جميل السيّد للمحكمة: إنّها إسرائيل وأميركا

النائب جميل السيّد
النائب جميل السيّد


نجح في تحويل المحكمة الدوليّة إلى منصّة لتوجيه الإتهام إلى إسرائيل وأميركا. سيدوّن ذلك الآن، لزاماً، في المحاضر الرسميّة. هذا أيضاً آخر ما كان يتوقّعه مَن «قتلوا أنفسهم» لتشكيل تلك المحكمة. سيل آخر مِن الفضائح، التي كانت شبه منسيّة، أعادها الرجل إلى الحاضر. انتهى اليوم الثاني لشهادته. اليوم سيكون الثالث، حيث يواجه الطرف الآخر: الإدّعاء. وحده يعلم بما لدى جميل السيد مِن «دهشات» مخبّأة بعد، وما إن كان سيوزّعها على القضاة... والرأي العام.

حاولت القاضية أن تُقاطعه، أثناء حديثه، فرفع يده نحوها بإشارة أن تتوقف عن الكلام، فتوقّفت. تابع هو كلامه قليلاً إلى أن «أذِن» لها بأن تتكلّم... فتكلّمت. هي القاضية وهو الشاهد. بهذه الثقة، ومعها «ذاكرة فيل»، تابع النائب جميل السيّد شهادته، لليوم الثاني على التوالي، أمام المحكمة الخاصة بلبنان. محامي الدفاع يسأله، القضاة يسألونه، وينطلق. قناعته أنّ محاولة اغتيال مروان حمادة كانت تمهيداً لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. ورداً على سؤال عن المستفيد مِن ذلك، يُجيب: «تبدأ مِن إسرائيل وتنتهي بأميركا». عندما كان حمادة في المستشفى، بعد يوم مِن محاولة اغتياله، زاره السيّد ووجده مقتنعاً أنّ سوريا تقف وراء ما حصل. كذلك النائب وليد جنبلاط. يقول السيد: «أصبح جنبلاط مجنوناً آنذاك، وبعد اغتيال الحريري أصبح هو رأس الحربة ضدّ سوريا في لبنان. قناعتي لو أنّ جنبلاط هو مَن اغتيل، وبقي الحريري، لما طُبّق القرار الدولي 1559». رأيه، الذي جهد لإثباته، أنّ الحريري كان ضدّ ذلك القرار (الداعي إلى خروج القوات السوريّة مِن لبنان ونزع سلاح المليشيّات إلخ). وجودَه حيّاً كان يحول دون تطبيقه، وجنبلاط، الذي شهد في هذه المحكمة، قال بنفسه: إنّ الحريري كان ضدّ ذلك القرار الدولي.

إنّها إسرائيل

يلتفت جميل السيّد نحو القاضي، ويرفع سبابته، ثم يُشير إلى نصوص أمامه ويقرأ. تحدّث عن دخول مرحلة العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. ذكّر أنّ الوزير الإسرائيلي (وزير الحرب) عمير بيرتس قال آنذاك: «نحن نكمل تنفيذ القرار 1559 بالحرب». هل كان المجتمع الدولي يتوقع أنّ تُصبح هذه المحكمة، المُسماة «الخاصة بلبنان»، بمثابة «منصّة دوليّة» للجنرال جميل السيّد ليتّهم إسرائيل هكذا؟

منذ زمن لم يعد أحد يكترث، في لبنان، لما ستصدره هذه المحكمة مِن أحكَام. جاء في فصلها الأخير ضابط، مِن رموز الحقبة السوريّة في لبنان، ليشهد فيها وينجح في «سَبع» جميع مَن في القاعة. ليست هذه النهاية. يُحاول القاضي ديفيد ري، الذي يرأس الجلسة، أن يُخبر الشاهد بالطريقة التي عليه أن يُجيب بها على الأسئلة، فيأتيه الردّ: «أنت تسألني ولكن لي أنا طريقة الجواب، يا حضرة الرئيس»... ويُكمِل. يذكر السيّد تصريحاً لوزير الخارجيّة الإسرائيلي، سيلفان شالوم، مِن عام 2004 بعد صدور القرار الدولي إيّاه، يقول فيه: «نحن كنّا وراء قانون محاسبة سوريا والقرار 1559» (قرأ اقتباسات مِن التصريح نقلاً عن صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية).

هذه هي أسباب القرار 1559 ولا علاقة لشيء آخر في الداخل اللبناني

القضاة الخمسة يستمعون. فرضاً، إن كانت أوراق المحكمة خالية مِن هذه التصريحات، لسببٍ ما، فها هي الآن تدوّن رسميّاً. ويضيف الشاهد: «وقفت سوريا ضدّ الاجتياح الأميركي للعراق، وكانت تدعم المقاومة في لبنان وفلسطين، فلهذا عاقبت أميركا وإسرائيل سوريا. هذه هي أسباب القرار 1559 ولا علاقة لشيء آخر في الداخل اللبناني».

هنا، تسأل القاضية اللبنانيّة، ميشلين بريدي: «ألا يُمكن الحديث عن «لوبي» يشترك فيه لبنانيّون استفادت مِنه إسرائيل»؟. يُجيبها السيّد: «أنتِ لبنانيّة، وتعلمين أنّه مهما بلغ حجم اللبناني فإنّه لا يوثّر في قرارات الكونغرس الأميركي. اللبناني مجرّد ديكور في التطوّرات الدوليّة، كما تعلمين».

كنعان وغزالة وتويني

تحدثّ السيّد في مسائل كان أثارها سابقاً، مراراً، إنّما في شهادته أمس قدّمها بطريقة مختلفة، والأهم أنّه يقدّمها هذه المرّة في «المحكمة الدوليّة» كشهادة للتاريخ. لم يكن على ودّ مع غازي كنعان، ضابط الاستخبارات السوري الأقوى في لبنان قبل اغتيال الحريري بسنوات. كان السيّد بمثابة اليد اليمنى، آنذاك، لرئيس الجمهورية اللبنانيّة الأسبق إميل لحود. الأخير أوصل الأمر إلى الرئيس السوري بشّار الأسد. طلب الأسد مِن السيّد الحضور إليه، واجتمع به، فحلّت الأمور. غادر بعد مدّة كنعان لبنان وعاد السيّد إلى الأمن العام. سرد هذه التفاصيل لتتوضح للمحكمة، ولمحامي الدفاع، ملامح تلك المرحلة في لبنان. حلّ الضابط السوري رستم غزالة مكان كنعان. رآه السيّد ضعيف الشخصيّة مقارنة بسلفه. تحدّث عن «صوته المرتفع إنما الضعيف الشخصيّة مِن الداخل... كان أضعف مِن أنّ يصنع تشكيلة حكوميّة في لبنان». تحدّث عن تجاوزات كثيرة حصلت في تلك الحقبة. هذا أصلاً يصعب إنكاره. أسهب كثيراً، إلى أن ضاق القاضي ري ذرعاً بذلك. القاضي، الأسترالي، تحرّكت لديه في تلك الأثناء «نزعة العالم الأوّل» حيال غرابة هذه الأشياء التي تحدث «في العالم الثالث». لم يقلها حرفيّاً، إنّما سأل الشاهد: «ربّما أنا ساذج في العلاقات الدوليّة، لكن لا يبدو لي مِن الطبيعي أن يطلب رئيس دولة (الأسد) مِن مسؤول استخبارات في دولة جارة أن يأتي إليه لزيارته». الظاهر أنّ ريّ تعمد السذاجة هنا، لأنّه هو، نفسه، كان قال: «الفريق السوري كان مهيمناً في لبنان، هذا لا يُمكن أن ننفيه». إذاً، هو يعرف اللعبة (نوعاً ما). كان السيّد، في جلسة يوم أمس، أكثر ميلاً لترطيب الأجواء، وبثّ الطرائف، في ظلّ تجاوب القضاة معه، أكثر مِن اليوم السابق. هذا جعل القاضي ري يقول له، ممازحاً: «أنت طالب ممتاز».

في سياق آخر، وردّاً على سؤال، تحدّث الشاهد عن رئيس مجلس إدارة صحيفة النهار السابق، الراحل جبران تويني، وزيارته له وطلبه المساعدة في وجه الحريري. قال: «أخبرني تويني بالآتي: جاءني الحريري، شريكي في الصحيفة الذي (كان) يملك 33 في المئة مِن أسهمها، ويُريد زيادة رأس المال. هذا يعني، وأنا غير القادر على الزيادة مِن جهتي، أن تنقص حصتي في مقابل ارتفاع حصّته وبالتالي يستولي هو على الصحيفة». اتصل السيّد بأحد المتموّلين (رافضاً ذكر اسمه علناً مع عرضه أن يذكره للمحكمة بعد انتهاء الجلسة)، وهو مِن طائفة تويني نفسها (على حد قوله). طلب مِنه مساعدة تويني بالمبلغ الذي يحتاجه، وهو 700 ألف دولار، فذهب تويني إلى ذلك الشخص فأعطاه مليون دولار: «هنا اتصل بي تويني وقال ضاحكاً، ما هذا الشيء! لقد اعطاني شيكاً بمليون دولار». لم ينسَ السيّد أن يلفت نظر القضاة إلى أنّ تويني كان مِن خصوم سوريا فيما كان الحريري يومذاك مِن حلفائها.

عن مجزرة أيلول والمقاومة

أصرّ الشاهد، الذي يوصف مِن البعض بأنّه كان الحاكم الأمني للبنان قبل اغتيال الحريري، أنّ حزب الله لم يتصادم يوماً مع الحريري إلا مرّة عام 1993. قال إنّ الحزب كان يومها خارج الحكومة «بإرادته، وبالتنسيق معنا». في ذلك العام، وعلى وقع اتفاقيّة أوسلو، قرر الحزب أن يخرج بتظاهرة سلميّة احتجاجيّة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.

السيّد: الحريري كان إنسانيّاً والدماء تجري في شرايينه أمّا الآخرون ففي شرايينهم زيت سيّارات

قرّر رئيس الجمهوريّة آنذاك الياس الهرواي ورئيس الحكومة رفيق الحريري منع تلك التظاهرة. قال السيّد، وكان نائباً لمدير الاستخبارات، للهراوي إنّ علينا السماح بتلك التظاهرة، فرفض. في التفاصيل: «التبس الأمر على أحد ضبّاط الجيش، فأعطى أمراً باطلاق النار على المتظاهرين، فسقط قتلى وجرحى. طالب حزب الله باستقالة الحكومة، لا أكثر. الهراوي طلب مِن إميل لحود، الذي كان قائداً للجيش، معاقبة الضابط فرفض ذلك، وقال الأمر كان سياسيّاً وكنّا حذرنا مِن ذلك. حصل تدخّل مِن السوريين (...) وأقرّت التعويضات وانتهى الملف هنا». ردّاً على أسئلة، ذكّر الشاهد بدور الحريري الإيجابي تجاه مقاومة حزب الله عام 1993 وعام 1996 ودوره مع صديقه، الرئيس الفرنسي جاك شيراك، بالوصول إلى «اتفاق نيسان» الذي ثبّت حقّ المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

الأسد ورأس الحريري!

تلك الرواية، التي كرّر الشاهد مراراً أنّها لم تظهر إلا بعد اغتيال الحريري، التي تقول إنّ الرئيس السوري بشّار الأسد استدعى الحريري وطلب منه التمديد للحود وإلا «سوف أكسر لبنان على رأسك»... كانت مدار كلام مطوّل بين الشاهد وقضاة المحكمة. قناعة السيّد، الذي عرف بأمر الاجتماع مِن غزالة، أنّ هذا الكلام لم يصدر في الاجتماع من الأسد. هي قناعة، مصدرها ثقته بأنّ أشياء مثل هذه لا يمكن أن تحصل مِن غير معرفته بها، ومِن معرفته بأخلاق الأسد، والأهم أنّ الضابط اللصيق بالحريري، وسفيره إلى الآخرين، وسام الحسن لم يخبره بذلك (كان على تواصل دائم بالسيّد وكان الحريري يتصل به مِن هاتف الحسن الخلوي عندما يحتاج أن يخابره). القاضي ري يستغرب ثقة السيّد بأنّه «لا بدّ أن يعلم بذلك لو كان حصل ذلك». هنا ندخل في مساحة تحليليّة، شخصيّة، لا يُمكن معها الحديث عن معلومات موثّقة. حصل ذلك إثر خلاف شهير بين إميل لحود والحريري، على مسألة التمديد لولاية الأول في الرئاسة، والثاني كان يرفض ذلك. في النهاية حصل التمديد، وصوّت الحريري لمصلحة ذلك، بل جاء الحسن مِن قبل الحريري وأخبر السيّد باستعداده تشكيل الحكومة (كان يُريد حفظ لبنان). يقول: «كان الحريري يتّصل أحياناً بغزالة، فلا يجيب الأخير عليه، فيتصل بي ويخبرني بذلك، فأتصل أنا بغزالة وأقول له عيب هيك ما ترد الشخص عم يتصل فيك (في فقرة أخرى قال السيّد إن الحريري كان شخصاً إنسانيّاً، وذكّر بأنّه قال ذات مرة عنه في مقابلة إنّ في شرايين الحريري دماء، أمّا شرايين آخرين ففيها زيت سيّارات). ذات مرّة قال لي جنبلاط إنّه لولا وجودي لما كان بإمكاننا أن نتكلّم مع أحد. كنت أمثّل مرجعيّة حكيمة للذين لا يتّفقون مع سوريا». هنا يطلب السيّد، أثناء مراقبته لأكثر مِن شاشة أمامه، بأن يُصحَّح كلامه لأنّ الترجمة نقلته خطأ إلى المحضر. يُعجب القاضي ري بمراجعة الشاهد للترجمة، مبدياً استغرابه الإيجابي، فيُعلّق الشاهد: «أقاتل على كلّ الجبهات». يبتسم الجميع

لمؤخّرتي...!

بعد القطيعة بين لحود والحريري، وإذاعة الأخير بيانه الشهير بأن «استودع الله هذا البلد الحبيب...»، اتصل الحريري بالسيّد وقال له بحسب الشاهد: «هل كان في البيان ما يزعج سوريا؟ أجبته، أنت لم تأتِ على ذكرهم، ولكن أعتقد أن البيان سيزعج لحود، عندها قال لي كلمة لا أريد أن أقولها بالعربيّة، سأقولها بالإنكليزيّة لأنّها ألطف: for my ass». سُمِع في تلك اللحظة صوت ضحك في القاعة. كيف ستُترجم هذه! القاضي رأي سأل: «تقصدها بالعامية الإنكليزية أم البريطانية أم الاسترالية؟ أجاب: «أقصد الأقل تهذيباً». هنا يُمكن أن نساعد المحكمة والشاهد، إن كانوا يُريدونها بالفصحى القديمة، فيُمكن أن تكون: لإستي، مِن الإست، أو بالفصحى الأخف ثقلاً: لمؤخّرتي. المسألة محلّ نقاش، طبعاً، وليس معلوماً إن كان لمروان حمادة، مثلاً، فتوى في هذه المسألة المثارة في المحكمة الدوليّة.

أنتم تتموّلون مِن بلدي

سأل القاضي الإيطالي، نيكولا لتييري، النائب جميل السيّد عن تفاصيل في قضيّة محاولة تفجير السفارة الإيطاليّة في بيروت عام 2004. أجاب: «جاءني مساعد مدير الاستخبارات الإيطاليّة آنذاك ومعه صور التقطتها كاميرات السفارة، القريبة من مجلس النواب في بيروت، لمقاتلين يخططون لتفجير السفارة. دققنا وبحثنا في الأمر، فعرفنا هويّة أحمد سليم ميقاتي، وهو من تنظيم القاعدة، ووضعنا خطة لتوقيفه». تبيّن لاحقاً أنّ ميقاتي هو مِن ضمن «مجموعة الـ13» التي اعترفت، لاحقاً، باغتيال الحريري قبل أن تتراجع عن اعترافاتها. أوضح السيّد دور وسام الحسن في هذه المسألة، وكيف أنّه اجتمع مع الموقوف السعودي فيصل أكبر، الذي اعترف، قبل أن يغيّر أقواله. ذكّر بما أثير عام 2007 لناحية احتفاظ النائب العام لدى محكمة التمييز يومذاك، القاضي سعيد ميرزا، بهذا الملف في مكتبه مِن غير أن يوزّعه، قبل أن تعلم بأمره المحكمة الدوليّة عبر ما نشرته صحيفة «الأخبار» فاضطرت لتسأل ميرزا عنه. قال الشاهد: «لا يمكنني أن أتكهّن إن كان هذا الملف، موضوع ميقاتي ومحاولة تفجير السفارة الإيطالية، على صلة باغتيال الحريري». شعر القاضي بارتباك في فهم كلام الشاهد، خاصة لناحية سؤاله عن مسائل حصلت بعد اعتقال السيّد، فذكّره الأخير بذلك، عندها قال القاضي: «فهمت، لا شيء سهلا في هذه الحياة». في نهاية اليوم، تمنّى القاضي ري على الشاهد أن يبقى إلى ما بعد يوم الجمعة، لسماعه أكثر، وأنّ تكلفة السفر ستكون على حساب المحكمة. السيّد مرتبط بمواعيد في لبنان، ولا بدّ من أن يعود يوم الجمعة، فاعتذر عن ذلك وقال للقاضي: «أنا جئت إلى هنا على نفقتي الشخصيّة، ونزلت في الفندق على نفقتي، وعموماً حسابكم هو نصف حسابي باعتبار أنّكم تتموّلون (رواتبكم) مِن بلدي».

تعليقات: