بيار أبي صعب: #أنا_جورج_عبدالله

جورج إبراهيم عبدالله قابع في السجن منذ 34 عاماً، في بلد حقوق الإنسان، ضدّ مبدأ القانون
جورج إبراهيم عبدالله قابع في السجن منذ 34 عاماً، في بلد حقوق الإنسان، ضدّ مبدأ القانون


بالنسبة لجيلي، يُعتبر جورج إبراهيم عبدالله (القبيات، لبنان، 1951)، نزيل سجن «لنموزان» الفرنسي تحت رقم 2388/أ221، أكثر من أيقونة، وأكثر من رمز. رفيقنا، القابع في السجن منذ 34 عاماً، في بلد حقوق الإنسان، ضدّ مبدأ القانون، والخاضع، كما يشير نداء لإطلاق سراحه صادر عن «جمعيّة التضامن الفرنسيّ الفلسطينيّ»، لـ «نظام احتجاز اعتباطيّ بالكامل»، هو بكلّ بساطة بطلّ قوميّ !

يغيب ذلك دائما بشكل واضح عن «العقل الأبيض»، بتعبير حوريّة بوتلجة، رئيسة جمعيّة «مستعمرو الجمهوريّة»، في كتابها المتفجّر «البيض، واليهود ونحن» («منشورات لافابريك» - باريس، 2016). جورج عبد الله ليس إلا ارهابيّاً في الخطاب المهيمن ! وكما ذكّر مراراً جاك فيرجيس، محامي عبد الله إلى حين وفاته عام 2013، فإن السطات المهيمنة وقوى الاحتلال والقمع، طالما صنّفت المعارضين لها والمقاومين الذين يتصدون لها كـ «إرهابيّين»! وزعيم السابق لـ «الألوية الثوريّة اللبنانيّة» FARL لا يشذّ عن القاعدة: إنّه مناضل تشكّل وعيه السياسيّ تحت الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان، ومناضل ثوريّ أمميّ يحارب في سبيل القضيّة العربيّة، وبوصلته كانت على االدوام فلسطين.

الاستراتيجيّة الثوريّة في السبعينيات والثمانينيات كانت تقضي بـ «ضرب العدوّ وجد». وفي تلك المناخات، تبنّت «الألويةالثوريّة» اغتيال تشارلز راي، الملحق العسكريّ الأميركيّ في باريس، والعميل الإسرائيليّ يعقوب بارسيمنتوف، ولم تنجح في تصفية بليغة لروبرت أوم، القنصل الأميركيّ في ستراسبورغ الذين أصيب حينذاك بجراح بالغة. نتحدّث هنا عن تلك حقبة التي شهدت قيام «الموساد» باغتيال عشرات المثقفين والمناضلين السياسيّين، من فلسطينيّين وعرب، نذكو بينهم على سبيل المثال: محمود الهمشري وماجد أبو شرار و(لاحقاً) عاطف بسيسو.

اليوم، لم تعد استراتيجيات المعركة كما كانت على الأرجح، لكنّ الصراع ثابت ضدّ الهيمنة الاستعماريّة، ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ الذي تضاعفت همجيّته منذ ذلك الحين. وبفضل التزامه السياسيّ ووضوحه ورفضه أي مساومة، يمثّل جورج عبدالله بالنسبة إلى الأجيال الجديدة من المناضلين على امتداد العالم العربيّ، من تونس إلى فلسطين، مرورا بفرنسا بالطبع، الصراع ضدّ الهيمنة، ومن أجل تحرير فلسطين وتحرّر الشعوب العربيّة، أكثر من أيّ وقت مضى.

حين اعتقل جورج يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1984 في مدينة ليون، كانت تهمته الوحيدة حيازة وثائق مزوّرة. لكن بعد ثلاثة أعوام، حُكم عليه ظلماً بالسجن المؤبد، بتهمة المشاركة في عملية اغتيال. وعلى الرغم من انتهاء مدّة محكوميّته منذ العام 1999، فقد رُفضت جميع الطلبات التي رفعها لإخلاء سبيله، وعددها تسع. في العام 2013، كانت بيروت بيروت تستعد لاستقباله استقبال الأبطال، بعدما حكمت غرفة تطبيق العقوبات بباريس لصالح تسريحه، بشرط ترحيله خارج البلاد. لكنّ حكومة لوران فابيوس استسلمت يومذاك لضغوطات الولايات المتحدة. ونذكر هنا جملة فتاكة لجاك فيرجيس: «سلوك العدالة الفرنسيّة يجعل منها مومساً لأميركا». قبل عام من تاريخه، كان إيف بونيه الذي قاد الاستخبارات الفرنسيّة بين 1982 و1985، قد تحدّث عن «السلوك الثائري البائس للدولة». وأى أنّه يحق لجورج عبدالله «تبني انجازات الألوية الثوريّة اللبنانيّة، ووضعها تحت راية الفعل المقاوم» في سياق الحرب الدائرة حينها.

اليوم، بعد 34 عاماً، صار جورج إبراهيم عبد الله عميد السجناء السياسيّين في أوروبا، لكنّه، على وجه الخصوص رهينة الجمهوريّة الفرنسيّة. جمهوريّة استعماريّة تغلّب مصالحها الاستراتيجيّة على القيم التي قامت عليها! بمعنى آخر، يخضع جورج عبدالله لـ «اجراءات استثنائيّة». كنا نظنّ أن ديمقراطيّة كبرى لا تعرف «حالات الاستثناء»، خصوصاً فرنسا التي لا تتوقف عن تلقين العالم دروساً في الإنسانيّة... لكن، في الواقع،، ما تزال فرنسا الاستعماريّة هنا، تتعامل مع جورج، بثأرية وحقد، متخليّة عن القيم الجمهوريّة والقواعد والمبادئ الملازمة لدولة القانون. وهي لا تحاسبه على أفعاله كما يفترض، بل تنتقم منه لشخصه وبسبب آرائه.

لم يكن ذلك ليكون ممكنا لولا أن ضحيّة الجمهورية من فصيلة الـ «دخيل» والمُستعمَر. لو انّه كان رجلاً «أبيضَ»، لتمتّع بالامتيازات والتسهيلات نفسها التي كانت من نصيب رفاقه الثوريّين الذين عرفوا مسارات مشابهة. هذا التنمّر القضائيّ والسياسيّ ضدّ عبدالله في فرنسا، وقد مارسته جميع الحكومات منذ 1999، يحيلنا إلى سياسة العنف التي قاربها الفيلسوف الجزائريّ سيد محمد بركات في كتابه «الجسد الاستثنائيّ» («منشورات أمستردام» - باريس، 2005). لسنا بعيدين عن المجزرة التي اقترفتها قوى السلطة ضد المتظاهرين المطالبين باستقلال الجزائر في باريس، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، ذلك التاريخ الشهير والمشؤوم. إنّه العنف نفسه، تمارسه سلطة استعماريّة، ضدّ جسد مستعمَر، جسد «بلا عقل، خطير، مجرّد من انسانيته، محروم من مبدأ المساواة، خاضع قانونيّاً لنظام استثناء دائم»، خارج دولة القانون!

عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود. رسم لنا على أكمل وجه صورة نموذجيّة للذين رفعوا شعار «أنا شارلي» (بعد مقتلة مجلة «شارلي إيبدو»)، في كتابه الشهير «من هو شارلي؟»، وهو الرجل الأبيض العنصري، ابن الطبقة الوسطى، الكاثوليكي التائه. لنحاول اليوم أن نقول من هو جورج عبدالله الذي ننتظره في بيروت. يذكرنا هذا المجاهد في سبيل الحريّة الذي يقاوم انطلاقا من السجن، بأنّ الديمقراطيّة الغربيّة تسمح لنفسها أن تتصرفّ كمحتجزة رهائن، ما ان يتعلّق الأمر بمصالحها الاستعماريّة. لا يمكن إلا أن نتذكّر هنا، التعامل الإعلاميّ الفرنسيّ المخجل، مع بعض الاستثناءات، لجريمة الدولة التي ارتكبت في حقّ الصحافيّ السعودي جمال خاشقجي، في قنصليّة بلاده في إسطنبول. في هذا المقلب « الملعون» من الأرض، جورج إبراهيم عبدالله هو الذي يمثلنا. أنا جورج عبدالله. كلنا جورج عبدالله. وكما كتبت حوريّة بوتلجة بأسلوبها الجميل: «تتشكّل كرة كبيرة في حلق الهنديّ، وتنهمر الدموع من عينيه. لكن، بما أنّ إيمانه عظيم، يحدث أن يسمعه بعضنا وهو يطرق على بابهم».

تعليقات: