لا أستطيع أن أدلف إلى عوالم هذا المنجز السّرديّ «حكاوى الرّحيل» للدكتور الأديب سمير أيوب دون أن أتذكر ذلك اللّقاء الفنتازيّ الغريب الذي جمعني به في هذه الحياة؛ فقد التقيته وهو يدرّج بهدوء وابتسامة عميقة وهو حبيس استثنائيّ في مقعد رماديّ متحرّك، كان عندها يزور حجرات المرضى في مستشفى الأردن متعاظماً على مرضه، ومصمّماً على أن يكون البلسم الجميل للمرضى الذين صاحبهم جميعاً، وغدا زائرهم اليوميّ الثّابت،وبات يتناوب على زيارتهم والاطمئنان عليه،وعلى مرافقتهم طوعاً ولطفاً في درب المرض والوجع حتى يتشافوا،ويغادروا المشفى،ناسياً أو متناسياً ببراعة عظامه المحطّمة في جسده بسبب حادث سير قاصم هاجمه،ولاكه،وكسّر عظامه،وكاد يجرّه إلى دنيا الظّلام حيث الموت.
عندما قابلته لفت نظري أمران في هذا الرّجل؛أوّلاً ابتسامته العملاقة على الرّغم من الألم،وثانياً قدرته على القصّ والسّرد والاستدعاء إلى درجة أنّني نسيت يومها المريض الذي كنتُ قد أتيت إلى المستشفى لزيارته،ونسيت كذلك مواعيدي وارتباطاتي،وظللت أتفيّأ في ظلّ ابتسامته وسرده لساعات طويلة حتى جاء المساء،وبدأ موظفو الأمن في المستشفى يطلبون من الجميع مغادرة المستشفى لانتهاء ساعات زيارة المرضى.
فيما بعد انضممتُ إلى عوالم د.سمير أيوب حيث هناك متّسع للبشريّة جمعاء؛فهو بمعنى ما نقطة كونيّة قادرة على ابتلاع مجرّات وأفلاك؛فمن يعرفه يدرك تماماً ما يتوافر عليه من ثقافة وحسّ وتجارب وخبرات،وهو في الوقت ذاته قادر على استيعاب أصغر البشر حجوماً فكريّة وثقافيّة،والتّعامل معهم بمنطق الرّحمة والاستدراج.إنّه باختصار رجل يحبّ النّاس،والنّاس لا تملك إلاّ أنّ تحبّه،وهو حاوٍ مدهش؛فمن جرابه يخرج سرداً شيقاً لا ينضب،ولذلك هو من القلّة من البشر الذين لا يعرف من يحادثهم معنى الملّل أو الزّمن؛هو باختصار ملك لحظته بكلّ ما في الكلمة من معنى.
الشّاهد في كلّ ما رويت لكم عن علاقتي بعوالم د.سمير أيوب أنّ هذه العلاقة والمعرفة تقودني جبراً إلى أن آخذكم إلى رؤية خاصّة في سرده في هذه المجموعة القصصيّة البوحيّة- إن جاز التّعبير- وهي رؤية النّظرة الأنثى في أدبه التي تنتظمها حشود من نسائه الحقيقيّات والمفترضات اللّواتي يتوزّعن على مدارات لا حصر لها في حياته من مدارات التّأثير والتّأثّر والإحساس والإرسال والاستقبال.
قليل هم الرّجال المبدعون الذين يصرّحون بتشكّل هويتهم السّرديّة والإنسانيّة والفكريّة من ذات تعلي من الأنوثة،وتنتصر لها،وتصدر عنها،وتضعها في مكانها الطّبيعيّ في الكون؛ولعلّ د.سمير من القلّة من البشر المبدعين الذين تحضر المرأة عندهم في المدارج العليا من الذّات والإحساس والحضور حيث العقل والفكر والحبّ والجدل بعيداً عن المدارات السّفلى حيث لا توجد إلاّ الأعضاء الجنسيّة والغرائز الحيوانيّة المفرغة من أيّ حسّ فكريّ أو حضاريّ أو تواصليّ سوى انفعال اللّحظة وشعور الرّغبة العابرة.
المرأة ثم المرأة ثم المرأة هي صوت د.سمير من الغلاف إلى الغلاف ومن الحضور إلى الحاضرات الغائبات؛معظم قارئات إبداعه من النّساء،ومن قدّمت لهذا الكتاب هي امرأة،وهي الأستاذة الدكتورة بشرى البستاني،والتي حرّضته على الكتابة من جديد هي امرأة وفق ما ذكر في " كلمة لا بدّ منها "(2)،والتي وعدها بأن يستمرّ بنشر كتاباته تباعاً هي امرأة،وهي السيدة نوال الفاعوريّ،وطبعاً من تقدّم قراءة نقديّو في عمله هذا هي امرأة،أعني نفسي.
عندما يقرأ د.سمير أيوب كلامي هذا سوف يبتسم تلك الابتسامة الشّهيّة الملغزة التي تشي أنّه يقول في دواخله:" الله يخرب بيتك يا دكتورة سناء الشّعلان خربتِ بيتي،وكشفتِ المستور" .لكن ذلك لن يمنعني من أن أسجّل دهشتي الخاصّة تجاه هذا العمل الذي استطاع أن يدجّن اللّغة الثّائرة القلقة لتصبح لغة حنونة فيّاضة بالمشاعر المتناقضة الجيّاشة،كما استطاع أن ينحت من فكرة الرّحيل والغياب والفقد معادلاً موضوعيّاً للحضور في الذّات وعميق التّأثر وملحميّة التّجربة،والتّأسيس لسرد سيرة ذاتية عبر تاريخ نسويّ تشاطر حياته وتجاربه وأعماقه وذاكرته،أو خالق حاله عليا من البوح حيث يغدو ذلك البوح سِفْراً من أسفار التّبجيل والتّقديس للمرأة المشكّل العملاق للحضارة والوجود جنباً إلى جنب شريكها الأزليّ،وهو الرّجل.
د.سمير أيوب في هذه المجموعة يتلاعب بوعينا،ويحتال- مع سبق الإصرار والتّرصّد- على دهشتنا،يوهمنا بأنّه يسرد قصصاً أو يؤثّث سيرة ذاتيّة بفسيفساء نسائيّة،إلاّ أنّه في أعماقه يقدّم سرداً ذكوريّاً فريداً لا سيما في السّرد العربيّ الذي تتغوّل الذّكورة فيه على الأنوثة،فيكون الرّجل هو الجاذبيّة الكونيّة القهريّة التي يجب أن تدور المرأة في فلكها شاءت ذلك أم أبت،إلاّ أنّ تجربة د.سمير في حكاياته هذه تقدّم انطلاقة من المرأة ومروراً بها وانتهاءً إليها؛المرأة عنده هي الحكاية والحدث والرّحيل والألم والفرح في آن؛ولذلك فهو في هذه المجموعة القصصيّة يؤرّخ الزّمن والتّجربة والحدث بنساء يعقد لهنّ قصصاً خاصّة،وبذلك ينتقل السّرد عنده من سريّة البوح إلى علانيّة التّجربة.
منذ العنوان هناك انتصار للمرأة؛ فالدّكتور سمير يتعمّد أن يتبنّى الجمع الخاطئ "حكاوى" انتصاراً لسرديّة النّساء المورثات للّغة حيث جداتنا اللّواتي يجمعن كلمة "حكاية" على "حكاوى"،ويدخرن في هذا الجمع أسرار السّرد والقصّ والحكي؛ود.سمير ينصاع لجموعهنّ تواطئاً معهنّ على نقل تجربة الرّحيل بما تحمل من ألم وفقد وتوجّع وتوجّد ورحيل عن اللّغة؛وبذلك ينحاز من جديد إليهنّ،في حين يجبرنا على الانزياح من معنى الرّحيل عن الوطن إلى الرّحيل عن المرأة؛ وبذلك هو يلوح لنا بالحقيقة الكبرى في اعتقاده،وهو أنّ الوجود امرأة،وأنّ الرّجل هو حكاية امرأة،وأنّه لن يكتب الحياة إلاّ بالمرأة ومع المرأة ولأجل المرأة.
والأهمّ من ذلك إنّه يجعل من الرّحيل عن المرأة معادلاً موضوعيّاً للرّحيل عن الوطن الذي شغله فكراً ونضالاً طوال حياته انطلاقاً من سيرة حياته التي كرّسها للنّضال في سبيل القضيّة الفلسطينيّة؛ وبذلك نستطيع القول إنّ المرأة عند د.سمير أيوب في هذه المجموعة القصصيّة هي الأرض والوطن والتّاريخ والفقد والألم والحلم والسّعادة وسبب الحياة،بل وسبب الموت إن لزم الأمر.
وهذا يقودنا إلى سؤال كبير ومشروع وملحّ،وهو لماذا اختار د.سمير أن يجعل من الرّحيل عن المرأة معادلاً موضوعيّاً للرّحيل عن الوطن؟ وما هي القواسم المشتركة بين الرّحيلين في تجربته الخاصّة؟ وما هي مصوّغات هذه الإزاحة عنده من الوطن إلى المرأة ؟
وهذه أسئلة جميعها تحليلنا إلى أنّ سمير أيوب ما كان ليسرد أو يحكي أو ربما يعيش لولا النّساء،ولولا النّساء ما كنّا الآن في هذا الجمع المختمر بنسائه القائمات القائمات حتى ولو كنّا راحلات أو غائبات أو عابرات في الحياة أو التّجربة أو الذّاكرة.في المجموعة القصصيّة " حكاوى الرّحيل" لا وجود إلاّ للمرأة،ولذلك الرّجل الذي يتقن كتابة المرأة،وهو د.سمير أيوب.
وعلينا أن ندرك حقيقة مهمّة وملبسة في هذه المجموعة؛وهي أنّ العنوان فيه ما فيه من إلغاز وتمويه وتضليل للقارئ؛فدكتور سمير يوهمنا بأنّ هذه قصص رحيل،أيّ أنّ من مرّوا فيها قد رحلوا،وانتهوا،وكان ما كان،لكن الحقيقة أنّ العنوان الغائب لهذه المجموعة هو "حكاوى الحضور" ؛لأنّ النّساء اللّواتي مررن في نفس د.سمير،وتربّعن على حكايات هذه المجموعة هنّ في حقيقة الأمر باقيات حاضرات لا رحيل يلغيهنّ؛ولذلك عمد الكاتب إلى أن يخلّدهنّ بهذا العمل،وأن يعلن صراحة أنّ تلكم الجميلات هنّ نساؤه اللّواتي كوّن وعيه ووجدانه،كما كوّن ألمه ومرارته.
هذه المجموعة القصصيّة تتكوّن من أربعين امرأة متوارية خلف أربعين قصّة قصيرة مكتوبة بلغة شعريّة فائقة الحساسيّة وسلسة السّرد الذي يستحضر الماضي،ويجعله حاضراً معيشاً لا يرحل؛وبذلك يجعل من التّجربة ملحميّة الإلحاح في نفس المتلقّي؛فهو لا يقدّم مجرّد قصص تزدحم في الذّاكرة،ولا ينقل تجربة عالقة في النّفس،ولكنّه يلحّ على أن يجعل من قصّته المرأة أو نسائه القصص أو تجاربه مع النّساء سجلاً لتجربته الإنسانيّة من منطلق إنسانيّ وتربويّ وفكريّ وثقافيّ ودينيّ؛ولن أقول أنّ السّبب في ذلك أنّه رجل ثائر ومفكّر ومربٍ بطبيعته؛فهذا كلام سطحيّ بامتياز،ولكن تأويل ذلك عندي أنّه فخور بنسائه إلى درجة أنّه يريد أن يجعل منهنّ علاماتٍ ودروساً وعبراً وتاريخاً خالداً لا يموت،لا مجرد تفاصيل وأحداث قابلة للموت والنّسيان.
ومن هذا التّفسير والتّأويل نستطيع أن نفهم خياراته للنّساء اللّواتي سمح لهنّ بالتّسلل والخروج من ذاكرته ونفسه وحياته إلى حيّز الورق في إزاء جموع من النّساء اللّواتي دفنهنّ – دون شكّ- في مقبرة الصّمت في صدره وذاكرته؛لقد قرّر أن يهب القصّ والبوح والحياة ولو عبر الرّحيل الموجع للنّساء الفخر في حياته؛ولذلك فقد بدأ مجموعته القصصيّة بجوهرة فخره،وهي أمّه في قصّة " أوّل النّساء فخر النّساء"ص15 التي شكّلت بالنّسبة له مفهوم المرأة المقدّسة،ولذلك فقد رسم تفصيلها الرّوحيّة والنّفسيّة والفكريّة بدقّة متناهية تحافظ على خطّ سرديّ واحد،وهو خطّ تجسيد الطّهارة والقداسة والدّفء.
ولذلك أعلن لنا صراحة أنّه قد ميّزها سرداً وكمّاً وتقديماً في قافلة نسائه،وترك لنا أن نخمّن أنّها اختزال لنساء العالمين في إحساسه ومشاعره :" فألتمس العذر لقلبي،إنّ ميّزها بهذا النّوع والكمّ من الحبّ.كانت تنجح في ترميم بوصلاتي.حتى حزني كان يفرح في حضرتها.لا يصمد ولا يشاكس.يستجيب لنسائم عينيها.يخلي السّاح ويتبدّد.كثيراً ما كنتُ أتّجه إليها،وأيمّم وجهي شطر حكمتها.فتنجح في نقل قلقي من ضفاف الهواجس إلى برّ الأمان"(3)
وهي امرأة ذات أبعاد أسطوريّة بامتياز،بل هي امرأة أسطورة في مستوى ربّات الأنوثة والخصب والحياة في مخيال العقل البدائيّ حيث المرأة هي بداية الكون والمسؤولة عن فعل الحياة وديمومتها،وفي ذلك يقول د.سمير في وصفها:" لم تكن نطفة في رحم المستحيل،بل مطراً أنيقاً،حلالاً صافياً كقطر النّدى،ولم تكن أسمى من كلّ النّساء،بل امرأة لا تشبه إلاّ فخر النّساء،اللّواتي يثيرين بتنوعهنّ مواسم الأمومة.ممتلئة كبرياء وأنفة وإباء بلا عبث،وعنفواناً إيجابيّاً،وحقّاً قطعيّ الصّدق،وعدلاً محايداً لا يتأتّى ولا يعبث.احتوت الحياة بالحمد السّاعي.وقاومت ضنك العيش،بلا آه شاكية،فعرفها التّسبيح والسّجود والصّبر الجميل جيداً,وكانت بعد كلّ هذا،تبقى في قلبها شيئاً،لا يعلمه إلاّ الله " (4)
هذه الأم الرّبة الأسطوريّة هي من علّمت د.سمير أيوب الدّرس الأهمّ في حياته،وهو السّعي الدّؤوب وراء تحقيق الحلم دون كلل أو ملل أو يأس " كلّما تعبتُ من الوقوف وحدي،تزودني بأجنحة طليقة وهي تقول: إيّاك يا ولدي أن تكون واقعيّاً فقط،احلم واحلم بلا كلل وبلا ملل.فالحياة يا ولدي حلم.تعلّم كيف تحقّقه،بلا خوف وبلا تخاذل" (5)
ويختار د.سمير أخطر مشهد للفقد تعرفه الإنسانيّة،وهو فقد الموت حيث يفرد له مشهداً قصصيّاً خاصاً عندما يصف لحظة تسجيتها ميتة في انتظار الدّفن،وهو من يعتصر ألماً في وداعها في هذه المحطّة الأخيرة قبل الرّحيل،وهو من يعاتبها على رحيلها المحتوم بعيداً عنه :" كالملائكة كانت ممدّدة بثوبها الأبيض.غافية فوق بلاط المغتسل بلا نوم،حين أدخلوني إليها،سلّمت واقتربت..." (6) ،وهي قد تركته وحيداً يشعر بالبرد،ويكابد الفقد والألم :" خفتُ من وجعي،وأصابتني قشعريرة باردة،وكنّا في آب اللّهاب.فقلتُ لها:بردان يا غالية.سأحنّ فيما أحنّ إلى دفئكِ وخبزكِ وقهوتكِ" (7)
ويبدو أنّ إلحاح فكرة الفقد المرتبطة بفقدان أم د.سمير جعلته يخلط سردياً بين القصّة الأولى في المجموعة " أوّل النّساء "،والقصّة الثانية فيها " لها وجد الفقد مستدام"؛ إذ لا حدث سرديّ جديد في القصّة الثّانية،بل هي استمرار لتداعي داخليّ من السّرد الاستذكاريّ للأم،وتصوير متفنّن لألم فقدها؛ولذلك كان من الممكن دمج القصّتين في قصّة واحدة دون أن يخلّ ذلك ببناء أيّ من القصّتين حيث الشّعور هو العقدة والأزمة لا الحدث؛فمن أيّ زمن بدأت القصّتين فلهما نفس العقدة والأزمة،وهي فقد الأم،ولكن من الواضح أنّ د.سمير أراد أن يقدّم لأمّه ما يليق بها من ألم الفقد والحزن،ولذلك أفرد لها قصّتين في المجموعة تليقان بمكانتها في نفسه،وهو من يبدأ هذه المكانة منذ كان نطفة في رحمها :" منذ أقمتُ نطفة فعلقة فمضغة،معززاً مكرّماً في رحمها،حتى رحيلها إلى رحم مثواها الأخير في مقبرة تحاذي طريق عبوري اليوميّ،أكثر من حبل سرّة يربطنا " (8)
وفي آخر هذه القصّة ينحرف د.سمير من السّرد إلى الخطاب المباشر؛إذ يقفل القصّة بثلاث فقرات من الخطاب المباشر لروح أمّه كاسراً بذلك خطّ السّرد،ومستسلماً لألمه وفقده،إذ يقول :" أميّ هرمت وتغيّر الكثير... وقد أتعبتنا قسوتك،أسألك ملحّاً: متى تغفو يا وجع؟!"(9)
وبرحيل الأمّ نتنقل إلى المرأة الثّانية منزلة في نفس د.سمير،وهي عمته التي صنع لها القصّة الثّالثة في المجموعة " امرأة من زمان مضى"،وهي امرأة ربطها بشكل مباشر مع قيم الجمال جميعها :" عمتي يرحمها الله،كيف لاتكون جميلة؟ وهي في كلّ شيء أنيقة في فقرها،وفي وجعها وفي حزنها" (10)،وهي امرأة تحمل معاني الصّبر والقوّة والجلد،وهو يراها تؤأم الوجود لأمّه" لا يصحّ الحديث عن الأم الوالدة- لا يكتمل ولا يجوز،إلاّ بالحديث عن توأمها الأمّ – العمّة" (11)
واللاّفت للنّظر أنّ منزلة عمّته في نفس الكاتب لا تتكوّن إلاّ في ضوء منزلة أمّه في نفسه،وليس في القصّة البوحيّة ما يشير إلى سبب تشكّل هذه العلاقة التّناظريّة بين الأمّ والعمّة في نفسه،إلاّ أنّها تشير صراحة إلى أنّ ألم الفقد لهما شكّل ألماً خالداً في نفسه " أميّ عمّتي،عمتي أمّي،كم أنصت لكلّ ما صمتن عن قوله أو البوح به،بعد رحيلكما،هرمنا أيتاماً،وغاب الخصب الحلال،تعبنا من الوقوف وفي قلوبنا ألف حكاية وحكاية" (12)
وبعد ذلك يتوالى ظهور النّساء في هذه المجموعة،فيقفزن جميعاً من ذاكرة د.سمير أيوب،ويصنعن لهنّ خلوداً على الورق،ويشاطرنه أزمة الرّحيل والحرمان،ويتلقّفن منه أسرار الحياة والوجود،ثم يقبعن في أرض النّور حيث الكلمة.
لقد سمح د.سمير للنّساء أن يبحن بما في نفسه من كلام،كما باح هو أيضاً بما يعتمل في أعماق وجدانه دون قلق أو وجل،وترك لنا جميعاً أن ندخل إلى عوالمه وسيرته وقصصه،كما سمح لنا أن نشاركه نساءه الياسمينات اللواتي يتضوّعن أريجاً وجمالاً وحضوراً وتأثيراً؛فهو لم ينتقِ لنا إلاّ بتلات الزّهور.ولذلك لنا نقول له:" شكراً لك د.سمير على هذا الاحتفاء الجميل بالمرأة الخلود".
وفي ترحال د.سمير في عوالم نسائه يجعل القفلة في تلك القصص جميعها هي قفلة رحلة الحياة حيث السّكون والوقوف استعداداً لرحلة جديدة في عوالم ما بعد الحياة؛ولعلّ تفسير ذلك أنّ الرّحلة مع المرأة في حياته،هي تمثيل حقيقيّ للرّحلة مع الحياة؛ ففي الحكاية الأربعون التي تحمل عنوان " ويسألونك" نرى بطل القصّة،وهو ذاته د.سمير الذي يروي حكايته مع امرأة ما يستسلم إلى الرّحلة والرّاحة فيها : "سمعتُ صهيل القطار يقترب حثيثاً من البعيد.نهضتُ مستعدّاً،انحنيتُ،وقبّلتُ من مُحدّثي الجبين،وقبل أن أدلف عرب القطار،لامستْ أصابعي أصابعه،ومن شبّاك مقعدي تابعت عيناي وجهه.أقسم أنّ حزناً مبتسماً كان يشرق منه،ما إن ابتعد بما القطار،أغمضتُ عيني كما التقيته،علنّي..."(13)
الإحالات:
1- سمير أيوب: هو د.سمير محمد أيوب،أستاذ جامعيّ متقاعد،حاصل على شهادة الدّكتوراة في علم الاجتماع الاقتصاديّ وعلم الاجتماع السّياسيّ بمرتبة الشّرف الأولى،عمل في التّدريس الجامعيّ في جامعة بيروت العربيّة وجامعة الإمام الأوزاعي للدّراسات الإسلاميّة في لبنان،له 13 مؤلّفاً مطبوعاً ومنشوراً في مواضيع عدّة،وقد أسّس في لبنان عام 1973الجهاز المركزيّ للإعلام والعلاقات العامة وشؤون المتطوعين في جمعيّة الهلال الأحمر الفلسطينيّ،كما أسّس ورأس تحرير مجلة بلسم في لبنان لعدة سنوات .
رأس تحرير عدة مجلاّت وصحف في الأردن منها ،مجلة المقاول الأردنيّ،وجريدة بناة الوطن وغرفة صناعة الأردن وبيارق أردنيّة .
وهو عضو هيئة تحرير في مجلة صامد الاقتصاديّ،ومجلّة الحنونة،ومجلّة إلى الأمام،وهو إعلاميّ ومعدّ ومقدّم برنامج تلفزيونيّة وأسبوعيّة على قناة كيف في عمان ، بعنوان : بلسم الصحة والجمال.
هو عضو في كثير من المحافل الأدبيّة والسّياسيّة المحليّة والعربيّة،وله مشاركات واسعة رسميّة وغير رسميّة في مؤتمرات ومنتديات محليّة وعربيّة ودوليّة في قضايا متعددّة .
2-سمير محمد أيوب: حكاوى الرّحيل،ط1،هبة ناشرون وموزعون،الأردن،عمان،2018،ص 13
3- نفسه: ص15
4- نفسه:ص16
5- نفسه: ص18
6- نفسه:ص16
7- نفسه:ص17
8- نفسه:ص19
9- نفسه:ص22
10- نفسه: ص23
11- نفسه:ص 26
12- نفسه:ص27
13- نفسه:ص161
الأديبة النّاقدة د. سناء الشعلان/الجامعة الأردنيّة
الدكتور الأديب سمير أيوب
تعليقات: