هل تتوقف الحكومة عن دفع الرواتب؟

حكومة رشيد كرامي سبق أن أقرت الموازنة في فترة تصريف الأعمال (حسن ابراهيم)
حكومة رشيد كرامي سبق أن أقرت الموازنة في فترة تصريف الأعمال (حسن ابراهيم)


لم تُشكل الحكومة بعد. وبهذه الذريعة، تم تخطي المهل الدستورية لإقرار الموازنة العامة. حجة وجود حكومة تصريف أعمال ليست كافية لإعفائها من هذا الموجب الدستوري، على ما تؤكد الاجتهادات والسوابق. وإذا كان المجلس الدستوري قد حذّر من التمادي في الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية، فهل تلتزم الحكومة بالدستور وتجمّد الجباية والإنفاق إلى أن يجيز لها مجلس النواب ذلك؟


مر العام 2018 بلا حكومة، فتاهت كل الوعود بتأليف سريع، تمهيداً للبدء بورشة إصلاحات تعيد الدولة إلى سكة القانون.

صار أقصى المبتغى إبعاد شبح الانهيار الاقتصادي، الذي تكثر التقارير عن أن تفاديه ممكن لكنه يتطلب إجراءات استثنائية وجريئة تقدم عليها الطبقة السياسية.

حتى اليوم لم يقم أحد بأي إجراء استثنائي. لا بل أكثر من ذلك، ازداد حجم التوظيف في القطاع العام، وارتفعت كلفة الدين العام، حتى تخطى عجز الموازنة الـ9 مليارات ليرة، بزيادة تقارب 30 في المئة من العجز الذي كان متوقعاً في موازنة العام 2018.

ليس هذا فحسب. عدم تشكيل الحكومة، أدى إلى تخطي كل المهل الدستورية لإعداد موازنة العام 2019 وإقرارها، مع ما يعنيه ذلك من ضياع للانتظام المالي للدولة. إذ كان يُفترض بالحكومة أن تحيل الموازنة إلى المجلس النيابي، قبل 15 تشرين الأول، على أن يُقرها الأخير قبل نهاية العقد العادي (نهاية العام). وبما أن الحكومة لم تقرّ مشروع قانون الموازنة وبما أن المجلس ليس أمامه ما يناقشه، فإن الأمر صار مرتبطاً حصراً بالمادة 86 من الدستور، التي تشير إلى أنه «إذا لم يبت مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعين لدرسه فرئيس الجمهورية يدعو المجلس فوراً لدورة استثنائية تستمر لغاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة… على أنه في مدة الدورة الاستثنائية المذكورة تجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والعائدات الأخرى كما في السابق وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساساً… وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الإثني عشرية».

وعليه، فإن الحكومة ستتمكن دستورياً من الاستمرار في الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية لشهر واحد كحد أقصى. لكن ماذا سيحصل بعد هذا التاريخ؟ سبق لوزير المالية علي حسن خليل أن أعلن مراراً أنه لن يخالف الدستور والقوانين ولن يصرف قرشاً واحداً من دون سند قانوني. هذا ما حصل، على سبيل المثال، عندما رفض دفع سلفة الخزينة التي وقعها كل من الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري لكهرباء لبنان، إلا بعد موافقة مجلس النواب على تأمين الاعتمادات. في وزارة المالية تأكيد أن تطبيق الدستور يعني أمراً واحداً هو التوقف عن الصرف في حال لم يقر مجلس النواب الموازنة أو أي سند قانوني يسمح باستمرار الصرف. وهذا يعني عملياً وقف الإنفاق العام، بما فيه الرواتب، إلى أن يجيز المجلس الصرف. فالمهل الدستورية ليست للحث إنما «ترتبط بالشرعية الدستورية وبمبدأ الأمان التشريعي، ويقتضى التقيد بها في سبيل استقرار المنظومة القانونية»، كما جاء قرار المجلس الدستوري الصادر في 14 أيار 2018.


إقرار الموازنة موجب دستوري يتخطى مفهوم تصريف الأعمال

حينها أشار المجلس إلى أن «المشترع الدستوري حدد هذه المهل... من أجل الحفاظ على انتظام المالية العامة وتحقيقاً للمصلحة الوطنية العليا، ومن أجل منع التباطؤ في إعداد الموازنة ودرسها وإقرارها، لما لذلك من أثر خطير على المالية العامة وانتظامها». وأكثر من ذلك، فقد أكد قراره أن «عدم تقيد السلطتين الإجرائية والإشتراعية بالمهل الدستورية المذكورة أعلاه أدى إلى انتهاك الدستور وعدم انتظام المالية العامة، وإلى التمادي في الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية خلافاً لما نص عليه الدستور في المادة 86».

وإذا كان المجلس قد أكد في قراره أن «لا وجود لظروف استثنائية تحول دون التقيد بالمهل الدستورية بشأن إعداد مشروع الموازنة ودرسه وإقراره (موازنة 2018)»، فإن الخبير الدستوري عصام إسماعيل يؤكد أن استقالة حكومة تصريفها الأعمال لا يقع بدوره في خانة الظروف الاستثنائية. وبالتالي، فهي ليست معفاة من موجب إعداد الموازنة، الذي يشكل واجباً دستورياً ضرورياً، بغض النظر عما إذا كانت الحكومة مستقيلة أم لا.


اجتماع الحكومة ضروري

في العام 2011، وحينها كان الحريري نفسه يترأس حكومة تصريف أعمال، بحثت لجنة تحديث القوانين، في اجتماع ترأسه وزير العدل إبراهيم نجار، وحضره عدد من أبرز القضاة، مسألة قيام الحكومة بتصريف الأعمال. بعد الاجتماع، قال نجار: «إن التشدد في تطبيق تصريف الأعمال في الشؤون التي تتعلق بالضرورة والعجلة والمصلحة العامة من شأنه تعريض النصوص القانونية للتعطيل. وبالتالي، فإذا توافرت هذه الأمور الثلاثة، يحق لمجلس الوزراء أن يجتمع. كما اتفقت الآراء على أن مرور الوقت يشكّل عاملاً أساسياً في هذا الصدد، فالقرار الذي لا يُمكن اتخاذه بعد أسبوع من تصريف الأعمال، يصبح ممكناً بعد ثلاثة أشهر أو أكثر». وهذا الاجتهاد لم يكن وليد ساعته، إنما بني على تجارب سابقة، أبرزها إقرار حكومة مستقيلة كان يرأسها الرئيس رشيد كرامي للموازنة العامة بعد سبعة أشهر من استقالتها (1969)، واتخاذ حكومة الرئيس أمين الحافظ التي لم تكن قد حصلت على الثقة قراراً بإعلان حال الطوارئ في البلاد.

وعليه، فإن الحكومة المستقيلة الحالية وهي المسؤولة عن إدارة البلد، قد أخلّت بواجب دستوري أساسي. وهو أمر أثره «خطير على المالية العامة وانتظامها»، كما جاء في قرار المجلس الدستوري.

وفيما يضع الرافضون لمبدأ إقرار الحكومة المستقيلة للموازنة في خانة عدم إلزام الحكومة التي ستتشكل بسياسة مالية مسبقاً، فإن إسماعيل يؤكد أن المطلوب تنفيذ الدستور، خصوصاً أن الموازنة في الوقت الراهن تتضمن أرقاماً للإنفاق والإيرادات ولا تتضمن أي خطط أو برامج مستقبلية.

أما القول أن مجلس النواب يصبح عاجزاً عن الرقابة أو المساءلة، انطلاقاً من أن «حجب الثقة عن أي من الوزراء أو عن مجلس الوزراء في معرض الرقابة أو المساءلة البرلمانية، هو إجراء لا يفيد، طالما أن الوزراء جميعهم هم بمثابة المستقيلين، فإن الوزير سليم جريصاتي سبق أن أشار في مطالعة دستورية له إلى أنه «يبقى لمجلس النواب سلطة توجيه الاتهام إلى رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكاب الخيانة العظمى أو بالإخلال بالواجبات المترتبة عليهم على ما ورد في المادة 70 من الدستور، ذلك أن التصريف لا يعفي من مثل هذا الاتهام ولا يحول دونه».


أين قطع الحساب؟

إذ يؤكد نقيب المحاسبين الأسبق أمين صالح على أولوية أن تقر الموازنة حتى لو من حكومة تصريف أعمال، إلا أنه يذكّر أن هذا الموجب الدستوري لا يكتمل إلا بإقرار قطع الحساب قبله، مشيراً إلى أن وزارة المالية كان يفترض أن تقدم قطع الحساب إلى الحكومة التي يفترض أن تحيله إلى المجلس النيابي تمهيداً لإقراره قبل مناقشة الموازنة العامة. وهو ما لم يحصل أيضاً، على رغم أن مصادر الوزارة كان قد أعلنت عن انتهائها من تكوين الحسابات المالية من العام 1993 وحتى 2016، التزاماً بالمادة القانونية التي تضمنتها موازنة 2017، والتي ألزمت المالية بإنهاء هذه الحسابات في تشرين الأول الفائت.


المجلس الدستوري: وحدها الظروف الاستثنائية تحول دون التقيد بالمهل الدستورية

وبما أن إقرار قطع الحساب لم يحصل وبما أن الموازنة لم تُقر، فهذا يعني أنه بالحد الأقصى يُفترض أن تنتهي الوكالة الشعبية التي تسمح للحكومة بالإنفاق والجباية في نهاية كانون الثاني المقبل، كحد أقصى. علماً أن إسماعيل وصالح يذهبان أبعد من ذلك في تأكيدهما أن القاعدة الإثني عشرية إنما يرتبط تنفيذها بعدم انتهاء مجلس النواب من مناقشة الموازنة خلال المهلة المحددة (نهاية كانون الأول). إذ عندها فقط يفتح رئيس الجمهورية عقداً استثنائياً لمدة شهر، يفترض أن تقر الموازنة خلاله. لكن في حال عدم إقرار الموازنة في مجلس الوزراء وعدم تحويلها إلى مجلس النواب، فإن القاعدة الإثني عشرية لا يُفترض أن تُطبق. وبالتالي وجب توقف الحكومة عن جباية الضرائب أو حتى الإنفاق، إلى حين الحصول على تشريع من المجلس النيابي يجيز لها ذلك.

تعليقات: