توقف دفع التعويضات لاصحاب المنازل المهدمة بعد صرف الاموال في غير مكانها

بيت قيد الترمم في الجميجمة
بيت قيد الترمم في الجميجمة


كارثة تهدد مصير آلاف المتضررين من العدوان بعد حجب عشرات ملايين الدولارات عنهم

الهيئة العليا للإغاثة تؤكد دفع 700 مليار ليرة ومجلس الجنوب ينفي

"يجب ان يستمر القصف وتسيل الدماء لتمتزج بالتراب وتفوح رائحتها كرائحة الارض بعد الشتوة الاولى وتصل الى الاشقاء العرب ليغدقوا الاموال على الجنوبيين".

... هي حكاية الجنوب واهله مع العدوان الاسرائيلي المستمر منذ اكثر من ستة عقود، اليوم باتت معاناة الجنوبيين حقيقة لا تقبل اللبس.

لن تعمر منازلهم المهدمة، باستثناء البلدات الاربع التي تبنت دولة قطر إعادة اعمارها هي بنت جبيل وعيناتا والخيام وعيتا الشعب.

لكن لماذا توقف دفع التعويضات؟ وما هي الاسباب الكامنة خلف هذا الاجراء؟ وهل صحيح ان ما تبرعت به الدول العربية هو فقط 790 مليون دولار اميركي؟ واين صرفت هذه الاموال؟

في هذا التحقيق جولة ميدانية على بعض القرى الجنوبية للوقوف على حقيقة ما يجري وللاستفسار عن سبب توقف الاف ورش البناء.

يسأل الجنوبيون متى يقبضون الدفعة الثانية والأخيرة لإنجاز اعمار منازلهم المهدمة من جراء العدوان الاسرائيلي في تموز 2006. الا ان لا اجابات محددة من الهيئة العليا للاغاثة المشرفة على التعويضات التي قدمتها دول عربية عدة وفي طليعتها المملكة العربية السعودية ودولة الكويت والامارات العربية المتحدة وغيرها من الدول.

من اقصى الجنوب وعلى الحدود مع فلسطين المحتلة بدأنا جولة ميدانية في بلدة عيترون. التي دمر فيها حوالى 25 منزلاً وارتكبت اسرائيل مجزرتين رهيبتين استشهد خلالهما اكثر من 40 مواطناً بعضهم يحمل الجنسية الكندية، ومن بين الضحايا اطفال لم تتجاوز اعمارهم العام الواحد عدا عن مقتل 11 شخصاً من عائلة واحدة.

في هذه البلدة لا تزال عملية اعادة الاعمار متعثرة رغم مرور اكثر من 500 يوم على وقف الأعمال العدائية ودخول القرار 1701 حيز التنفيذ. بلدة عيترون تبنت المملكة العربية السعودية اعادة اعمارها، وصرفت الهيئة العليا للاغاثة الدفعة الأولى للأهالي المتضررين واصحاب البيوت المهدمة في شهر آذار الفائت، اي منذ قرابة العام، وبعضهم توقف عن البناء بسبب كثرة الديون وامتناع تجار مواد البناء عن تسليمهم البضائع خوفاً من عدم مقدرة الأهالي على دفع ثمنها، ولعل ما حدث في بلدة بنت جبيل قبل اشهر دليل على تعثر تجار مواد البناء ايفاء ديونهم. وفي تفاصيل الحادثة ان تاجراً كبيراً لمواد البناء من بلدة يارون الحدودية اختلف مع احد المتعاملين معه من مدينة بنت جبيل (ن. ب) وبعد شجار بينهما اقدم الأخير على قتل التاجر المدين له بمبلغ 50 الف دولار، اضافة الى حادثة اخرى في المدينة، عندما اقدم تجار لمواد البناء على اختطاف احد ابناء بنت جبيل وللسبب عينه. اما الأهالي فحالهم لا يحسدون عليها. ويشرح محمود عواضة (43 عاماً) ما آلت اليه الأوضاع في بلدته: "توقفت عن اعادة بناء منزلي المهدم، فلم اقبض سوى 30 مليون ليرة لبنانية من الهيئة العليا للاغاثة، والمبلغ لم يكف لانجاز الركائز وحفر بئر المياه، وامتنع التاجر (غ.ب) عن تسليمي الترابة والحديد بسبب عدم تسديدي لمبلغ 12 الف و300 دولار ثمن البحص والرمل والترابة، عدا عن اني لم ادفع لمعلم البناء سوى ثلث اتعابه، وما كان منه الا ان اخذ عدته وغادر الورشة". ويعتب عواضة على البلدية لأنها لا تحرك ساكناً، ويسأل : "متى نقبض الدفعة الثانية".

حال جار محمود ليست افضل منه، فأحمد عيسى يعاني من ضائقة مالية بسبب كثرة الديون، وتوقف ايضاً عن اعادة اعمار منزله.

على عكس عيترون تتواصل ورش اعادة الاعمار في جارتها مارون الراس، هنا تبرع الشيخ الكويتي ناصر الخرافي بدفع التعويضات للمتضررين. ورغم بعض التأخير في دفع الدفعة الثانية الا ان ورش البناء اشرفت على النهاية. ويوضح حسين علوية (51 عاماً): "لقد دمر منزلي كلياً خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة، ولم اباشر اعادة اعماره سوى من شهر ايلول الفائت، لكن كثرة الورش وقلة معلمي البناء اعاقت انجاز اعادة الاعمار بالسرعة المطلوبة". لكن علوية غير خائف على مستقبل منزله لأن الدفعة الثانية تقاضاها منذ فترة وليس لديه اي اعتراض على قيمة المبلغ المرصد له والبالغ 60 مليون ليرة لبنانية.

الهيئة العليا للاغاثة: لا أموال

الهيئة العليا للاغاثة يقتصر دورها على اصدار الشيكات تبعاً للكشوفات التي تردها من الاستشاري (شركة خطيب وعلمي) ومجلس الجنوب وتاليا لا تتلكأ عن دفع الشيكات للمتضررين.

الا ان التدقيق في الكشوفات من جانب الاستشاري واحياناً من قبل الدول المانحة للهبات يؤخر وصول الدفعات الى مستحقيها. وحسب مصدر مسؤول في الهيئة، ان الأخيرة تدفع التعويضات للمتضررين من جراء العدوان الاسرائيلي الأخير، وليس لديها اي اسرار لأنها استحدثت موقعاً الكترونياً على شبكة الانترنت يمكن الجميع الدخول اليه ومراجعة اللوائح وهي تعمد بشكل دائم الى صرف التعويضات، لكن اعادة التدقيق في بعض الملفات من جانب الاستشاري، وكثرة الاعتراضات من الأهالي يعيق عملية الدفع. وتذكر الهيئة ان كل الأموال التي حولتها الدول المانحة موجودة في مصرف لبنان المركزي ولا تستعمل لأي غرض آخر غير الذي حددته الدول المانحة.

قد لا يعجب تبرير الهيئة العليا للاغاثة عددا كبيرا من المتضررين واصحاب الحقوق في القرى والبلدات الجنوبية. ويؤكد اللواء يحيى رعد ان ما يقوله الأهالي عن عدم استلامهم الدفعة الثانية هو امر صحيح مئة في المئة، ويوضح: "ما تم دفعه حتى اليوم يناهز الـ 700 مليار ل. ل. اي ما يقارب ال 500 مليون دولار من اصل 790 مليون دولار قدمته الدول التي تبنت اعادة اعمار ما دمره العدوان الاسرائيلي في تموز 2006 ودفع من هذا المبلغ ايضاً لاعادة ترميم المطارات والجسور والطرق اضافة الى التعويضات لأهالي الشهداء والجرحى، مما يعني ان الدفعة الثانية لن تدفع قبل تأمين الأموال اللازمة عدا عن الانتهاء من الدفعة الأولى، وهناك حوالى 4000 طلب في حاجة الى دراسة". ويختم رعد مؤكداً ان الدفعة الثانية لن تدفع ما لم تصدر القوانين اللازمة من مجلس النواب بهدف تأمين الاعتمادات اللازمة لصرفها للمتضررين.

عشرات الملايين لمشاريع اخرى

وعلمت "النهار " من مصادر مطلعة ان ما يقارب الـ110 ملايين دولار من الاموال المرصدة لاعادة اعمار ما هدمه العدوان الاسرائيلي صرفت لمشاريع اخرى خارج الجنوب، منها 40 مليون دولار من الهبة السعودية وبموافقة الاخيرة صرفت لتغطية العجز الناجم عن ارتفاع اسعار مواد البناء في مشروع الاوتوستراد العربي، و15 مليون دولار لتنفيذ مشروع مياه الشرب في البقاع الغربي اضافة الى5 ملايين دولار تم تحويلها الى مؤسسة كهرباء لبنان لانجاز اعادة هيكلة المؤسسة. عدا عن مشاريع اخرى لا يتسع المجال لتعدادها.

في هذا السياق يعلق النائب حسن فضل الله: "يبدو ان هناك قراراً سياسياً باستكمال معاقبة المتضررين من العدوان الاسرائيلي بالتزامن مع صدور تقرير لجنة فينوغراد الاسرائيلية الذي اكد هزيمة العدو وانتصار المقاومة"، ويحمّل فضل الله الرئيس فؤاد السنيورة مسؤولية وقف التعويضات لأهل الجنوب والبقاع الغربي. وينوه بجهود الدول المانحة التي لم تودع اموالها لدى الهيئة العليا للاغاثة وفضلت التوجه مباشرة الى القرى و البلدات المتضررة من العدوان وباشرت دفع التعويضات " وهنا نشكر المكتب القطري لاعادة اعمار لبنان خصوصاً ان البلدات الاربع (بنت جبيل وعيناتا والخيام وعيتا الشعب) التي تبنّى اعادة اعمارها تسودها الاجواء الايجابية ولا مشاكل تذكر فيها، لان البعثة القطرية برئاسة ياسر المناعي تواظب على دفع التعويضات بانتظام".

قبلان: تسلمنا 434 مليار ليرة فقط

رئيس مجلس الجنوب قبلان قبلان يؤكد ان مجموع ما تسلمه من الهيئة العليا للإغاثة يبلغ 434 مليار ليرة لبنانية وقام المجلس بتسليمها لاصحاب المنازل المدمرة والمتضررة اضافة الى مبلغ 21 مليار ليرة كتعويضات لعائلات الشهداء و الجرحى.

ويذكر ان عدد المنازل المهدمة في الجنوب يفوق الـ7000 منزل مما يعني ان اصحابها لن يتسلموا التعويضات الى اشعار آخر.

من جهته يجهل نائب رئيس بلدية عيترون نجيب قوصان موعد دفع الدفعة الثانية، ويضيف قوصان: "تقدمنا بمراجعات عدة الى مجلس النواب والهيئة العليا للاغاثة ولم نحصل على اجابات شافية، وكل ما في الأمر انهم طلبوا منا ترميم المنازل التي اعيد اعمارها من اجل الكشف عليها مجدداً، وبالفعل انجزت البلدية هذه المهمة لكن الو ضع استمر على ما هو عليه علماً ان الدفعة الأولى تسلمها اصحاب الحقوق في آذار الفائت".

ويناشد اهالي عيترون السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة التدخل خصوصاً ان المملكة العربية السعودية تبنت اعادة اعمارها. ويجزم قوصان ان معظم اصحاب المنازل المهدمة توقفوا عن اعادة اعمار منازلهم الأمر الذي تسبب بأزمة سكنية خانقة، ولا يختلف الوضع في بلدة الجميجمة (بنت جبيل) عن جارتها عيترون حيث ان هناك العديد من اصحاب المنازل المهدمة لم يتسلموا حتى اليوم قرشا واحد من الهيئة العليا للاغاثة. ويقول محمد حمزة انه قد ملّ مراجعة المسؤولين في مجلس الجنوب والبلدية وخطيب وعلمي ولم يلق اجابات شافية عن موعد محدد لقبض الدفعة الأولى. اما جاره حسين ك. فيؤكد ان لا موعد محدداً لقبض الدفعة الثانية علماً انه تسلم مبلغ 30 مليون ليرة قبل 9 اشهر وباشر اعادة بناء منزله المهدم الا انه اضطر الى التوقف عن البناء بعد استنفاد المبلغ المذكور. ويوضح : "تصور انني لا استطيع مواصلة بناء منزلي فالمبلغ المذكور الذي قبضته لم يكف سوى لحفر الأساسات وبناء الأعمدة اضافة الى بئر المياه، حتى انني لم استطع بناء غرفتين لأعيش فيهما مع عائلتي المؤلفة من 9 اشخاص". ويذكر انه في بلدة الجميجمة دمر اكثر من 180 منزلاً خلال العدوان الاسرائيلي الأخير، ويمكن زائر الجميجمة ان يلاحظ توقف عشرات ورش البناء بسبب عدم قبض الدفعة الثانية.

من الجميجمة انتقلنا الى جارتها برعشيت، والمشهد لا يختلف هنا عن عيترون وصفد البطيخ والسلطانية... الخ. ويوضح محمد اسماعيل (48 عاماً) ان الأهالي لا يعرفون سبب معاقبتهم من الحكومة الحالية خصوصاً ان الأموال متوفرة في مصرف لبنان ولم يصر حتى اليوم الى دفع المستحقات لأصحابها. اما في بلدة تبنين فالصورة لا تختلف عن جاراتها، وتوضح ليلى فواز (32 عاماً) ان ما يحصل في الجنوب وخصوصاً في تبنين لا مبرر له وقد سئم الأهالي طول الانتظار والوعود الكاذبة ولم يعد يصدقوا اي مسؤول.

عضو كتلة التنمية والتحرير النائب ايوب حميد يستغرب كيف لم تدفع التعويضات الى اصحاب المنازل المهدمة منذ اكثر من عام ونصف العام رغم توفر الأموال التي تبرعت بها الدول العربية وفي مقدمها المملكة العربية السعودية والكويت والامارات وغيرها من الدول العربية الشقيقة، ويحمّل الحكومة الحالية مسؤولية عدم دفع المستحقات لأصحابها، ويوضح: "الدول العربية اودعتنا المبالغ الكافية للتعويض على اهالي الجنوب لدى رئاسة مجلس الوزراء باستثناء دولة قطر، ونحن على يقين ان هذه المبالغ تكفي لاعادة اعمار جميع المنازل المهدمة في الجنوب". ويعتقد حميد "ان عدم دفع التعويضات للجنوبيين يصب في خانتين:

- الكيدية السياسية في التعاطي مع الشهداء وعوائلهم والمتضررين من العدوان.

- سرقة هذه الأموال من قبل الحكومة".

ويؤكد ان سفراء الدول المانحة ابدوا تجاوباً مع التحرك الذي قامت به كتلتا "التنمية والتحرير" و "الوفاء للمقاومة" عندما زارت وفود من الكتلتين كل من السفراء السعودي والاماراتي والكويتي وسلمتهم الجداول التي تظهر تقاعس الحكومة عن دفع التعويضات الا ان ما قام به نواب الجنوب كان يُرد عليه بالمزيد من الكذب ونشر المعلومات غير الدقيقة".

ويُذكر ان مجلس الجنوب يقتصر دوره في الكشف الأولي على المنازل المهدمة والمتضررة ومن ثم يرفع جداوله الى الاستشاري الذي يقوم باعادة الكشف على هذه المنازل. ويهمس بعض النواب الجنوبيين ان منع مجلس الجنوب من القيام بدوره يهدف الى تحجيمه وايلاء المهمة الى الهيئة العليا للاغاثة ويضيف هؤلاء ان الأموال المودعة في مصرف لبنان من الدول المانحة قد صرفت مبالغ طائلة منها في امكنة اخرى على خلاف الغاية التي ارادتها الدول المانحة.

تعليقات: