أولويات.. وسيناريوهات


سعد الحريري من الرياض إلى باريس، ومن باريس إلى بيروت، هكذا يقال، وغداً السبت هو اليوم المحدّد نظرياً لتُقلع طائرته من السعودية وتحطّ به في فرنسا.

في رأي البعض، أنّ المهم هو خروج الحريري من السعودية إلى أيّ وجهة يريدها، ويتحدّث هؤلاء عن انقلاب في الصورة، يوحي بأنّ الحريري سيخرج من المملكة ولن يعود إليها، بل اكثر من ذلك، أنّ انتقاله الى فرنسا، بما تعنيه له وبما يعنيه لها، معناه أنّه أصبح تحت المظلّة الفرنسية.

وفي رأي البعض الآخر، أنّ فرضية الانتقال الى المظلة الفرنسية غير واقعية وتنطوي على سيناريو غريب ومبالغ جداً في رسم خيوطه، ذلك انّ خروج الحريري من السعودية لن يغيّر في الأمر شيئاً، بل أياً كان شكل هذا الخروج وأينما كانت وجهته، الى الشرق او الى الغرب، فسيبقى تحت المظلة السعودية في كلّ شيء. هذان المنطقان يتصارعان حالياً، وكلاهما يؤكّد أنّه يصيب عين الواقع والحقيقة.

واضحٌ أنّ مستوى التشنّج الداخلي قد انخفض الى حدودٍ دنيا، والخطاب السياسي هدأ نسبياً، وبدا جلياً أنّه غادر منصّات الانفعال، ومع الإعلان عن قرب مغادرة الحريري الرياض، انصرَف البلد الى ترقّبِ إقلاع طائرته التي ستقِلّه الى فرنسا. وفي باريس ستبدأ رحلة انتظار جديدة يقال إنّها لبضعة أيام، قبل أن يتوجّه الحريري الى بيروت، وهذه العودة باتت تتمّ مقاربتها على ان صارت حتمية بلا أية عراقيل وفي وقتٍ ليس بعيداً.

سواء وصَل الحريري الى بيروت في اليوم التالي لوصوله الى باريس، او أواسط الاسبوع المقبل، فثمّة أولويات تنتظره:

- الأولى، إعادة ترتيب البيت الداخلي سواء على مستوى الطائفة السنّية، او على المستوى الشخصي والعائلي أو على مستوى تيار المستقبل، جراء ما أصابه منذ سبتِ الاستقالة في الرابع من الشهر الجاري. وهي مهمّة تستلزم بعض الوقت، فهناك الكثير من الأسئلة والاستفسارات، وهناك ايضاً كيفية تحضير هذا البيت بكلّ تفاصيله لمرحلة ما بعد الاستقالة بإيجابياتها وسلبياتها.

- الاولوية الثانية، تقديم استقالته وفقاً للأصول، سواء بالحضور شخصياً وإبلاغ قراره هذا مواجهةً إلى رئيس الجمهورية، إو ابلاغه كتابةً وبشكل رسمي.

- الأولوية الثالثة، كيفية مقاربة التسوية التي تجمع الحريري مع رئيس الجمهورية، فثمّة إجماع على أنّها تعرّضت للتصدّع، وأنّ إعادة ترميمها تبدو شديدةَ التعقيد. وخصوصاً بعدما لفَح التوتر العلاقة بين القصر الجمهوري والرياض.

كلّ هذه الأولويات حساسة، وتتطلّب جهداً، نظراً لحجم الشظايا السياسية وغير السياسية التي أصابَت كلّاً منها من اتّجاهات داخلية وخارجية مختلفة.

وإذا كانت العودة تشكّل حدثاً شديد الأهمّية، فإنّ الخطوة التالية للحريري ما بعد العودة، ما زالت غامضة، ومِن هذا الغموض تتسلّل مجموعة سيناريوهات:

- السيناريو الأول، تشاؤمي، أي أن يعود الحريري ويتمسّك باستقالته، ويعلن اعتذارَه عن متابعة مسيرته الحكومية، اي عدم الترشّح مجدداً لرئاسة الحكومة. وهذا معناه فتح البلدِ على تعقيدات شديدة الصعوية، ليس أقلّها كيفية إيجاد الشخصية البديلة، وعلى أيّ أرضية سياسية سيقوم البناء الحكومي وموقع الحريري وفريقه منه؟

- السيناريو الثاني، تشاؤمي، أي أن يعود الحريري، ويصِرّ على استقالته بناءً على الأسباب التي أوردها في بيان الاستقالة الذي تلاه من الرياض، ويَربط موافقته على إعادة تكليفه تشكيلَ الحكومة الجديدة، بالأخذِ بأسباب الاستقالة المعلنة في البيان المذكور. ويَقرن ذلك بخطاب تصعيدي ضدّ «حزب الله» وسلاحِه وتدخّلاتِه الخارجية من سوريا إلى اليمن، ويواكبه في ذلك أصحابُ المنطق القائل بحكومة بلا «حزب الله»، أو بحكومة مع «حزب الله»، ولكن بشرط نزعِ سلاحه وانسحابه من أزمات المنطقة.

هذا الأمر يمكن أن يفتح شرارة مشكلٍ كبير ومعقّد في البلد، أولاً، لأنّ «حزب الله»، وكما يقول مسؤول كبير فيه، «لا يَعتبر نفسَه في موقع المعني بالاستجابة لأيّ من الشروط المطروحة من خارج الواقع، بل أكثر من ذلك لا يَعتبر نفسَه في موقع المعني بتوزيع جوائز ترضية أو مجانية على بعض الأطراف الداخلية والخارجية».

وثانياً، لأنّ أحداً مِن الشخصيات السنّية لن يجازفَ في طرح نفسِه بديلاً عن الحريري، وثالثاً، لأنّ إمكانية الذهاب الى حكومة من لون واحد صعبة جداً، لأنها حكومة حربية في مواجهة الشريحة الواسعة من السنّة، وكذلك مع المجموعة العربية وفي مقدّمتها السعودية. وهو أمرٌ لا يحتمله لبنان، وهذا معناه فتح البلدِ على فراغ حكومي بلا سقفَ زمنياً له، وربّما تكون أولى ضحاياه في الأشهر المقبلة الانتخابات النيابية.

- السيناريو الثالث، تفاؤلي، أي أن يعود الحريري، ويؤخّرَ تقديمَ استقالته خطّياً، ومن ثمّ ينطلق بجولة مشاورات مكثّفة مع القوى السياسية، لا تحاكي

– اي المشاورات – مضمونَ بيان الاستقالة الذي تلاه من الرياض أو تغوص في نقاط الخلاف الجوهرية، بل تُحاكي ما أورَده في مقابلته التلفزيونية والنفَس الهادئ الذي قارَب فيه الداخلَ اللبناني واختلافاته وحساسية تركيبته وحجمَ قدرتِه على الفِعل والتنفيذ والمواجهة مع قضايا ومسائل معقّدة أكبر منه. بحيث قد تصل هذه المشاورات في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة التفاهمات على النحو الذي يراعي الموازين الداخلية وخصوصية الواقع والتركيبة اللبنانية، بما يؤدّي إلى «رَوتشة» بعضِ المواقف وأداء بعض القوى السياسية.

ما قد يفتح الباب أمام العودة نهائياً عن الاستقالة وإعادة نفخِ الحياة في الحكومة الحالية فتمضي على النحو الذي كانت عليه قبل سبتِ الاستقالة، وتحت كلّ المظلّات العربية والإقليمية والدولية التي كانت تُظلل حكومة استعادة الثقة.

- السيناريو الرابع، أكثر تفاؤلاً، وتتدرّج فيه الخطوات كما يلي:

أولاً، يعود الحريري إلى بيروت.

ثانياً، يقوم بزيارة سريعة الى رئيس الجمهورية، ويشكره على مواقفه السياسية وعاطفته التي أبداها حياله خلال فترة وجوده في الرياض. ويدور بينهما نقاش حول الاستقالة وما أحاط بها.

ثالثاً، يحاول رئيس الجمهورية ثنيَ الحريري عن الاستقالة، فيَشكره الرئيس المستقيل ويصِرّ على الاستقالة، ويقدّمها خطياً.

رابعاً، يتفهّم رئيس الجمهورية إصرارَ الحريري. ويتلقّى كتاب الاستقالة.

خامساً، يتريّث رئيس الجمهورية في إعلان قبول الاستقالة، ويُجري مشاورات مع الشركاء السياسيين.

سادساً، في ضوء هذه المشاورات يُصدر رئيس الجمهورية مرسومَ قبول استقالة الحريري ويدعو الحكومة إلى تصريف الأعمال. ومن ثمّ يدعو إلى الاستشارات النيابية الملزمة في القصر الجمهوري لتكليفِ شخصية لتأليف الحكومة الجديدة.

سابعاً، تَجري الاستشارات، وتُعاد تسمية الحريري بأغلبية نيابية كبيرة تُلامس الإجماع، لتشكيل الحكومة الجديدة.

ثامناً، يُصدر رئيس الجمهورية مرسوم تكليف الحريري تشكيلَ الحكومة الجديدة، ويبدأ بعدها الرئيس المكلّف استشارات التأليف، وهنا بالتوازي مع مشوار تصريف الأعمال الذي تدخله الحكومة، يبدأ الرئيس المكلّف مشوارَه الصعب في محاولةِ الوصول إلى صيغة حكومية، وهنا الحريري أمام طريقين:

- الأوّل، إمّا أن ينطلق من أداء يَعتبر أنّ بيان الاستقالة الذي تلاه من الرياض محصورةٌ مفاعيله بالحكومة الحالية، وهذا معناه أنّ مشوار التأليف قد لا يَطول لأكثر من أيام إذا ما أعيدَ إنتاجُ التفاهمات التي قامت عليها الحكومة المستقيلة، فضلاً عن أنّ القوى السياسية على اختلافها لا تضعُ سقفاً عالياً مِن الشروط لأنّ الهمَّ الأساس هو إطلاق عجَلةِ البلد وتوفير الاطمئنان بوجود حكومة جديدة مهمتُها الأساس الإشراف على إجراء الانتخابات النيابية.

- الثاني، وإمّا ينطلق من الإصرار على تركيبةٍ حكومية جديدة، تُراعي تركيبتُها من جهة، أسبابَ الاستقالة المعلنة من الرياض، ومن جهة ثانية التركيبةَ اللبنانية والموازين الداخلية. والوصولُ إلى هذه الصيغة دونه تعقيدات وصعوبات كبرى، وهذا يعني أنّ الاستشارات سيطول أمدُها، وتصطدم مرحلة التأليف بقربِ موعد الانتخابات النيابية، فتصبح الأفضلية للانتخابات لا للتأليف.

تعليقات: