محمد العبد الله (1946 ـــ 2016)
صبيحة الحرب نظر محمد العبد الله (1946 ـــ 2016) من النافذة، فرأى حرباً أهلية. تلك استعارة من إحدى قصائده التي تستخدم السخرية لمواساة الوجود، فلا تصير حدثاً ضدّه، ولا يصير الوجود أثقل من احتماله. في الحرب، لم يكن شاعِراً محايداً، لأن الشِعر مِثل الفلسفة، لا يمكن أن يكون محايداً. من يذكر قصيدته الشهيرة... «مظاهرة». قصيدة حبيبته التي خرجت من أجل الجامعة اللبنانية، فخرجت الشرطة وفعلت ما تفعله الشرطة. في الأصل، درس محمد العبد الله الفلسفة، لكنه اختار طريقاً آخر إلى الحياة. اختار السير. فإن كانت الفلسفة حفراً متواصلاً، فالشِعر مشي دائم. ولأنه كان شاعِراً أكثر من غيره، توجد الكثير من الأرصفة في قصائده، حيث يلقي تعباً طويلاً. والتعب متواصل. قلة تعرف ربما، أنه كتب «أحد الإخوان» (أغنية سامي حواط). وقلة تعرف أيضاً، أنه رغم موقفه اليساري الواضح الذي دفع اليسار اللبناني ثمنه في الحرب، قضى حياته بين الناس في الضواحي.
كثيرون يأخذون على محمد العبد الله انشغاله بالقضايا الوطنية، والتزامه مواقفه من دون أن يلازمه أي شعور أو رغبة بالتبرير أو التفسير. وكثيرون أيضاً، يأخذون عليه إفراطه في استخدام اللغة كما يشاء هو، وليس كما تشاء اللغة: «لولا الزبالون»، أو عندما يقول «لا تقُل آهٍ للوردة الذابلة، بل اسقها يا حمار». الذين لا يعرفون الشِعر، قد يقولون إن هذا ليس شِعراً. ولكن من يكترث. فالشاعِر يمشي وليس بحاجةٍ إلى شهادة يعلّقها على جدار. الشاعر بحاجةٍ إلى طرقات وإلى كؤوس، إلى ذاكرة طويلة مثل ذاكرة الشاعر ـ الكادح. الشِعر في بيروت قبله شيء، وبعده شيء. قِيل إنه شاعر متفرّد، وقال عن نفسه إنه كشرفةٍ بساهرٍ وحيد. لكنه جيلٌ من الشُعراء في شاعرٍ واحد. وكان يمشي، يمشي ويصرف الوقت بالشِعر. يمشي ويحمل على ظهره حسرة الليل في الريف على أضواء المدينة، وآلام المدينة على صليب الحرب. إنه أكثر من شاعرٍ واحد. ثمة قطعة منه للخيام، قريته الجنوبية البعيدة، حيث تستكين الدردارة وتكمل المروج طريقها إلى فلسطين. وثمة قطعة منه لا تزال جالسة في مقهى متخيّل في الحمرا، وتصطاد النعاس قبل الفجر على الرصيف. وثمة قطعة منه في الأغنيات، وفي وعي أجيالٍ ثلاثة: جيل الشعراء الراديكاليين، الذي بقي واحداً منهم، رغم خروج الراديكالية من الشِعر. جيل المهزومين الذين خدعهم السِلم، فوجدوا أن الحقيقة كانت متاحةً في الحرب، وأن الوقت تأخّر للشِعر. وجيل أخير يقرأ محمد العبد الله مبهوراً بأحوالِ الشِعر في زمانه، قبل أن يحلّ بهِ ما حلّ بالمدينة.
* تحت عنوان «شاعرنا وحبيبنا، ليس عتباً... ولكنه الشوق»، أقام مساء أمس أصدقاء ومحبّو ورفاق الشاعر الراحل محمد العبد الله (أبو رضا) أمسية شعرية من قصائده في الذكرى الثالثة على رحيله في «مقهى برلمان» (الحمرا).
تعليقات: