من الذي يقتل الجنود الأميركيّين في العراق؟


قبل بضع سنوات، شاهدت إعلاناً تلفزيونيّاً ترويجياً لإحدى الصحف البريطانية. في اللقطة الأولى ظهر وجه شاب لاهث يركض متلفّتاً إلى الوراء، ثم في اللقطة الثانية وجه شرطي يحاول اللحاق به، ما ترك انطباعاً سريعاً، بأنّ الشاب مجرم هارب، والشرطي يلاحقه لإلقاء القبض عليه. إلى أن تلتقط الكاميرا الصورة الأكبر، فيتبين أن الشاب والشرطي يركضان باتجاه واحد وهما يحاولان إنقاذ امرأة سقطت على الأرض. وكان موجز الرسالة المتوخّاة من الإعلان الترويجي هو أنّ الصحيفة المعنية تقدّم للقارئ، في نقلها للأخبار والأحداث، الصورة الحقيقية، بلا تجزئة، وبكامل أبعادها.

تذكّرت هذا الإعلان وأنا أتابع تغطية الصحافة والفضائيات الناطقة بالعربية لما يجري في العراق المحتل، وكيفية تقديم صورة جندي الاحتلال من خلال العمليات العسكرية اليومية، المستهدفة لأبناء الشعب منه هو أو المستهدفة لوجوده. وكم تبدو الوقائع مضبّبة، غامضة الملامح، مجزّأة وملتبسة. سواء كان الغموض تضليلاً متعمّداً أو محض سذاجة أو قلّة كادر وعدم وعي بأهمية الدور الإعلامي، وخاصة مع التوسّع السريع لبعض الصحف والفضائيات.

سأتناول هنا، لكي لا نضيع في العموميات ونضيف إلى الغموض غموضاً، مثالاً محدّداً، هو كيفية نقل الصحافة والفضائيات العربية والأجنبية للعمليات العسكرية المستهدفة لقوّات الاحتلال الإنغلو ـــــ أميركي، وما ينتج منها من قتلى وجرحى في صفوف المحتلّ. ولست بحاجة إلى التذكير بأن العراق بلد محتل، لا بمفهوم العراقيين المناهضين للاحتلال فحسب، بل باعتراف معظم الشعب الأميركي وقيادته وغالبية أعضاء الكونغرس.

وسأبدأ بكيفية تعامل الأجهزة الإعلامية المختلفة مع خبر العملية الناجحة التي شنّتها المقاومة العراقية الباسلة على العدو، وأدّت إلى قتل خمسة من جنوده، بتاريخ 28 كانون الثاني 2008، حيث قامت القناة الإخبارية الأميركية «سي أن أن» بتقديم الخبر كالآتي: «أعلن الجيش الأميركي الاثنين مقتل خمسة من جنوده في العراق. وقال بيان عسكري أميركي إنّ لغماً أرضياً انفجر عند مرور دورية للجيش في محافظة نينوى شمال العراق، ما أدّى إلى مصرع خمسة جنود».

وأضاف أنّه «بعد إصابة السيارة بالقنبلة، فتح مسلّحون النار على الدورية من مسجد قريب». وقالت المتحدّثة باسم الجيش إنّ «المسلحين يريدون استخدام مكاناً للعبادة لشنّ هجمات على

جنودنا».

وتأتي تغطية الخبر متطابقة مع سياسة القناة الداعمة للغزو والاحتلال، وحريصة على حياة الجنود الأميركيّين، لذلك ليس مستغرباً وصف المقاومة بأنّها «مسلّحون»، وتقديم العملية باعتبارها تدنيساً لأماكن العبادة التي تدعي المتحدّثة باسم جيش العدو حرصها عليها، كما تقدّم تصريحها بلهجة تغريب «المسلّحين» الذين هاجموا «جنودنا».

وقد نقلت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» خبر مقتل جنود الاحتلال في اليوم التالي، بطريقة حيادية، لأنّهم ليسوا بريطانيّين، وكما يلي: « قال الجيش الأميركي في العراق إنّ خمسة من جنوده قد قُتلوا في انفجارين منفصلين بعبوات ناسفة زُرعت على جانب الطريق». ثمّ انتقل كاتب الخبر إلى تحليل موقف «جيش المهدي»، وهو موقف يتماشى مع سياسة الحكومة البريطانية حيث بقية قواتها الموجودة في جنوب العراق التي تمكّنت من إجراء صفقة مع «جيش المهدي» لانسحابها بأمان مقابل إطلاق سراح عدّة عشرات من الجيش.

إلى هنا وكيفية نقل أجهزة الإعلام الغربية للخبر مفهومة، لأنها تطابق ما بين سياسة البلد المحتلّ وجهاز إعلامه، وإن ادّعت غير ذلك نظرياً. فما هو حال أجهزة الاعلام العربية؟ وكيف نقلت الخبر عينه؟ سأقدّم بعض النماذج: نشر موقع «إيلاف»، أوّل جريدة يومية إلكترونية، النص الذي نشرته الـ«بي بي سي» العربية كما هو. بينما نشرت قناة «الشرقية» العراقية الفضائية الترجمة العربية لتقرير وكالة أنباء رويترز وبدأته: «قال الجيش الأميركي اليوم السبت إنّ خمسة جنود أميركيين قُتلوا في انفجار قنبلتين مزروعتين على الطريق في العراق أمس الجمعة، في الوقت الذي تشهد فيه بعض الأجزاء من بغداد زيادة في الهجمات. وقال الجيش الأميركي في بيان إنّ في الهجوم الأعنف، قتل أربعة جنود في انفجار قنبلة مزروعة على الطريق أثناء قيامهم بدورية شمال غربي العاصمة العراقية بغداد». ويستطرد التقرير في نقل آراء القيادة الأميركية في توزيع التهم والتبريرات يميناً ويساراً، حيث «يقول قادة أميركيون إنّ تنظيم القاعدة في العراق هو أكبر تهديد للأمن، في حين تجاهل بعض أعضاء جيش المهدي المارقين وقف إطلاق النار المعلن»، وإن إيران «ما زالت منخرطة بشكل مدمّر من حيث توفير التدريب والعتاد لأكثر القوى راديكالية وعنفاً في العراق. والهجمات التي تنفّذها تلك الجماعات مستمرّة». لينتهي التقرير، كما نشرته «الشرقية» على موقعها، بنقل تهديدات قيادة الاحتلال العسكرية إلى «الجماعات المارقة»، بدون مساءلة أو تفحص أو نقد. والمعروف أنّ الشرقية تبثّ برامجها من خارج العراق، ما يجعلها، افتراضاً، بمأمن من الرقابة والسيطرة الحكومية والحزبية وتهديدات الميليشيات المهيمنة على أجهزة الإعلام داخل العراق.

ونقلت قناة «الجزيرة» الخبر على موقعها الأخباري كالآتي: «لقي خمسة جنود أميركيّين حتفهم في هجومين منفصلين وقعا أمس الجمعة، وفقاً لبيانين صادرين عن الجيش الأميركي. وقالت القوات الأميركية بالعراق في بيانها الأول إنّ أربعة عسكريين لقوا مصرعهم بانفجار لغم بالمركبة التي كانوا على متنها، ودمّرها في حي شمال غرب العاصمة بغداد. وأدى انفجار قنبلة بمركبة عسكرية أميركية شمال بغداد إلى مقتل عسكري خامس». وكأن زرع الألغام المستهدفة لجنود أكبر قوّة عسكرية في العالم من أبناء البلد المحتل عملية تتمّ بشكل طبيعي مثل هطول الأمطار وارتفاع درجة الحرارة.

ويمكن اعتبار نقل صحيفة «الزمان»، العراقية بطبعتها الدولية، لخبر مقتل ثلاثة جنود أميركيّين، بتاريخ 23 كانون الثاني 2007، درساً كلاسيكياً في النقل الإعلامي المبهم، ولن أقول الموضوعي أو المحايد للاختلاف الواضح في المعنى.

يقول الخبر: «وحول عملية الذئب في الأعظمية، قال بيان للجيش الأميركي إنّ جنوداً من فرقة المشاة الأميركية الثانية بالتعاون مع جنود الفرقة السادسة في الجيش العراقي نفذوا هذه العملية، موضحاً أنّها تشمل منطقة الأعظمية في شمالي بغداد. وأعلن الجيش الأميركي مقتل ثلاثة من جنوده في هجمات منفصلة في جنوب بغداد والأنبار الاثنين والأحد». فما الذي يفهمه القارئ من هذه الفقرة الأخبارية؟ إنّ طريقة نقل الخبر، وحسب لغة القيادة العسكرية للاحتلال، تترك لدينا الانطباع بأنّ وجود «القوات العسكرية الأميركية» مسألة لا تتطلّب الاستنكار أو تسميتها باسمها الحقيقي أي كقوّات احتلال، وأنّ قيامها بالعمليات العسكرية في وطننا مسألة لا غرابة فيها، وأنّ منطقة الأعظمية التي تجري فيها عملية «الذئب» قد تكون أرضاً جرداء أو يقطنها ناس بلا أسماء أو وجوه أو هويّة.

كما يتبيّن من رصد عمل بعض الصحف والفضائيات العربية أن معظم التغطية الأخبارية تكون من طريق النقل الحرفي ترجمةً إمّا من تصريحات الناطق العسكري لقوات الاحتلال في العراق وبياناته، أو ترجمة حرفية للخبر كما تنقله وكالات الأنباء العالمية المستندة، غالباً، إلى تصريحات الناطق العسكري الأميركي أو في أحسن الأحوال، تجميعاً لحفنة أخبار من عدد من الوكالات، مع محاولة إضافة بضع كلمات من المترجم ـــــ الصحافي ـــــ وبحذر يماثل حذر السائر في حقل ألغام مخافة أن يدوس بقلمه على الكلمة الخطأ فيتعرض للطرد وينقطع رزقه.

ويبدو للراصد أنّ مفهومي الموضوعية والحيادية في نقل الأخبار إمّا غير واضحين لدى موجهي القنوات ومدراء تحرير الصحف، أو أنهما واضحان إلى حدّ إتقان لعبة الادعاء والتظاهر بدون التطبيق. ولا شكّ أن أوّل ما يسترعي انتباه المشاهد أو القارئ هو أنّ معظمها مسوَّر بجدار يجعل من لفظ كلمة «شهيد» أو جملة «قامت المقاومة العراقية بعمليات ناجحة ضدّ الاحتلال الإنغلو ـــــ أميركي ـــــ الصهيوني للعراق» واحداً من المحرّمات. وكأن حياة شهداء المقاومة العراقية وتضحياتهم الغالية لا تستحق الذكر خبراً أو تقريراً. أو كأنّ عمليات المقاومة العراقية ودفاعها عن الوطن والكرامة وعزة النفس أمور يجب ألّا تُذكر، ما يترك متابع الصحف والفضائيات الأخبارية العربية أمام أخبار مجزّأة، ملتبسة، توحي بالتعتيم وتدفع المشاهد إلى تساؤل مشروع وهو: لماذا وكيف بالضبط يلقى جنود الاحتلال حتفهم في العراق إذن؟

ليس من الواقعية بشيء أن نأمل بأن يتّخذ العاملون في أجهزة الإعلام العربية الرسمية والشبه رسمية في زمننا هذا موقف المقاومة والممانعة الصريح الذي نتوقعه من المثقّفين والمفكّرين الوطنيّين الذن لا يعتمدون على أجورهم من تلك الجهات. ولكن ثمة بين المقاومة والممانعة من جهة، والتبعية والانخراط في الإعلام الكولونيالي من جهة أخرى، مجالات مهنية كثيرة يحقّ لنا مطالبة الإعلاميين بها. هناك واجب التحقق من صحّة الخبر من أكثر من مصدر، وذكر الفروق بين الروايات كحال كلّ من ينقل الأخبار بأمانة. هنالك أيضاً تمييز أهمية الخبر في خضم الأخبار العديدة الأخرى، وإلّا صار تقديمها جزءاً من التعتيم على ما هو جوهري وما هو محرك للأحداث. إنّ استمرار تفجير الدروع الأميركية في العراق بعد الموجة الثالثة من تحديثها التي كلّفت الولايات المتحدة سبعة مليارات دولار، ليس بمنزلة أخبار نزلاء المنطقة الخضراء المذعورين، لأنه شاهد على نوع آخر من توازن القوى في العالم، بمثابة سباق تسلّح غير متناسق الجانبين. وأين في العالم، الذي تتصوّر الولايات المتحدة أنها تحكمه اليوم، يسقط جنودها وضباطها برصاص القناصة؟ بل يستمرّ ذلك لخمس سنوات قامت فيها بحشد آخر تكنولوجيا الأقمار الصناعية والطائرات بلا طيار القادرة على التصوير والقصف والمناورة، وعشرات آلاف الكاميرات واللاقطات في الزوايا والمباني العالية، مدمجة بغرف عمليات طويلة وعريضة؟ وكيف تستطيع مقاومة معزولة ليس لها أرض محرّرة ولا ظهير ولا قوة سياسية دولية تدعمها أن تستنزف سنة بعد أخرى القوة الأعظم، لتحيلها إلى جيش لأكبر عدد من المرضى والمقعدين؟ أليست هذه هي القصة الحقيقية لمقتل الجندي الأميركي الواحد ولماذا المشاركة في الضباب الإعلامي، لإبقاء ورقة التوت الأخيرة لاحتلال

بلادنا؟

* كاتبة وصحافية عراقية

تعليقات: