تحتفظ صاحبة الفرن لنفسها بـ سر أصنافها (المدن، لوسي بارسخيان)
لا تصلح المنقوشة أياً كانت جودة صناعتها مادة لكتابة صحافية. فهي ليست سوى "لقمة سريعة"، يرجى منها سد جوع مفاجئ، مهما بلغت مهارة صانعها. ولكن، عندما يتحول "الفرن" الذي يقدمها مقصداً لزبائن "المنقوشة" من مختلف مناطق لبنان، فهو حتما يستحق البحث عن "سحر" لقمته.
كوهار وسرها
فرن "كوكو" في عنجر، ليس مكانا فاخراً في أرجاء منتعشة، ولا أصحابه ناشطون في مجال "التسويق" لـ "حرفتهم". ومع ذلك تتخطى شهرة "منقوشته" أحياء البلدة "الأرمنية"، ومحيطها القريب، وصولاً إلى زحلة وبيروت. يقصد هؤلاء الفرن طلباً للمنقوشة "العنجرية" بطعم "متبلات جبل موسى" التي يتميز بها أرمن لبنان، وقد أغنتها ربة العائلة بسبع أنواع من الجبنة ابتدعت خلطتها، محتفظة لنفسها بـ"سر" أصنافها.
كوكو هو اسم المؤسس الأول للفرن، الذي توفي قبل سنوات قليلة. يعرفه معظم الذين ترددوا إلى الفرن، من الرضا الذي كان يملأ عينيه كلما خرج "مشطاح" الجبنة أو الزعتر من فرنه، ضامناً كل زائر جديد كزبون دائم.
مع زوجته كوهار أسس كوكو الفرن قبل ثلاثة وثلاثين سنة، وكان متخصصاً بداية بتأمين الخبز اليومي لأبناء بلدته. أرادت كوهار مرة أن تستغل حرارة الفرن لتأمين "مناقيش" مختلفة لعائلتها، فصودف وجود زبون تذوق طعم خلطة الجبنة التي ابتدعتها صدفة، فنصحهما بأن يجعلا منها علامة فارقة بين سائر الأفران التي تقدم المنقوشة. وهكذا، صار كلما أراد من تعرّف إلى الفرن أن يكرّم أصدقاءه بطعم مختلف، يصطحبهم إلى فرن كوكو، لينضم هؤلاء فورا إلى لائحة "المغرمين" بطعم "منقوشة كوكو".
النكهة الأرمنية
تعدد كوهار للـ"المدن" أصناف الخلطات التي تقدمها، والتي يحمل كل منها "نكهة" أرمنية مختلفة، تجعلها في تماه مع مكان صناعتها، من الزعتر الذي يحضّر منزلياً، إلى أنواع الجبنة الحارة أو مع الزيتون وبالجوز، وإلى مناقيش البسطرما والسجق والصفيحة الأرمنية... إلا أن ملكة الأصناف تبقى منقوشة "الجبنة الحمراء"، التي اصطلح على تسميتها "الجبنة الأرمنية".
عندما تسأل كوهار عن سر هذه المنقوشة، تكتفي بالإشارة إلى أنها تحمل نكهة جبل موسى، بما تختزنه من حنين "العودة" عند معظم أبناء البلدة الأرمن، ولكنها ميّزتها بخلطة من سبعة أنواع جبنة، مع رب البندورة والحرّ الذي يحضر منزليا أيضاً، جاعلة من جودة المواد المستخدمة "قيمة مضافة" في تحضيرها.
الجوهرجي
تروي كوهار أنه في مرة من المرات جاءها شخص يطلب أن تبيعه الخلطة كلها من دون عجين، ولكن عندما أدركت أنه صاحب فرن في بلدة أخرى، رفضت أن تعطيه اياها، حتى لا يخرج طعمها من الفرن الذي تميز به.
بعد وفاة كوكو لم تغيّر كوهار من انتظام حياتها في الفرن. بل حرصت على الحفاظ على مسيرة الفرن بجودة "المنقوشة" ذاتها التي يقدمها. حتى صار في الفرن حالياً "أيادي جوهرجي"... ليس التعبير مجازيا هنا على الإطلاق. فبوغوص الذي ورث المهنة عن والده، هو صانع مجوهرات في الأساس. يدير مشغله في عنجر وفقا لطلب السوق، ولكنه اختار أن يتفرغ كل الفترة الصباحية للـ"منقوشة"، فهي اهتمامه الأول، مصمما على "الحفاظ" على "مصلحة" والديه، التي كبّرت عائلته، وفتحت له بيتا مع عروسه.
يصف بوغوص صناعة المنقوشة بالـ"مصلحة الذهب". فهنا يشعر بالقيمة المضافة لما يخرج من بين يديه، ويمكنه أن يقرأ مباشرة في وجه الزبائن مدى رضاهم بالطعم الذي يتذوقونه، على خلاف عمله في مشغل الذهب، حيث يحاول التجار دائما أن يقللوا من قيمة عمله ليبخسوا بسعره.
مع والدته يستيقظ بوغوص باكراً ليحضّرا كمية "العجين" المطلوبة، ويبدآن بتحمية الفرن منذ السابعة والنصف صباحا، ويستمران باستقبال الزبائن حتى الواحدة ظهراً. وفيما ينصرف بوغوص في فترة بعد الظهر لإنجاز بعض الأعمال في مشغل الذهب، تنشغل كوهار بتحضير "تتبيلات" اليوم التالي التي لا تعطي وصفاتها سوى لولديها.
الحبّ
بالنسبة للعائلة لا يتحمل الفرن عبء أجير أو موظف، وحتى لو اضطروا للاستعانة به في بعض أيام الذروة، فإنهم يبقون متحفّظين على كل ما يحيط "منقوشة كوكو" من أسرار. فبالنسبة لبوغوص "هذه مصلحة إذا لم نسهر عليها بأنفسنا لا يمكن أن تعيش وتستمر. لأن ما يميزها "نفَس" الطاهي، الذي يعطي جودة اللقمة، وهو الذي يحلّ مكان "الذوق" في صناعة المجوهرات، مع خلطة من الحب والخبرة، والضمير الحي والصدق". هي إذا المكونات الأساسية في جعل علاقة من تعرفوا إلى "منقوشة كوكو" أبعد من العلاقات العابرة التي تربط المعد الخاوية بأي نوع منقوشة أخرى.
تعليقات: