بشارة الأسمر «زنديقاً» في عصفورية الطوائف


هل تستحق نكتة بشارة الأسمر، الذكورية السمجة بلا شك، كل هذا الصخب؟ هل تستحق أن يستفيق القضاء من قيلولته الاعتكافية، في عطلة نهاية الاسبوع، ليعتقل رئيس الاتحاد العمالي العام، بسبب موقف أو رأي... أو حتى اساءة يرى فيها بعضهم قدحاً وذماً؟ نكتة بليدة بين زملاء «رجال»، لم تكن موجهة الى الفضاء العام، لولا أن أحد المتلصصين سمح لنفسه بتسريب التسجيل، مغتصباً خصوصية الرجل. أن تتحوّل هذه النكتة البائسة الى قضية وطنيّة، لكل موقفه البطولي في شجبها، فهذا يختصر حالة الخواء والعبث، وبؤس الحياة الفكرية والسياسيّة في لبنان. مواطن يطلق العنان لغضبه أمام الكاميرات، تحت خط التوتر العالي في المنصورية، فتقبض عليه السلطة كلص ذليل. مواطن آخر في الجنوب، يعبّر عن امتعاضه على مواقع التواصل، موجّهاً نقده السياسي القاسي إلى قطب سياسي جبار، فيتم الاعتداء عليه بالضرب، ثم يعتقل أيضاً. ما هذه الجمهورية المذعورة المترنحة التي تسخّر كل قوتها، القضائية والأمنية، لحماية أباطرتها من الغضب الشعبي؟ وحالة بشارة الأسمر لا تختلف كثيراً عن الحالتين السابقتين. لقد تم ايقافه بسبب نكتة على البطرك، لم يقصد نشرها.

الحداد الوطني على شخصية دينية رفيعة، هي البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير، أخذ ابعاداً تضخيمية مبالغاً فيها في نظر كثيرين. ودخلت شخصيات وجهات عدّة في لعبة مزايدات على الطريقة اللبنانية الأصيلة، ما استدعى تساؤلات مشروعة، وأثار سخرية مكبوتة لدى جزء كبير من اللبنانيين، من كل الانتماءات والعقائد؛ ويجب أن نضيف: بمن فيهم المولودون مسيحيين وموارنة! لكن أحداً لم يجرؤ على التعبير عن هذا التحفظ. لماذا؟ بسبب الجدار الطائفي العظيم الذي يجعل المجموعات منغلقة على نفسها، متربّصة بعضها بالبعض الآخر، تستمدّ علة وجودها من تلك العصبية السرطانية التي توحدها شكلياً، ضد «خطر خارجي» متمثّل في أبناء الوطن الآخرين. فوحدة «الجماعة» بالمعنى الانعزالي، تكون دائماً على حساب المنطق، والوطن، والديمقراطية، وحتى على حساب الدين بسموّه وارتقائه. ووحدة الوطن الهشّة لا تعود تقوم، في هذه الحالة، إلا على علاقات تكاذب وتحالف مصالح بين مختلف الجماعات المتناحرة، أو بالأحرى بين أمراء تلك الجماعات. باختصار، لا صوت يعلو فوق مصلحة الطوائف. ورئيس الاتحاد العمالي إختبر هذه الحقيقة على حسابه! فهو صديق النظام وحليفه وحارس مصالحه، لكن النظام الطائفي ضحّى به على مذبح الطائفية. فإذا به اليوم «زنديقالجمهورية» وكبش فدائها وبطلَها السلبي!

أمام مشهد المبالغة الوطنية في وداع البطرك صفير، ورياء شخصيات وجهات متعددة نعته أو عزّت به، وحده بشارة الأسمر اخترق جدار الصمت. لم يكن فعل بطولة، بل زلة خرقاء، لا ارادية، فشّت خلق الأكثرية الصامتة. إنه «فعل ناقص»، بالمعنى الفرويدي. في الجملتين التعيستي الذكر اللتين دارتا حول العالم (وتراجع عنهما المعني لاحقاً، لكن سدىً)، هناك احتجاج عفوي ساخر على الاجماع الوطني الكاذب، وعلى الطقوسية المضخمة للحداد، وعلى الذاكرة اللبنانية الضعيفة التي محت جزءاً مهماً من التاريخ القريب، وتناست أن البطرك الراحل، كان للأسف طرفاً سياسياً بقدر ما كان مرجعاً روحياً رفيعاً.

للأسف، رئيس الاتحاد العمالي العام، ركّز على هواجسه القضيبية التي تشغله اكثر من مصالح الطبقة العاملة. كان يمكن أن يقول: «أمضيت الليل أتضرّع لشفيعنا مثلث الرحمة، كي تُشفق السماء على الفقراء والمساكين في لبنان، وتساعدنا على حماية حقوقهم والدفاع عنها. فهذا ما أعجز عن القيام به في الاتحاد، بسبب سلسلة من التنازلات لأصحاب السلطة السياسية والاقتصادية، والتواطؤ معها، والتبعية لها على حساب مصالح العمال والموظفين». في مطلق الأحوال، استجابت له السماء على طريقتها: لقد «انتصب» ضده كل «طراطيف» الجمهورية (طرطوف هو بطل موليير الذي يجسد الورع الكاذب).

بين ليلة وضحاها انقلب النظام الطائفي المافيوي على أحد حراسه الأوفياء. لأن «هيبة» المؤسسة الطائفية التي تمنح النظام قوته وشرعية وجوده، هي المهددة هنا. هكذا تحوّلت نكتة بذيئة عابرة إلى خطب جلل، وخطر داهم. لقد أجمع أباطرة النظام على اعتبارها اساءة الى الدين والمقدسات، وهي، في المنظور العقلاني الهادئ، ليست كذلك تماماً. من «رابطة آل الأسمر» و «الرابطة المارونية»، إلى شخصيات سياسية ودينية رفيعة... هتف الجميع بصوت واحد: يا غيرة الدين! من يسمع الوزير جبران باسيل يعلن مقاطعته لاتحاد النقابات متحدثاً عن «اعتداء على بكركي»، يتذكر معركته ضد الأشباح في «قصر بسترس» بعد «واشنطن ليكس». لم يترك باسيل أياً من مؤثرات البديع إلا واستعملها: «أتمنى أن يكون توقيف بشارة الأسمر عبرة لكل من يتخطى حدود الأخلاق، وكرامة الانسان، وحرمة المقامات… يجب أن يقف الجميع عند حدود الحقيقة والاخلاق». أخلاق؟ حقيقة؟ معاليه يجب أن يتولّى وزارة الحريات العامة! أما زميله في الاقتصاد والتجارة، ففسخ عبر تويتر عقد العمل بين وزارته و«زنديق الجمهورية» في أهراءات بيروت «بعد سقطته الأخلاقية المستهجنة»! الأخلاق أيضاً وأيضاً. الوزير منصور بطيش سنقترح عليه قيادة الحركة المطلبية في عصفورية الطوائف!

في غمرة الحداد، سارعت القوات اللبنانية إلى اطلاق حملة اعلانية واسعة، تحيّة للبطرك الراحل. تمتد صورة غبطته على خلفية حمراء فوق الملصق العملاق، وإلى اليمين شعار القوات، وعبارة موجزة: «مثله لا يموتون». لعل هؤلاء هم الأكثر صدقاً في حدادهم، ووفائهم، واعترافهم بالجميل. البطرك صفير كان حاميهم وراعيهم، وداعم نهجهم. وذلك هو إرثه السياسي، والوجه الآخر، الدنيوي، لسلطته الروحيّة. فلتأخذ زلة بشارة الأسمر حجمها الطبيعي إذاً، لأن النقاش سياسي، لا ديني! دعوا الدين المسيحي جانباً، ولا تتصنّعوا الغيرة عليه! ‏دعوا الموارنة وشأنهم، فهم طائفة غنية ومتنوّعة، رغم كل سياسات استدراجها إلى المستنقع الانعزالي، تحمل في قلبها الحرية والعدالة والتنوير والعروبة. إن النقاش سياسي من أساسه. فإذا كان احترام المقامات من قواعد الديمقراطية وأصولها... وإذا كنا نلزم أنفسنا بالحياء وبواجب الخشوع أمام حرمة الموت... فمن حق اللبنانيين أن يتذكروا أن مثلث الرحمة مار نصرالله بطرس صفير،لعب أدواراً سياسية مهمة وخطيرة في تاريخنا الراهن والقريب. وأن يحتفظوا لأنفسهم بحق المراجعة النقدية لتاريخه السياسي، بعدما ينتهي الحداد.

تعليقات: