ليالي بيروت: مشاغبون لا أحد يتبنّاهم ومواطنون يشرحون هواجسهم

انتشار أمني إثر الاشكالات المتنقلة
انتشار أمني إثر الاشكالات المتنقلة


كان ينقص المشهد السياسي ان تتحول ليالي بيروت المظلمة، عمليات كر وفر بين مشاغبين ترفض اي جهة تبنيهم. "مشاغبون" هبطوا فجأة من السماء. ليس مهما ان يتبناهم اي تنظيم او تيار او حركة سياسية ما دامت هويتهم الطائفية واضحة للعيان. ولكن لمزيد من الحرص، وخصوصا في ظل وضع دقيق لا يحتمل اي اجتهادات او اتهامات غير مثبتة ، يمكن اعتماد مبدأ الغاء الاحتمالات الذي يلجأ اليه الاطباء حين يعجزون عن تشخيص المرض، وذلك لدحض الشك باليقين بهدف تحديد هوية المتعاركين. فالعراك لا يجري بين ابناء الطائفة الشيعية، إذ يفترض عندها ان تندلع شرارته في الضاحية الجنوبية او ان تمتد الى شوارعها، كما انه لا يجري حكما بين ابناء الطائفة السنية والا لما اقتصرت دائرته على احياء بيروت المختلطة ، ولا هو بين المسيحيين والمسلمين لان لا حضورا فعليا للعائلات المسيحية في هذه المناطق، اما الدروز فموجودون في الجبل مع امتداد محصور في منطقة المصيطبة التي لم تطلها العصي والحجارة في المناوشات الاخيرة المتنقلة في اكثر من حي بيروتي. انه خلاف سني – شيعي اذا. حقيقة يصعب نكرانها او تجاهلها او حتى تلطيفها وتجميلها.

مشاغبون من مذهبين مختلفين تعاركوا لأسباب قلما يؤثر تحديدها في سير الاحداث. لان ليس المهم اسباب الاشكال، بل الغاية المتوخاة منه. والمفارقة ان كل التحذيرات من الانزلاق الى حرب مذهبية، وكل التأكيدات ان احدا لن ينجح في استدراج اللبنانيين الى خوض غمار هذه التجربة المدمرة، كل هذا تبخّر مع أول عراك على تعليق صورة الذي قد يتخذ في المرة المقبلة خلافا على نوع السجائر الاكثر ضررا للصحة!

المشاغبون

كأن شدة التحذيرات أعطت نتائج عكسية، فرأى فيها "المشاغبون" نوعا من التحريض! انها مشكلة "المشاغبين" اذا، ولا احد سواهم. و يبقى تنصل الاطراف السياسيين من مسؤولية ما جرى اهون الشرين، اذ انه من مصلحة الامن القومي اعتبار ما جرى من فعل مخلوقات غريبة الاطوار ودخيلة على النسيج اللبناني المتآلف والمتعايش الى اقصى الحدود. ولكن، استطرادا، كيف يتنصل الاطراف السياسيون تباعا من حوادث الشغب التي عكرت صفو المجتمع الاهلي، ثم لا يلبث ممثلو هذه الاطراف ان يعقدوا اجتماعهم الاول في اليرزة ويتوافقوا على "تهدئة النفوس المحتقنة والتخفيف ما امكن من الاجواء المحمومة"؟

تنصل ثم تبنّ غير مباشر للحوادث يشبه في تناقضه مقولة العيش المشترك التي يمكن لخلافٍ على احقية المرور ان يخلخل اسسها. ما اشبه اليوم بالامس، وليست اشارة المجتمعين الى عدم الرغبة في العودة الى "لجان التنسيق" على غرار ما كان يحصل في الحرب الغابرة، الا توكيدا ان البلاد تسير مجددا على هذا الدرب.

... والمواطنون العاديون

لا يبدو المشهد على المستوى الشعبي اقل تناقضا. فمع كل حادث، مهما بدا بسيطاً او معقدا، عابرا او مفتعلا، تهرع وسائل الاعلام الى مكان الحدث وتبدأ باستصراح اهالي المنطقة المنكوبة التي تعرف عنهم بوصفهم مواطنين عاديين. فهؤلاء هم غير اولئك. وهذا بديهي، فإذا كان اولئك مخلوقات انزلت بمظلات هوائية لافتعال ما افتعلته، فلا بد ان يكون هؤلاء "مواطنين عاديين". يدرجهم الاعلام في خانات المواطنية التي استحدثها، وهم يغتبطون لذلك، علما انهم لا يلتزمون شروط الصفة التي منحت لهم. فاذا بامرأة من المصنفات في خانة المواطنات العاديات تطلق تصريحا غير عادي، فتقول" شو بدن؟ بدن رجال عنا رجال، وبدن يعملوا مشاكل عنا مين يعمل مشاكل". لم يلغ هذا التصريح الناري صفة المواطنة العادية عن هذه المرأة ربما لانها لم تكن مزودة بعصا وبضعة حجارة تكتسب بواسطتها صفة أخرى!

فتاة أخرى تقول كلاما لا يقل خطورة في تعريض لقب "المواطنة العادية" للخطر، وان بدت اكثر ديبلوماسية من الاولى " استقبلناهم وعاشوا في احيائنا وبيننا، لماذا يريدون ان يخلفونا اليوم، لن ينجحوا، لاننا كلنا لبنانيون ونحب لبنان"! انقذتها العبارة الاخيرة من خسارتها للقب المواطنة العادية المقدس، وانتقالها الى خانة المشاغبين، اعداء الوطن والمواطنيين العاديين.

انه حب الوطن الجامح ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يخلص المواطنيين العاديين من فكرة " انتم، ونحن، وهم..." مرفقا بتذكير منفر للتعايش الذي يتولاه مواطنون غير عاديون، واشهر من ان يعرفوا، انهم مواطنو الطبقة السياسية الكريمة!

ولأن الشيء بالشيء يذكر، ما هو الفرق بين المواطنين العاديين واولئك المشاغبين الذين هبطوا فجأة وافتعلوا الاشكالات في احياء بيروت مهددين "نعمة التعايش"؟!

قد لا يحتاج تحديد الفروق لاكثر من جولة مسائية في العاصمة التي باتت تترقب اعتبارا من الساعة السابعة مساء انطلاق مسلسل الاشتباكات المتنقلة بين الاحياء البيروتية. الحادث الاول قبل بضعة ايام اعتبروه عرضيا، فلم يعيروا اهتماما جديا للتحسب لحركتهم الليلية وخصوصا ان وجود حواجز كثيفة للجيش والقوى الامنية منحهم شعورا بالطمأنية. ولكن الحوادث تكررت، وفي كل مرة مع اضافة نوعية شملت توسع المناطق التي طالها العراك بالعصي والحجارة والاستعانة بسكاكين المطبخ اذا دعت الحاجة، من دون استبعاد السلاح طبعا. لذا، اصبحت الحيطة واجبا. والنتيجة، لا تجول مساء في منطقة رأس بيروت تحديدا لأن خطة "المشاغبين" غير معلنة، كما ان إطار تحركهم غير محدد. واذا كانت المناطق المختلطة بين السنة والشيعة هي الدائرة الواقعة تحت خطر المناوشات، فهذا يعني ان اتساع الدائرة مفتوح على كل احياء الشق الغربي من العاصمة وزواريبه وشوارعه، علما ان المناطق التي سبق ان شهدت المناوشات هي احد ابرز شرايين بيروت الحيوية.

فبشارة الخوري ليست طريقا فرعية، وكورنيش المزرعة ليس زاروبا. ويصعب على المواطنين القاطنين في الجزء الشرقي من غرب العاصمة وصولا الى الضاحية الجنوبية ان يتجنبوا سلوك احد هذين الخطين في تنقلاتهم. فكيف الحال اذا اندلعت الاشتباكات في هذين الخطين وصولا الى منطقة البرير ومحيطها من ناحية كورنيش المزرعة، او الى البسطة من ناحية بشارة الخوري؟ فهذا يعني ان لا خيار امامهم سوى التنقل بواسطة الهليكوبتر... والا فالمغامرة التي لا يبدو ان الراغبين في خوضها كثر. اذا، الانكفاء الى البيوت باكرا قبل الموعد المتوقع لوقوع اشكال على ازالة صورة او تعليقها. وفي المناسبة، لماذا لا تصدر وزارة الداخلية قرارا تمنع بموجبه تعليق الصور في لبنان بما فيها صور الفنانين والمطربين، وتطالب بازالة كل الصور المعلقة. واذا كان القرار غير كاف لنزع بذور الخلافات، فانه مفيد بيئيا على الاقل!

في اي حال، جاءت حوادث ليلة السبت لتؤكد هواجس المواطنين وفرض حظر تجول ذاتي على تحركاتهم الليلية. فعلى رغم ان الجيش كثف حواجزه المتنقلة في اكثر النقاط حساسية، فان ذلك لم ينجح في منع اندلاع الاشتباكات مجددا لتستمر بضع ساعات قبل ان يتم حصرها بشكل نهائي.

كان كل شيء هادئا في بداية الليل. ومع ان الليالي التي سبقت كانت حامية نسبيا، غير ان المواطنين قرروا الخروج للسهر كما اعتادوا ان يفعلوا في عطلة نهاية الاسبوع. الذين خرجوا قبل الساعة العاشرة، علقوا حيث هم وامضوا سهرتهم يتابعون عمليات الكر والفر عبر شاشات التلفزة التي باتت عمليا متوافرة في معظم المطاعم والمقاهي نظرا الى ظروف الامنية التي تتدهور منذ ثلاثة اعوام لاسباب مختلفة وباشكال شتى. اما الذين كانوا يستعدون للخروج، فمكثوا في بيوتهم على امل ان ينتهي الاشكال بالسرعة التي تنقذ ما تبقى من سهرتهم الموعودة. ولكن عبثا، فكل الانباء الورادة كانت تشير الى اتساع دائرة الاشتباكات.

انتهى الحادث، ليل السبت بحصيلة مرتفعة من الجرحى والاضرار المادية البالغة. وجاء ليل الاحد لتتجدد الاشتباكات في الموعد عينه الذي يكاد يتحول موعدا ثابتا. والحل؟ لا حل سوى الانكفاء باكرا الى البيوت. اذ لا رغبة لاي عابر سبيل في ان يقتل بحجر طائش او ربما رصاصة، او ان تنهال عليه العصي، ليس لسبب الا لانه صودف مروره في نقطة الاشتباكات لحظة كان "المشاغبون" يجسدون نعمة التعايش في ابهى حللها.

اجتمع الاخوة الاعداء، وبدلا من ان تثير هذه الخطوة ارتياحا في صفوف المواطنين، اصابتهم بالذعر. ولا حاجة للتبحر في اسباب ذلك. ولكن اذا نجحت هذه الخطوة في ان تحدد الفروق بين المشاغبين والمواطنين العاديين الذين لا فرق بينهم عمليا، واذا اعترف الافرقاء بان المشاغبين لم يهبطوا من السماء، عندها فقط يمكن القول ان حل المشاكل ممكن... ولكن ليس حتميا!

تعليقات: