يمنية في بيروت: “جايبلي سلام”

يمنية في بيروت: جايبلي سلام
يمنية في بيروت: جايبلي سلام


لكل إنسان نقطة تحول في حياته، بالنسبة إلي، لبنان، وتحديداً بيروت كانت المدينة التي غيرت حياتي وأفكاري ونظرتي إلى العالم. قد تكون بيروت مرتبطة في أذهان العرب بالسهرات الليلية، ويُعتَقد أن شارع الحمراء، شارع “الفسق والعهر”، وتُفسّر الحريات بأنها انحراف عن الأخلاقيات، وهذا ما كنت أنا ايضاً أعتقده قبل زيارتي بيروت وإقامتي فيها تسع سنوات كاملة. في هذه السلسلة من المقالات، سأحكي في كل مرة عن معتقد خاطئ كنت أؤمن به وبدّدته بيروت، مانحةً إياي فكراً جديداً حراً، بث فيّ شيئاً من السعادة وساهم في نجاحي لاحقاً.

جايبلي سلام عصفور الجناين جاييلي سلام من عند الحبايب…

فيما كنتُ واققةً أمام الأرجوحة أشاهد الأطفال أمامي يلعبون في مقهى يطل على صخرة الروشة وصوت فيروز من بعيد وهي تغني… ورائحة المنقوشة… أسرح بخيالي وأفكر بالـ”حبايب”، ولكنني لا أجد أي شخص يستحق التفكير، لقد تركت كل ذكرياتي العاطفية ورحلت مع أهلي إلى لبنان.

عدلت الطرحة على رأسي وانتبهت إلى طفلين أمامي؛ فتاة بعيون واسعة واثقة تقول للطفل “أنت تلعب مرة وأنا مرة”. فيرد الطفل الذي يبدو عليه الوقار وكأنه في الأربعين من عمره “نعم أنت تبدئين”، فتجلس الطفلة على الأرجوحة ويقوم الطفل بكل لطف بهز الأرجوحة ليساعدها على اللعب… ثم تقول له الفتاة بثقة “غني لي…”.

وأنا فاغرة فاهي وأتأملهما بانبهار وأرجع بذاكرتي إلى الوراء… الوراء… الوراء، إلى طفولتي والمشاهد القديمة حيث كنت ألعب مع أقاربي الصبيان وابنة خالتي. وحين كنا نقترب من الصبيان، كانوا يرددون جملتهم الشهيرة: “نحن لا نلعب مع الفتيات”.

كانوا يخجلون من إظهار أي “حنية”، فالأخيرة تعني أن الرجل ليس رجلاً، وأنه أهبل… يا لحسن حظ هذه الفتاة هي تشعر بأنها تستحق الاهتمام وأن من الطبيعي أن يغني لها طفل من عمرها!

توقف الطفل عن الغناء وقال “الآن جاء دوري”، فنزلت الفتاة ولكنها لم تكن راضية، وكانت تنظر إلى الطفل بحسرة وهو يلعب، ومن رقة قلب هذا الطفل قرر أن ينزل بعد دقائق قليلة ويقول لها “بإمكانك أن تلعبي الآن”.

قطع تركيزي صوت مجموعة من الشباب والشابات المراهقين وهم يضحكون ويتسابقون بدراجاتهم… شعرت بحسرة وتذكرت أنني لم أركب الدراجة منذ سنوات طويلة، تحديداً آخر مرة كانت وأنا في سن الحادية عشرة، عندما كنا نلعب في “حوش” البيت، ثم جاء الوقت الذي حرمنا فيه من اللعب مع الصبيان، أو حتى مقابلتهم.

أصبحنا نحن فتيات العائلة نختبئ بمجرد أن نسمع أصوات الصبيان، لقد تغير صوتهم قليلاً، لم يكن خشناً مثل الرجال، ولكنه ذلك الصوت المهزوز الذي يدل على أن الصبي وصل إلى سن البلوغ، وهي المرحلة التي فصلنا فيها عن بعضنا وأصبحنا أغراب.

كنت أراقبهم من شباك بيت خالتي، حياتهم لم تتغير كثيراً مثل حياتنا نحن الفتيات، عدا عن أنهم أخذوا قدراً أكبر من الحرية.

الرقص كان رياضتنا الوحيدة…

لأنهم صبيان ما زالوا يلعبون بالطابة ويركبون الدراجة وأنا وابنة خالتي نحتسي الشاي بالحليب ونتفرج على مسلسلات مكسيكية وكأننا في الخمسين من عمرنا.

وبعد مرور سنوات اعتدت على فكرة أنني كفتاة يجب أن أجلس معظم الوقت في البيت، ونسيت أبناء العائلة ونسيت اللعب بالطابة أو الدراجة واكتفينا بالانتقال إلى زيارة الصديقات من بيت إلى آخر، هذه كانت متعتنا.

وعلى رغم أنها متعة بسيطة، إلا أنني كنت وقتها أشعر بالسعادة عندما أجلس مع صديقاتي وأحتسي الشاي بالحليب ثم نقوم ونرقص على كل الأغاني الجميلة …

الرقص كان رياضتنا الوحيدة…

نظرت مرة أخرى إلى الطفلين، ما زالا يلعبان، بالتأكيد ستستمر صداقتهما لوقت طويل…

ثم عاد صوت فيروز:

“قللي عالرماني غطيت وحكاني

وبعيونو الدبلاني شفت الهوى باين”.

* المصدر: daraj

تعليقات: