ويضمّ محترفات صناعة حلي الفضة والمدافئ (الصوبيات) ومحال بيع المنتجات الغذائية الشهيرة، كألبان وأجبان الماعز التي ترعى من جبل الشيخ، والعسل الذي ينتجه النحل الذي يتغذى على شوك الجبل ودبس العنب ومنتجات القمح. «نريد أن نعيد راشيا إلى الخريطة السياحية بقوة»، يقول رئيس البلدية بسام دلال لـ«الأخبار». يجري العمل على إنشاء متحف شمع داخل القلعة يروي حكاية القلعة منذ عهد الصليبيين إلى استقلال 1943، مروراً بثورة 1925 ضد الفرنسيين. في السوق، يشجع أصحاب المحال على إعادة افتتاح محالهم المقفلة بسبب قلة الحركة وتحويلها إلى مقاهٍ ومطاعم أو نقاط لبيع المنتجات الحرفية والغذائية. نزار مهنا، رئيس جمعية «راشيا أند بيوند»، لفت إلى تخصيص يوم في تشرين الأول من كل عام كيوم لدبس العنب. هذا العام يقام في 8 تشرين الأول المقبل.

لدى راشيا الوادي الكثير، لكن ما الذي ينقص؟ «الطقس القاسي شتاءً، وبُعد المسافة عن بيروت، يؤثران في جذب الزوار»، يقول دلال. لكن التحدي الإضافي فرضته الأزمة السورية التي أثرت في الحركة الاقتصادية والسياحة البيئية والدينية، حيث منع الرواد من الوصول إلى جبل الشيخ منذ بدء الأحداث. في ظل تلك العوامل، يتكيّف السكان مع انعدام التوازن في التنمية الريفية. «معظم المقيمين يضطرون إلى العمل في وظيفتين على الأقل لتدبر المعيشة» يقول مهنا. من هنا، ينقسم النشاط الاقتصادي بحسب الطقس: الشتاء لصناعة الصوبيات، والصحو للعسل والدبس والسياحة البيئية.

«الصوبيات»: هنا ينحت «شيوخ التدفئة» تحفهم

تصوير علي حشيشو

من زقاق متفرّع من السوق القديم في راشيا الوادي، يتصاعد «صراخ» لوح الحديد كلما هوت فوقه مطرقة «الشيخ يوسف». «يتلوّى» اللوح فوق السندان، تقلّبه يدا الشيخ النحيلتان، ولكن القادرتان على تطويعه.

الشيخ يوسف القضماني، ذو الجسد النحيل، صنّع آلاف الصوبيات على مدى خمسة وأربعين عاماً. ورث المهنة عن والده سليمان، «شيخ التدفئة» في سفح جبل حرمون. يقول: «عملاً بأن الحاجة أم الاختراع، ابتكر والدي موقدة النار الحديدية بدلاً من موقدة طين الصلصال المكشوفة التي كانت تُشيّد في زاوية غرفة الجلوس والنوم ويشعل فيها الحطب للتدفئة».

عام 1937، صنع الشيخ سليمان أول صوبيا من ألواح الحديد التي تتحمّل درجات حرارة مرتفعة. جعلها على شكل الموقدة الطينية وتملأ بالحطب في وسطها. على نحو تدريجي، صارت الموقدة مغلقة واتخذت الشكل التقليدي للصوبيا التي تتوسط الغرفة وترتبط بقسطل يسحب دخان الحطب المشتعل الى الخارج عبر فتحة في السطح. عمله اليدوي كان شاقاً. في غياب الآلات والكهرباء، «كان يضطر إلى التثقيب بالسنبك (مخرز سميك وقصير يدق عليه بالمطرقة لثقب الحديد) والبرد بمبرد». تسلّم الشيخ يوسف (71 عاماً) الراية من والده وسيسلّمها لنجله الذي يساعده في الورشة.

راشيا الوادي أول مصدّر للصوبيا الى بقية المناطق اللبنانية. إلى القضماني، اشتهرت ورش عدة بصناعة الصوبيات، وبعضها تحوّل إلى مصانع. ما يميّز صوبيا راشيا، بحسب الشيخ يوسف، «التفاصيل الجمالية وجودة الصناعة. كل صوبيا أشبه بلوحة فنية أرسمها».

في صالة العرض المجاورة لورشة التصنيع، يستعرض تصاميم عدة، بينها مدافئ (شيمينيه) على الطراز الغربي. فقدت الصوبيا العادات الاجتماعية المرتبطة بها كالتفاف أفراد العائلة حولها في سهرات الشتاء. ولم تعد مرتبطة بالتدفئة فحسب بعدما أفقدتها الوسائل الحديثة تميّزها. على نحو تدريجي، تحولت إلى مجرد قطعة فنية وجزء من ديكورات المنازل. حتى من لا يزالون يستخدمونها في القرى النائية والباردة، أدخلوا عليها «تطويرات» عدة. لم يعد الحطب الوسيلة الوحيدة لتشغيلها، بعدما باتت تعمل على المازوت والغاز والكهرباء.

محترفات الفضة: ليس كل ما يلمع ذهباً

تصوير علي حشيشو

غطّى عصام المقت جدران محله الصغير بلوحات رسّام سوري نزح من حلب واضطر إلى بيع فنه بسعر زهيد. لا شعورياً، تضامن صانع الحليّ من الفضة مع زميله الحلبي «لأن مصيرنا يكاد يكون متشابهاً بسبب التحديات الاقتصادية والأمنية».

عند مدخل سوق راشيا الأثري، في محترف المقت للصناعة التحويلية للفضة، حركة البيع خفيفة جداً. الواجهة مزدحمة بتصاميم مختلفة للأساور والعقود والخواتم والأقراط والخلاخل والسُّبحات. في إحدى زوايا المحل، يحوّل المقت أسلاك الفضة إلى قطع فنية. الحرفي الخمسيني امتهن هذه الحرفة من سن العشرين. في البداية، كان يصنّع قطعاً بأربعة أشكال، قبل أن يطوّر تقنياته وأساليبه ويبتكر «موديلات» خاصة به. تُذوّب ألواح الفضة الخام (تعرف بالروباس) في الفرن المصنوع من الطين (يعرف بالبودقة). من القوالب (تعرف بالريزك)، تخرج على شكل أصابع بطول 40 سنتيمتراً وبسماكة نصف سنتيمتر، وتوضع في آلة خاصة لتخرج منها أسلاكاً رفيعة، تُلَفّ فوق لوحة من الصخر، قبل أن «تُطبّق» وفق التصاميم المطلوبة. عدّة بسيطة لشغل دقيق: «بنسات» صغيرة مبرومة وملاقط وبودرة بيضاء تستخدم في التلحيم. بعدها، تُنشّف القطعة بالأسيد وتنظّف بالمياه الحلوة ثم بنشارة الخشب لإزالة الشوائب.

الفضة المشغولة هنا عيارها 925 أو 100 في المئة، بحسب المقت الذي التقط أسرار الحرفة من أربعة محترفات كانت منتشرة في السوق التراثي. أصحابها ماتوا من دون أن يتابع المسيرة أولادهم أو أقرباؤهم. تدريجاً، اقتصر هذا القطاع في راشيا الوادي، أخيراً، على محترفين اثنين: محترف آل اللحام، ومحترف المقت الذي نقل أسرار المهنة الى زوجته وابنته. انحسرت الفضة بعدما كانت هذه المنطقة سوقاً رئيسياً لتصدير الحليّ المصنوعة منه إلى الدول المجاورة. والد المقت كان يبيع الحليّ الفضية في سوريا وفلسطين وشرق الأردن. أبرز الزبائن كانوا أمراء آل الأطرش في جبل العرب الذين كانوا يهدون نساءهم حليّ الفضة ويزينون خيولهم بها. لمعت الفضة في راشيا الوادي نحو عام 1850 على يد عيسى الراسي الذي تعلم الصنعة على حرفيين أتراك. ذاع صيت الراسي، وبعده عائلات شاتيلا وأيوب، فانتشرت الحرفة حتى ضمّت البلدة في بعض الأوقات نحو 40 محترفاً. بحسب المقت، اتسمت الحرفة بالعائلية، إذ كان الأب رب العمل، والزوجة والأولاد العمال المساعدين. العهد الشهابي شهد العصر الذهبي للحرفة بسبب إقبال الأمراء والأميرات عليه. لكن الضربة القاضية جاءت مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. حينها، كان هناك نحو 180 حرفياً، معظمهم هاجروا وحملوا موهبتهم معهم إلى دول الاغتراب، ولا سيما أميركا اللاتينية. بعد انتهاء الحرب، واجهت هذه الصناعة نوعاً جديداً من التحديات تمثّل في منافسة الحليّ المستوردة، ولا سيما من إيطاليا وتركيا والصين. «الفرنجي برنجي» يقول المقت، منتقداً إقبال الناس على شراء المنتج المستورد، برغم تفوق المنتج المحلي جمالياً ونوعياً.

ورغم أن الفضة تمنح طاقة إيجابية للجسم، انحسر التزيّن بها في العقود الماضية. إذ طغى الذهب على الفضة في الاستخدام الخاص وتقديم الهدايا، ولا سيما للعرائس. ضيق الحال الاقتصادية قد يكون له وجه إيجابي، إذ إن كثيرين قد يرغبون في استبدال هدية الفضة بهدية الذهب، بسبب تشابه التصاميم، وفارق السعر الشاسع بينهما.

دبس العنب: صناعة يتوارثها الراشانيون

تصوير علي حشيشو

تفاخر راشيا الوادي بعنبها. الخصوصية الدينية أسهمت في تركيز معظم عائلاتها على استثماره في غير النبيذ. «الدبس لا يقل لذّة وفخامة عن النبيذ، إن في طريقة الصنع أو في الطعم» يجمع الراشانيون. أنواع العنب اللبناني «تجوهر» في تراب سفح جبل حرمون في منطقتي السهام والكرمات: الفضي والبقصاصي والبياضي والسلطي والقاصوفي زحلة والسرعيني وعين علمي مغدوشة... معاصر العنب كانت منتشرة سابقاً في وادي التيم. المعاصر وأجرانها كانت محفورة بالصخر. العائلة تتجمع في كروم العنب في موسم القطاف ثم تتحلق في البيادر حول المعاصر لعصر العنب وطبخه ليعقد الدبس. في الأجران الصخرية، التي تحولت إلى خشبية في وقت لاحق، كان العصر بالقدمين. تدعس حبات العنب ليسيل منها العصير الذي يطبخ في «الخلقينة» على نار الحطب طوال يوم واحد. أجداد سهيل القضماني كانوا يديرون معصرة في الصخر. أما هو وشقيقه بهاء، فقد افتتحا معصرة بـ«الستانلس ستيل». تمسّك الشبان بحرفة أجدادهم، لكنهم اعتمدوا على الأساليب الحديثة «التي توفر منتجاً نظيفاً» بحسب الشيخ سهيل. بدل الدعس بالقدمين، حلّت المكابس الآلية التي تحوّل العصير إلى الجرن لطبخه بالبخار على درجة حرارة تفوق المئتين في نصف ساعة فقط. آلات العصر تلفظ البذور والقشور خارجاً وتحوّل العصير صافياً. يقرّ الشيخ سهيل بأن الدبس الحديث يفتقر إلى قيمة غذائية كانت توفرها طريقة الإعداد البدائية. سابقاً، كانت حبة العنب تعصر بقشورها وبذورها. بينت الدراسات الطبية أن للبذور فوائد علاجية. حرصاً على فوائده، يحفظ الشيخ البذور جانباً ويوزعها على الناس، فيما يطلب بعض مربي المواشي القشور الناتجة لإطعامها للمواشي كعلف طبيعي. العصير لا يعقد دبساً إلا بإضافة «الحوّارة» إليه. تراب أبيض من جبل المحيدثة المطل على راشيا، يضاف بكميات قليلة إلى العصير أثناء الطبخ، يركد في القعر بعد أن يمنحه كثافة.

برغم أن دبس العنب كان حلوى بمتناول مختلف الطبقات في العقود الماضية، إلا أن الطبقية تدخل في صناعته. تتوارث الذاكرة الجماعية مصطلح «البراك» الذي يطلق على من يعصر العنب. أما «الشيخ»، فهو المشرف على طبخ العصير. الطبقية والقيم الاجتماعية المرتبطة بموسم العنب تلاشت على حد سواء. «يوم عرسك يوم دبسك»، كان يطلق الراشانيون ذلك الوصف على موسم قطاف العنب وعصره، تيمناً بوفرة الرزق وتلاقي الناس جنباً إلى جنب. كان القطاف والعصر، حلقات تطلق فيها الأهازيج في مطلع الخريف، تحضيراً لوداع الصيف قبل حلول الشتاء القاسي. انقراض العدد الأكبر من المعاصر وتحول ما بقي إلى معاصر آلية، ألغى اليد العاملة لمصلحة الآلات الصامتة.




تعليقات: