بعد الإهانة... «بلطجة» على الدبلوماسيين

«الدولة البوليسية» تلاحق الموظفين بجريمة الإضراب (هيثم الموسوي)
«الدولة البوليسية» تلاحق الموظفين بجريمة الإضراب (هيثم الموسوي)


«الدولة البوليسية» تلاحق الموظفين بجريمة الإضراب

...

يبدو أن ثمة من المسؤولين في السلطة السياسية مَن يعتقد بأن في مقدوره إقامه «دولة بوليسية» في لبنان. وفي لبنان هذا، ينتهي هزلياً، تثير الضحك قبل أي شعور آخر. قبل أيام قليلة، تمرّد قاضٍ، بحماية مباشرة من وزير الخارجية جبران باسيل، على طلب التفتيش القضائي استجوابه في ملف منسوب إلى «سمسار عدليّ». الرئيس ميشال عون، نفسه، كان قد اطّلع على ملف سري يتضمّن ملخصاً للتحقيقات بشأن هذا القاضي، وأبلغ مساعديه بأنه ملف يوجب إقالته!

مقالات مرتبطة

«الأخبار» ليست تحت سقف القانون عمر نشابة

بعده بأيام، مارس باسيل «صلاحياته القانونية»، بأن أوعِز إلى جهاز أمني «مأزوم» ولقاضٍ «يطلب السترة» من رجال العهد ووزير عدله، بأن يتم اقتحام وزارة الخارجية، والتحقيق في تسريب محاضر دبلوماسية إلى «الأخبار». تجاوز أصول التفتيش الإداري، فضلاً عن تجاوز الأعراف التي تقضي بأن يتولى قضاة بأنفسهم التحقيق مع سفراء يحظون بـ«ثقة رئيس الجمهورية» أسوة بموظفي الفئة الأولى. لا همّ. الأمر شكلي، ربما. أهان باسيل الدبلوماسيين بالطريقة التي تصرّف بها، وقرر، بصفته المدعي والحاكم، أن يُصدر الحكم الذي أعلنه في قصر بسترس قبل 6 أشهر: السفير ع. م. هو المسؤول عن تسريب كل ما تنشره «الأخبار» عن وزارة الخارجية. لا داعي لدليل. هذا السفير صديق قديم لرئيس تحرير «الأخبار» إبراهيم الأمين، ولعدد من العاملين فيها. لا همّ أيضاً. ليس مهمّاً في نظر من يتصرّف كما لو أنه حاكم مطلق للجمهورية إن كان السفير عينه «يؤنّب» أصدقاءه في الصحيفة في كل مرة ينشرون فيها تقارير دبلوماسية، ويقول لهم إن هذا النشر «يؤذي الدبلوماسية اللبنانية وربما يؤدي إلى منع بعض الدول من استقبال سفراء لبنان في اجتماعات ذات قيمة» (طبعاً لم نوافقه يوماً على رأيه). ولا همّ أيضاً وأيضاً إذا ما قال السفير ذلك لمحققي أمن الدولة البؤساء، ولا همّ أيضاً إن كان قد بادر هو إلى القول إن علاقته بالأمين قديمة، وإنه يزوره دوماً، وإنه يتواصل معه، كصديق، لا كمصدر لمعلومات. هذا كافٍ لإثبات التهمة في نظر باسيل، رأس النيابة العامة وقائد بوليس الجمهورية. فهو قرر، ولا داعي لأن يناقشه أحد. يريد بناء دولة، وتنفيذ القانون، ولا مجال للنقاش. وينبغي لأجل ذلك العثور على ضحية، قرباناً للجمهورية الباسيلية. ولأجل ذلك أيضاً، ينبغي إهمال أي مسار تحقيقي آخر. على طريقة ديتليف ميليس، يجري تجاهل معلومات موثقة في التحقيق عن تسرّب التقارير الدبلوماسية المشكو من نشرها، إلى عدد من الأشخاص، قبل وصولها إلى الخارجية. وبعد الإيغال بإهانة دبلوماسيي الخارجية، وبدل العودة خطوة إلى الخلف في انتظار قول القضاء كلمته، على ما زعم وزير الخارجية، انتقل الأخير إلى البلطجة على الدبلوماسيين. يستخدم باسيل وسائل إعلام تياره، وعدداً من المواقع الإلكترونية، للتشهير بسفير، لمجرّد أنه قال: «نعم، اطّلعت على التقارير، وهي موجودة في منزلي، يمكنني أن أدلّكم عليها. أنا صديق لإبراهيم الأمين منذ ثلاثة عقود، وأزوره ويزورني، والتقينا قبل يومين من نشر «الأخبار» تلك المحاضر. وفي اليوم التالي، عاتبتهم على النشر، وطلبت منهم ألا ينشروا المزيد إذا كان في حوزتهم تقارير أخرى». يجري التشهير بالرجل، وتحطيم صورته، من دون ترك الباب مفتوحاً أمام أيّ احتمال لبراءته من التهمة التي ثبّتها قاضي الجمهورية. اكتشف باسيل «المسرّب»، غير آبه بأن ما حصلنا عليه هو تقارير إلكترونية «بيضاء» تحمل الختم الأزرق لسفارة واشنطن، ومن قبْل أن تُدمغ بأختام وزارة الخارجية. لا همّ. انتظر وزير الخارجية لقاءه بالرئيس نبيه بري أمس، وأوعز إلى «مساعديه» بالادعاء على السفير المذكور، بجرم تسريب محاضر لـ«الأخبار». وهنا أيضاً، يتجاهل باني الدولة مضمون تلك المحاضر. ليس مهماً أن يقول مسؤول أميركي إنه «يحتاج في موقعه إلى وجود حاكم لمصرف لبنان ونائب للحاكم يثق بهما ويمكنه أن يتبادل معهما المعلومات الحساسة والسرية حول تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، والحال اليوم أنه يثق بالحاكم رياض سلامة ونائب الحاكم محمد بعاصيري». لا يتعارض ذلك مع المبادئ الباسيلية لبناء الدولة، ولا يتطلب إحالة هذا التصريح الخطير الذي يتهم حاكم مصرف لبنان وأحد نوابه بتبادل المعلومات السرية مع دولة أجنبية. المطلوب هو منح الثقة لجهاز أمني لم يتمكّن بعد من لملمة فضائحه (هل استعاد كامل عتاده «الأميري» من مخيم شاتيلا بعد عملية الدهم التي جرت قبل 8 أيام؟)، لكي يكتشف المسرّب الذي حكم عليه باسيل بالإدانة قبل ستة أشهر من التسريب!

على طريقة ميليس، يجري تجاهل معلومات موثقة عن تسرّب التقارير قبل وصولها إلى الخارجية

محاولة بناء نسخة هزلية من «الدولة البوليسية» لا تقتصر على باسيل. زميله، رئيس الحكومة سعد الحريري، لا يبخل علينا في رسم كاريكاتور من الصنف الرديء نفسه. وبعدما هدّد موظفي الدولة بتنفيذ القانون في حال مشاركتهم في الإضراب عن العمل، ها هي المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي تنفّذ «أمره السامي». تنظّم التقارير التي تحدّد المؤسسات التي نفّذ العاملون فيها إضراباً، ثم تحيلها، بحسب النسخة التي «تسرّبت» إلى «الأخبار»، على كل من:

وزارة الداخلية والبلديات / مجلس الأمن الداخلي المركزي، وزارة الطاقة والمياه، وزارة العمل، وزارة المال، وزارة الاتصالات، النيابة العامة التمييزية، المديرية العامة لرئاسة الجمهورية، قيادة الجيش ــــ مديرية المخابرات، المديرية العامة للأمن العام، المديرية العامة لأمن الدولة، الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع.

هذه «الإفادة» ليست لأخذ العلم وحسب، فوزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني، سرعان ما أحالت «فرمان» المديرية، إلى اثنتين من المؤسسات التابعة لوزارتها: مؤسسة كهرباء لبنان والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، طالبة «المتابعة وأخذ العلم عطفاً على مذكرة رئيس الحكومة». ثمة من يصرّ على تذكير اللبنانيين بالحقبة السوداء لحكم رفيق الحريري، يوم أقفِلَت صحف ومؤسسات تلفزيونية، وفُرِض حظر التجول، ومُنِعت نشرات الأخبار، وشَقّ الاتحاد العمالي العام، بأمر من الحريري، وبمباركة من غازي كنعان، لا العكس.

تعليقات: