الأستاذ المخضرم نايف مرعي

معلّم الأجيال في الخيام، أستاذ الأساتذة، المربّي نايف مرعي
معلّم الأجيال في الخيام، أستاذ الأساتذة، المربّي نايف مرعي


تجاوز التسعين من عمره، وهو ما يزال يتّقد شباباً وذكاءً وذاكرة ونشاطاً. يجلس وحيداً في بلدته التي اختارها كسكن بديل من بيروت، حيث يعيش ما تبقّى من عائلته الكريمة. يجلس وحيداً في الخيام إلا مع أنيسته قطته الشقراء، و"الآيباد"، وسيلته للتواصل مع العالم الخارجيّ، وأقصد به العالمين الافتراضي والحقيقي الذي يتجاوز حدود البلدة والجنوب والوطن ليصل إلى أوروبا حيث يعيش ابنه الدكتور نهاد.

اثنان لا يفارقانه، الكتاب والآيباد، وقد بزّ هذا الجيل نشاطاً وفاعلية بوسائل التواصل الاجتماعيّ، حتى يمكننا القول أنّه الوحيد بهذا المجال ممّن يجايله، بل ممّن هم أصغر منه سنّاً.

هو أبو الشهداء، فقد خسر ابنه الشاب "مرعي" المليء فتوّة وجمالاً وتألقاً. الذي سقط شهيداً امام منزل العائلة، في بناية المحرر بحيّ معوّض، حيث كان يساعد في نقل جارهم الجريح من آل سويد في سيارة مدنية، لكن الاثنين استشهدا في 24 تشرين الثاني عام 1988. تلا ذلك بعد بضعة أشهر إستشهاد إبنته "مريم" وزوجها "سلمان أبو عباس" اللذين استشهدا في منزلهما في منطقة الصفير في الضاحية الجنوبية، أثناء الحرب الأهليّة والجنون الطائفيّ والقصف "الانعزاليّ" على المنطقة. ترك هذا الفقدان المزدوج ندوباً كبيرة في قلبه وروحه. ثمّ تتالت المصائب، ففقد ابنته البكر "جمال"، اسم على مسمّى، السيّدة الخلوقة الطيّبة المبتسمة سليلة تلك العائلة المعطاءة الدمثة. أبى المرض إلا أن يخطف جمالاً من أحضان من يحبّها ويُكحّل عيونه ببهائها وحنوّها. أمّا خسارته الأخيرة فكانت ربّة العائلة ورفيقة دربه الحاجة "أم فؤاد" التي ربّت العائلة بمعيّة أبي فؤاد على الطيبة وطلب العلم وحبّ الثقافة والطموح.

يعيش في الخيام وحيداً في منزله الرابض وسط البلدة. يعيش في عالمه الخاص الهادىء، يزوره أولاده من وقت لآخر، أو يتواصلون معه عبر الهاتف والآيباد ووسائل التواصل الاجتماعي التي سبق ذكرها.

زرته في الخيام حيث يرتاح بعد تعب العمر والذكريات. حدّثني عن تاريخه التعليمي الذي لسنا بغرباء عنه. نستطيع القول أنّه أستاذي وأستاذ الكثيرين بل أستاذ الأساتذة؛ درس على يديه كادر الخيام التعليميّ، المتوفين من هذا الكادر والأحياء منه، ممّن تجاوز عمرهم السبعين والثمانين. نذكر على سبيل المثال المربّي الأستاذ كامل خشيش، الموسيقي والعازف الذي خرّج بدوره مطربة متألقة، ونقصد بذلك ابنته ريما خشيش التي زارت المطرب محمد عبد الوهاب في مصر قبل وفاته، وأسمعته صوتها، فأسمعها جميل الكلام والإعجاب بهذا الصوت الجميل.

استلم أستاذ نايف إدارة المدرسة الرسمية في وقت من الأوقات ولفترة زمنيّة معيّنة. أذكره لطيفاً وحنوناً وخلوقاً وأباً رمزياً للتلامذة، فأحبّوه كثيراً، وحملوا معهم كلّ ذكرى طيّبة من مراحل دراستهم في المدرسة.

أقرأ تعليقاته على الفيسبوك وأقواله واقتباساته التي تدلّ على شهامة ودماثة ووعي كبير، واطلاع على كلّ جديد في هذا الوطن والعالم، فلا تحسّ إلا شاباً نهماً للمعرفة الدائمة، يعزف بغير لغة وآلة، يستحثّك على التعليق ووضع "اللايك". من يعرفه عن كثب لا يتفاجأ بما نقول لأنّ تاريخه متواصل من الصفات التي ذكرناها والتي كانت سبباً ببناء تلك العائلة الكبيرة بعددها ومتعلمّيها وتهذيبها.. ومن لا يعرفه سيتفاجأ حتماً بصاحب هذه الصفحة، تسعينيّ ذي قلب يخفق معاصرة وحباً للحياة وللإنسانيّة وللصداقة النادرة..

أمدّك الله بالعمر الطويل وبالقوّة والصحّة أستاذنا نايف مرعي لتبقى لنا "فراند" مليء بالطاقة والعطاء والجمال..

* البروفسور يوسف غزاوي

الأستاذ المخضرم نايف مرعي وتلميذه المربّي والموسيقي الأستاذ كامل خشيش
الأستاذ المخضرم نايف مرعي وتلميذه المربّي والموسيقي الأستاذ كامل خشيش


تعليقات: