الصيت للشياح...والفعل لقتلة مجهولين

بداية الاحتجاج عند تقاطع مار مخايل (بلال جاويش)
بداية الاحتجاج عند تقاطع مار مخايل (بلال جاويش)


تشتهر منطقة الشياح بصيت يحرم أهلها غالباً حقوقهم. هي منطقة «الزعران»، تقال لهم بلهجة تحبب حيناً، واتهام حيناً آخر، فترى الشباب ينفعلون في الحالة الأولى، ويعرضون «زعرناتهم»، ويهدأون في الحالة الثانية، مديرين وجنتهم اليسرى لتلقي الصفعة التالية

أوى الشهداء إلى مثواهم الأخير... ونظفت الطريق.

لكن الشياح لا تعرف نفسها. يعدّ أبناؤها ساعات الليل لتنقضي ويطلع الصباح عليهم. يلهون أنفسهم بأعمال وأحاديث ليطردوا صور دماء أبنائهم التي سُفِكت من دون سبب. يكبتون غضباً، يعلمون أكثر من غيرهم، ما يمكنه أن يفعل إذا انفجر.

«كيف يمكن ساعات الليل أن تنقضي؟». يسأل والد لا تزال تبكيه صور الشهداء الستة الذين تساقطوا «بإصابات مباشرة هدفها القتل». وتسأل والدة: «كيف ينام من أطلق النار؟».

هذه الأسئلة تنطلق من الشياح. لكن، للمنطقة صيت يجعل كلّ شكوى تصدر عن أهلها محلّ سخرية واستخفاف. فالشباب هناك «زعران»، «الشباب في الشياح ينزلون إلى الشارع كلّ يوم». «الشباب في الشياح يهجمون على عين الرمانة كلما شاؤوا». «الشباب في الشياح يحطمون ويضربون...».

والشباب في الشياح لا يوافقون على الحديث مع الإعلام، ولا حتى مع «الأخبار».

***

«إذا بتعملي معروف... إذا بتريدي... لو سمحتِ... كلّون هول، إيه؟ بس تفضلي اطلعي من هون».

هكذا يقول شاب في حركة «أمل»، بل هكذا يكرّر. فهو أوضح في مرة أولى أنه لا يمكن الحديث مع أحد في الشارع إلا بإذن من القيادة. شباب «أمل» مشغولون بالتحضير للتشييع، والأوامر واضحة بالنسبة إليهم: التصريحات ممنوعة.

في السابق كان يمكن استفزاز الشباب، من «أمل» وغيرها، لجرّهم إلى الحديث: «يقولون عنكم كذا وكذا، ماذا تردّون؟». لكن، أيّ استفزاز كان يمكن أن يكون أكثر من قتلهم... ولم يردّوا؟

«زعران؟ إيه زعران. لنرَ ماذا كان سيفعل القدّيسون لو كانوا مكاننا؟». يقول شاب في شارع محاذٍ لشارع عبد الكريم الخليل، ويعتذر عن إكمال الحديث للمشاركة في تشييع صديقه أحمد حمزة الذي «كان رايح يبيع الموتوسيكل على خط صيدا عندما وقع المشكل، ولأنه كان موجوداً هناك وسبق له التعامل مع الجيش بادر إلى التنسيق فاغتالوه»، يقول لنا ثم يحثّ خطاه مبتعداً ويقفر الشارع من المارّة.

المشهد غريب على من يعرف الشياح التي تغصّ زواريبها عادة بالشباب والفتيان. المطر الذي انهمر في اليومين الماضيين ليس سبباً كافياً لتفسير هذا الهدوء. من شارع إلى شارع، ومن زاروب إلى زاروب، المشهد مماثل. أمام بعض المحالّ التي فتحت أبوابها يمكن سماع بعض تعليقات الأهالي التي تتراوح بين: «لا حول ولا قوة إلا بالله» أو «الله يخسّرهم شبابهم مثل ما عم يعملوا فينا».

الله إذاً هو ملجأ أهالي الشياح في مصيبتهم الأخيرة... فكيف يطغى الصيت السيئ على أبنائها؟

***

تضحك غنوة، العاملة في محل للعطورات، لدى سماعها السؤال، وتنادي شابين يقفان في الخارج ليجيبا عنه. حسن ومحمد لم يشاركا في الاحتجاج على قطع الكهرباء «أصلاً لم يتجاوز عدد الذين شاركوا 30، ومعظمهم من منطقة حي ماضي، لأن الكهرباء تنقطع هناك بشكل غير طبيعي، يوماً... يومين». يعترفان بأنه في الوقت الذي كان فيه الشباب يحتجون، كانت «الكهرباء جايي عندنا»، كما يقول محمد الذي لا يتجاوز عمره الثامنة عشرة. يضيف: «خطنا من خط منطقة عين الرمانة، لذلك لا تنقطع الكهرباء أكثر من ساعتين في النهار بخلاف شوارع أخرى من الشياح لا تعرف الكهرباء كشارع مارون مسك مثلاً».

يتكرّر السؤال عن الكهرباء. المقارنة بين الشياح وعين الرمانة قائمة، لكن «نحن لا نحسد جيراننا، السؤال هو لماذا تنقطع الكهرباء أصلاً؟». غير أنّ الكهرباء لا تغيب عن منزل مروان المقيم في شارع عبد الكريم خليل... ولهذا سببه: «اشتراك بالموتور، خط مسروق، بالإضافة إلى خط الدولة الرسمي». أما في شارع أسعد الأسعد «فعشرة على الأقلّ ألغوا اشتراكهم بالموتور بعدما وصلت قيمته إلى 60 ألفاً بدل الـ5 أمبير». وفي البناية التي يقيم فيها رامز «احترق كابل الكهرباء، اتصلت بالشركة يوم الثلاثاء فقالوا لي راحت للجمعة... جمعنا المال في البناية واشترينا كابل جديداً».

***

رامز هو الاسم المستعار لـ«مسؤول» في أحد أحياء الشياح. التقينا به في منزل صديقة من قدامى المنطقة. «بالمَونة» وافق على الحديث معنا. يبدو في منتصف الثلاثينيات من العمر، وُلد في الشياح ولم يغادرها يوماً. يعرف كلّ أزقتها ومشاكلها... ويعترف بـ«صيت» أهلها الذائع: «أطلقوا علينا صيت الزعران خلال الحرب الأهلية لأن الشياح حمت ساحتها». يستطرد: «وكان يمكنها أن تستمرّ في ذلك لولا التزامنا القرار».

في جعبة رامز الكثير لقوله، ويورد معلومات «صحيحة 100%»، عمّا كان يحضّر ضد المنطقة وضد المعارضة كلّها. لا يحمّل أحداً المسؤولية، لكنه يطرح أسئلة بناءً على مشاهداته على الأرض: «فجأة انسحبت كلّ ملالات الجيش على طول خط طريق صيدا ـــــ عين الرمانة، علماً بأنه بعد انتشار خبر القتل الذي تعرّض له الشباب عند تقاطع مار مخايل انتشرت التظاهرات في كلّ الشياح. أنا رافقت تظاهرة خرج بها الشباب من شارع أسعد الأسعد إلى عين الرمانة، ولم أرَ الملالة الموجودة عادة هناك. وفي عين الرمانة لوّح لنا شبان بأعلام «التيار الوطني الحرّ» فلوّحنا لهم بدورنا. بعد دقائق معدودة انفجرت قنبلة جرحت 11 شخصاً منّا. أي إن القنبلة كانت موجهة إلينا أيضاً، ولم نكن نحمل أيّ سلاح».

لا يوافق رامز على القول إن الدخول إلى عين الرمانة كان للاستفزاز: «من نستفزّ؟ أقول لك إن الشباب كانوا يُقتَلون ولم يجد رفاقهم ما يفعلونه سوى الصراخ والاحتجاج في الشارع...». كما يرفض السؤال عن سبب التظاهرات شبه اليومية التي يقوم بها الشباب احتجاجاً على قطع الكهرباء، وخصوصاً أن مشكلة الكهرباء موجودة في غير منطقة «هذا ليس سؤالاً منطقياً، هناك ناس يتحمّلون وناس لا... ثم لا يجوز إطلاق النار على أي تظاهرة كما حصل، وخصوصاً أن المتظاهرين لم يكونوا يحملون السلاح ومعظمهم فتيان صغار».

***

عباس شاهد آخر، تجاوز المراهقة وسنوات الطيش وبات يحكم بوعي على الأمور كما يقول عن نفسه. يكشف أنه رأى بعينه مسؤولاً في حركة «أمل» يقول للجيش إنه قادر على إقناع الشباب، فإذا به يتلقى صفعة من أحد العناصر، «ورغم أنه مسؤول عن 50 شاباً لم ينفعل بل طلب من شبابه الانضباط». يستطرد:

«كيف نكون زعراناً، إذا أدرنا خدّنا لكلّ ما نتلقاه من صفعات»، معيداً التذكير بكلّ المرات التي استسهلت فيها القوى الأمنية إطلاق النار على أهالي الضاحية «من يتذكر ما فعله المتظاهرون في الأشرفية؟ أحرقوا بناية كاملة وحطموا كلّ ما وقع بين أيديهم ولم تطلق رصاصة واحدة عليهم»... يذهب أكثر من ذلك «حتى الإسرائيلي عندما يطلق الرصاص على المتظاهرين الفلسطينيين فهو يطلق رصاصاً مطاطياً».

لكلّ هذه الأسباب وغيرها الكثير يرفض عباس صيت «الزعران»: «من يحمل الوعي الذي نحمله؟»، معيداً ذيوع هذا الصيت إلى أعمال الشغب التي كانت ترافق مباريات النجمة والأنصار، «لكن حتى المباريات العالمية تحصل فيها أعمال شغب، سقط قتلى قبل أيام بعد مباراة إنكلترا وبرشلونة».

***

شباب الشياح لا يخفون ما يفعلونه. لا يدّعون أنهم قدّيسون، لكنهم يطلبون إدراج التصرّفات التي تصدر عنهم في إطارها الصحيح. الوضع الاجتماعي أكثر من سيئ، الشباب عاطلون من العمل، الظلم والتمييز في التعامل من الدولة غير خافيين على أحد: «أقلّ شيء موقفهم خلال حرب تموز، لا يكفي تخليهم عنّا إلا أنهم حجبوا التعويضات وعاقبونا لأننا ندعم المقاومة». وإذا ابتعدنا عن المقاومة وسلاحها الذي يدخل في سجال آخر، «فليساوونا بغيرنا من أبناء لبنان، من شاهد تشييع الشهيد وسام عيد على شاشات التلفزة ألم يرَ في يد من كان السلاح؟ لماذا لا ينظرون بعين واحدة إلى الطرفين؟».

لكلّ هذه الأسباب هم يستمعون إلى الأوصاف التي تطلق عليهم من هنا وهناك ويسخرون من مطلقيها «لا أحد غيرنا كان سيستطيع تجاوز فتيل الفتنة التي يجهدون لجرّنا إليها ولن ينجحوا...»، يقول رامز وعباس. يضيفان: «هذا لا يعني أننا سنسكت عن حقنا. وحقّنا اليوم مع الجيش الذي اهتزت ثقتنا به ونأمل أن تكون قيادته جادة في إزالة الكثير من علامات الاستفهام التي نطرحها».


خلال تشييع الشهداء أول من أمس في الشياح (مروان طحطح)
خلال تشييع الشهداء أول من أمس في الشياح (مروان طحطح)


تعليقات: