فضل الله: سياسات الدول الكبرى تصنع أخطر أنواع التطرف


شارك سماحة العلامة السيد علي فضل الله في المؤتمر الذي نظَّمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في فندق جيفينور روتانا في بيروت، تحت عنوان "دور المؤسَّسات والقيادات الدينية في تعزيز التسامح والتماسك الاجتماعي في المنطقة العربية"، بحضور نخبة من الشخصيات الدينية والفكرية والأكاديمية وباحثين من بلدان متعدّدة.

وألقى سماحته كلمة أشار في بدايتها إلى أنه من الطّبيعيّ أن تقوم الأمم المتحدة بهذا الدور، فقد وجدت من أجل السَّلام العالميّ، وهي تبذل جهوداً في هذا السَّبيل.. وقد عوَّدتنا أن تقارب جذور المشكلات التي تواجه العالم وأسبابها بمنهج علمي رصين، وأن تكون معالجتها واقعية وإنسانية.. ولكنها كانت في دعواتها وقراراتها لا تؤخذ على محمل الجد، وتواجه بالرفض والفيتوات التي منحتها الدول الكبرى لنفسها، وغالباً ما تكون بعيدة كل البعد من معايير العدل الإنساني والقوانين الدولية، ولا تأخذ في الحسبان الأضرار التي تلحق بالمجتمعات الإنسانية الضعيفة والمقهورة.. وإنما تنطلق من مصالحها الخاصَّة.

وقال سماحته: "ونحن كمشاركين في هذه القمَّة، وكفاعلين في الشأن العام، قد يكون شأننا شأن منظمة الأم المتحدة في انعدام الموارد والإمكانات التي تؤهّلنا لمعالجة مشكلات عالمية أساسية تؤدي بطبيعتها إلى انفجار النزاعات المجتمعية ونموّ التطرّف، ونعني بذلك سياسات الدول المهيمنة على العالم، التي لا تنظر إلى العالم الآخر إلا بعين النفوذ والهيمنة والسيطرة. لذا، نجدها تخلق النزاعات أو ترى في النزاعات الاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية أو أية نزاعات فرصة للاستثمار والتوظيف، بل قد تعمل على تغذيتها تحقيقاً لصفقات سلاح، أو لنهب الثروات، أو لتحقيق نفوذ، أو لدعم نظام، أو لإبعاد خصم، وقد لا تتوانى لبلوغ ذلك عن مدّ حالات التطرف بكل الإمكانات، بما يفاقم من حدّة هذه النزاعات، خدمة لما تريده من أهداف، من دون أن تفكّر لحظة في العمل على معالجة هذه النزاعات..".

وأضاف: "هذا لون من التطرّف في المجال الدوليّ خطير. وفي نظرة متبصّرة لما يترك من آثار، نرى أنه نقيض أساس للسّلام العالميّ، وهذا المجال بما يملك من إمكانات وقدرات، وبما يحمل من طموحات السيطرة والهيمنة، ولاد بطبيعته لأزمات مجتمعية متواصلة، ولموجات من التطرف والإرهاب ممتدة في كل أنحاء العالم.. لفرض وقائع ظالمة وتكريس لحالات القهر والعدوان وتشريع الاحتلال والاغتصاب، ولعلَّ أبرز مظاهره في منطقتنا، المأساة الصارخة المتمثلة باحتلال فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني من أرضه".

ورأى سماحته أنه حين ينعدم العدل يكون التطرف، فالتطرف يحصل عندما يفتقد الإنسان الدولة العادلة عند انسداد الأفق، حيث لا يحظى بحياة كريمة، أو بالحرية، أو بحق تقرير المصير، أو عندما يصادر قراره.

وتابع سماحته: "هناك سبب آخر من أسباب التطرف، قد يكون سوء استخدام الدين، عندما لا نحسن تقديمه وتُشوَّه صورته، بحيث يفرغ من عناوينه التي تحكم كلّ مفرداته، وهي المحبة والرحمة والرفق ومكارم الأخلاق وكرامة الإنسان و"لا إكراه في الدين"، فيُقدم بأنه داعية عنف وقتل وذبح".

وأردف قائلاً: "إنَّ علاج هذه الظاهرة المستشرية لن يكون إلا بوعي العلماء والمرجعيات والمؤسسات الدينية لدورهم جميعاً في تقديم صورة الدين المتصالح مع قيم المحبة والرحمة والإنسانية والمنفتح على الآخر..".

ورأى أنَّ عالم الدّين الحقيقيّ مسؤول في أن يكون حاضراً في وسط أهله وشعبه.. فائق الحساسية إزاء أيّ دعوة تشمّ منها رائحة الكراهية أو الإقصاء أو التمييز أو التكفير تجاه أي جماعة أو طائفة من مكونات الوطن، شديد الحرص على وحدة الوطن تجاه أي دعوة إلى الفتنة والانقسام، شديد الاهتمام بمشكلات شعبه وآلامه، يقدّر الظروف بدقة، ويدرس بعمق عواقب المواقف والأفعال، حكيماً في تعامله مع القضايا الاجتماعية والسياسية، يتحرى العدالة ومصلحة الوطن في ما يطلق من مواقف، ونحن هنا ندعو إلى ضرورة العمل على قراءة جديدة لفقه التعامل مع السلطة..".

ودعا سماحته إلى تنقية التراث من اجتهادات تفيض بألوان التكفير والإقصاء والعنف والعداء تجاه الآخر، ديناً كان أم طائفة أم جماعة، فهذه الاجتهادات هي وليدة إما ظروف سياسية واجتماعية، وإما هي نتاج فهم قاصر أو مجتزأ للنصّ الدينيّ الأساس الذي لا يبيح العنف إلا في حالات استثنائية، وبالقدر الذي تتطلبه عملية رد العدوان، وبذلك نحول دون أن يكون العنف مباحاً لكلِّ أحد، أو أن يكون الإقصاء والتهميش والتمييز هو الأسلوب السائد.

وشدَّد على ضرورة تعزيز لغة الحوار لإزالة الهواجس وسوء الفهم للآخر بحكم علاقة الأديان والمذاهب مع بعضها البعض..

وختم مؤكداً أن تتواصل المؤسَّسات الدينية والمذهبية الفاعلة في العالم فيما بينها في لقاءات دورية مشتركة، للتشاور والبحث في المسائل التي تثير ألوان العداء الديني والمذهبي، ويمكن لنا انطلاقاً من جوهر الدين تصحيح نظرتنا إلى كثير من المفاهيم الملتبسة، وتغيير الصورة النمطية التي يحملها كل طرف عن الآخر، بما يقرب الملتزمين بالدّين بعضهم ببعض، ويضع الخلافات في إطارها المحدود، وفي أيدي المتخصصين من اللاهوتيين والعلماء، وبذلك يمكن محاصرة الكثير من المتطرفين الَّذين يعتاشون على كثير من الانقسامات المصطنعة أو التي انتهت مفاعيلها، وعلى الصور النمطية السائدة، وذلك بما يحول بينهم وبين التوظيف السياسي والاستغلالي الديني.




تعليقات: