يوم اللغة العربية: لماذا تدفعوننا إلى كراهية لغتنا الجميلة؟


ليس سهلاً أن يقرر الواحد أن يشتغل في الكتابة، في مكان غير آمن كالذي نعيش فيه. إنه خيار يحتاج إلى شجاعة، لا سيما إذا كنت من أولئك الذين يكتبون باللغة العربية. هؤلاء تُطلب منهم طوال الوقت توضيحات وتبريرات غريبة. صعبٌ أن تستوعب البقعة التي نعيش فيها، أنّ الواحد قد يكتب نصاً عن الفلسفة والسياسة، ثمّ يغيّر ثيابه ويتوجه إلى حانة للمراهقين ويرقص هناك حتى الصباح… وأنّ إحداهنّ قد تكتب عن الحبّ والوحدة والنسيان، ثمّ “تفتّ” ورق اللعب وتوقظ الشارع على صراخ انتصارها.

هل يبدو غريباً أن تستخدم امرأة على هاتفها، اللغة العربية، ثم تقتني حقيبة “لويس فيتون”، أو تكون بليدةً ككل النساء عند اختيار أحمر شفاه من النوع الذي لا يزول بعد الأكل… أو بعد القبل؟

أكتب الآن لا بدافع من التعب ولا النقمة على أرضٍ، يظنّ أهلها أنّ الحضارة نقيضٌ للغتهم، وأنّ التمدّن يستوجب أن يتكلّم المرء لغةً أخرى، وأن يبتعد قدر الإمكان من اللغة التي ولد فيها ونال قبلته الأولى فيها وبكى فيها طويلاً وكتب فيها أول مرة، حين صفّقوا له، وكتبت معلمة الروضة على ورقته “ممتاز يا بطل”.

أكتب بدافع من الحب، أريد أن أدوّن في يوم اللغة العربية سلسلة مطالب، أظنّها أصبحت ملحّة. لا أدّعي أنني فهيمة أو فقيهة، أنا فقط واحدة من العاملين في الكتابة، العاملين في الحب. لم يحدث أن أحببت أحداً أو شيئاً كما أحبّ الكتابة. تتحكّم الكتابة بحياتي، بمزاجي، بقدراتي، برغبتي في الأشياء، في قصص الحب التي أعيشها، في الرصاصات التي تصيبني، وتلك التي أطلقها في وجه العالم وفي وجه المرارة والكآبة والفقدان.

لذلك أودّ أن أسجّل مطالبي الآن على سبيل الحب، لا على سبيل الفذلكة أو الفلسفة. أظنّ أن علاقتي بالكتابة هي أطول علاقة قد أعيشها، لذلك أودّ كثيراً أن أرتّبها وأن أصلح شوائبها، من أجلي، ومن أجل الأجيال الجديدة التي تسبب لها تعقيدات اللغة العربية، شيئاً من النزلات الصدرية المميتة. كل العلاقات تحتاج إلى تصليحات، كل العلاقات تشوبها أعطال وثقوب وإخفاقات.

أودّ أن أطلب أولاً أن تكف المدارس عن تعليم اللغة كما تعلّم الرياضيات، ليست اللغة نائب مفعول مطلقاً ولا أجوف معتلّ الفاء ولا اسم مكان ولا اسم مرّة ولا نائب فاعل (هو لا يرتكب أي فعل، يبتلونه بفعل لا ذنب له فيه). اللغة أن نجيد الرؤية وأن نتمرّى ونتمختر برشاقة العشاق التائهين الهائمين، اللغة أن نقرأ ما يشبهنا وأن نفهم الحياة، لا أن نجيد إعراباً مستحيلاً.

أكاد أسأل، ما دخل الإعراب باللغة؟ وماذا لو نسي الواحد الفاعل المستتر؟ ماذا لو فاته أنّ صلة الموصول لا محل لها من الإعراب؟ ماذا لو لم يفهم الفرق بين “إذاً” و”إذن”؟ ماذا قد يحدث؟ لا شيء على الإطلاق.

لا مأرب لي في تحطيم شيء من القواعد وتمارين الـ”أعرب ما تحته خط”، فلتبقَ ما شاء الله. لكن مبحثي هنا، لَمَبحث آخر. أنا أتحدّث عن اللغة بمعناها الأكثر عمقاً، بمعناها النفسي والثقافي والإنساني والتعبيري.

يخرج الطلاب من المدارس لاعنين اللغة العربية وأساتذتها، يخرجون من دون أن يقرأوا كتاباً واحداً، أو يعرفوا من هو أدونيس، ويوسف الخال ومحمد الماغوط وميخائيل نعيمة ومي منسى ونوال السعداوي. يذهبون إلى الحياة وهم يجهلون حضارتهم كلّياً، كل ما يعرفونه أن عنترة أحبّ عبلة وأن أبا النواس كان يعاقر الخمر وأن جبران خليل جبران فخر لبنان (لكن ماذا كتب وماذا فعل وكيف عاش، فغير مهم).

اللغة أن نقرأ ما يشبهنا وأن نفهم الحياة، لا أن نجيد إعراباً مستحيلاً.

يدخل الشبان والشابات إلى الحياة مع كره شديد للغة، ومديح متواصل للبارعين منهم في الرياضيات والعلوم، حتى يظهر الإبداع الأدبي أحياناً كحدثٍ خارج من التاريخ، ويعدّ أهله مخلوقات فضائية من عصور قديمة، اندثرت. لماذا؟ لأن أحداً لم يقدّم تلك اللغة على أنها نوع من العشق، لغة تماهيك، تعبدك بتفاصيلك وماضيك وانكساراتك وتنهّدات قلبك. لأنّ من يضع الكتب الدراسية، يجعلها مادّةً معقّدة ومتفلسفة، لا تستدعي سوى الهرب وطلب اللجوء إلى أي مكانٍ آخر، لا توضع فيها همزات ولا تُجزم الأفعال ولا تقتحم فاء الجزاء الجمل كلصّة مدجّجة بالتأويلات.

أودّ أن أطلب أن تصبح القواعد العربية بمعناها الأكاديمي، مادة غير أساسية في تعلّم اللغة. أودّ أن تكون القراءة والاطلاع والمعرفة أساس اكتشاف اللغة، ثمّ تأتي القواعد لوحدها واللهِ! لن تفهم اللغة إذا لم تقرأ كتبها الحلوة وشعرها ورواياتها وإذا لم تسمع أغانيها ولم ترَ لوحات فنانيها وإبداعات من مروا على عصورها. اللغة ليست تلقيناً قاسياً لقواعد قديمة ومشربكة، اللغة أن نعرف من نحن وكيف وصلنا إلى هنا وماذا حدث لنا. يلجأ جميعنا إلى الإنكليزية والفرنسية للتعبير… هذه حقيقة مؤلمة، لكنها حقيقة… حقيقة أن العربية لم تعد ملجأً لأبناء هذا العصر (بأغلبيتهم الساحقة)، لأنها ممنوعة من التطوّر، لا في المناهج الدراسية ولا في المنطق الاجتماعي الذي يصنّف كاتب “I love you”، رجلاً مثيراً أو امرأة أنيقة، فيما لا تحتل كلمة “أحبك” سوى بقايا قليلة من علاقات الحب والصداقة والأمومة وغيرها…

اشتروا كتباً لكتّاب جدد، وادعوا أطفالكم إلى قراءتها معكم، هذه ليست تهمة ولا رجعية، هذا تماهٍ مع الذات وتصالحٌ مع حقيقتنا. أخبروهم عن غير البطولات القديمة التي لم ينجب معظمها سوى القتلى والغنائم وتراجع الأدب والفن، أخبروهم أنّ هناك كتّاباً جدداً، يمكن أن نسمعهم وأن نحبّهم، يمكن أن ننتقدهم، وأن نمقت كتاباتهم، ويمكنهم كثيراً أن يتحدّثوا من دواخلنا. لكنهم يحتاجون إلى فرصة، قبل أن نحكم عليهم أو على اللغة… أو على الحب.

* المصدر: daraj.com


تعليقات: