الزيتون.. تنوعه من اختلاف الجغرافيا


مدريد:

يوجد أكثر من 250 صنفا في إسبانيا وحدها..

نادرا ما نجلس إلى مائدة متوسطية من دون أن يكون عليها رغيف من الخبز وصحن من الزيتون أو وعاء من زيت الزيتون البكر، إلى حدّ تحوّلت فيه هذه العناصر الغذائية الثلاثة إلى جزء لا يتجزّأ من النظام الغذائي المتوسطي، الذي بدأ ينتشر ويتوسّع إلى أماكن وبلدان نائية، كالأميركتين وأستراليا والهند واليابان وغيرها، بعد أن أثبتت الأبحاث والدراسات أنه من أفضل الأنظمة الغذائية المتبعة وأكثرها إفادة لصحة الإنسان. ولا عجب في انتشار الزيتون إلى كل هذه البلدان، نظرا لما يحتوي عليه من مغذيّات ومواد مضادة للأكسدة، وعناصر تلعب دورا رئيسيا في الوقاية من العديد من الأمراض، وبشكل خاص أمراض القلب والأوعية الدموية.

تضاربت الآراء حول أصل شجرة الزيتون، فهناك من يزعم أن أصلها فارسي، وآخر يقول انه يوناني، وبعض آخر يؤكد أنه مصري، ولكن الواقع هو أن أصل هذه الشجرة يعود إلى آلاف السنين وأن الفينقيين هم أول الشعوب الذين زرعوا هذه الشجرة في المناطق اللبنانية والفلسطينية والسورية، واستخدموا جميع مشتقاتها، ثم ساهموا في انتشارها، عبر جزر البحر المتوسط، مرورا بشمال افريقيا وجنوب أوروبا، وصولا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، ولاحقا إلى الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية.

تعتبر إسبانيا، وبالتحديد إقليم الأندلس الجنوبي، أهم البلدان المنتجة لزيت الزيتون وزيتون المائدة، فيها، وفقا للإحصاءات الأخيرة، أكثر من 300 مليون شجرة زيتون، ساهم العرب في انتشارها في الإقليم المذكور الذي حكموه طيلة ثمانية قرون. يذكرها القرآن الكريم في سورتي التين والنحل وغيرهما، كما يذكرها الإنجيل المقدّس حوالي 200 مرة، ويعتبرها كتاب التوراة أول شجرة.

هناك العشرات، لا بل المئات، من أصناف الزيتون التي تختلف مع اختلاف المناطق والبلدان، ففي إسبانيا وحدها نجد أكثر من 250 صنفا، ولكن الشائع هو تسميتها بالزيتون الأخضر أو الأسود، وأحيانا المُمشّح أو المؤكسد. أما إذا ألقينا نظرة متمعّنة فنجد أن هناك الزيتون المتجعّد، والمجفّف، والمقصوص، والمرصوص، والمخلّل، والمتبّل، والمنقوع، بالخل أو الماء المالح أو حتى بالزيت، كما نجد أيضا الزيتون المحشي بالفليفلة الحمراء أو الأنشوا أو الخيار أو الجوز أو اللوز أو غيرها من المواد الغذائية الأخرى.

بمجرّد زيارة قصيرة إلى أحد الأسواق الشعبية المنتشرة في كافة المناطق الإسبانية التي تعرض بضائعها حصريا يومي السبت والأحد، بإمكاننا أن نجد العديد من أصناف زيتون المائدة التقليدية والخاصة بالمنطقة، معروضة في بحر من الألوان والاشكال، تُشبع النظر قبل المذاق، ولا مفر إلا أن تعود إلى منزلك بصنفين أو ثلاثة.

هدف عملية تتبيل زيتون المائدة هو إزالة المذاق المرّ الذي تتميّز به ثمرة الزيتون، وحفظه في الظروف المؤاتية لحين استهلاكه. ويكون ذلك عبر «الطبخ» أو «النقع» بمياه قلوية خاصة لإزالة المرارة. تختلف مدة «الطبخ» أو «النقع» وفقا لصنف الزيتون وحجمه. ولكن ليس هناك ما يمنع استهلاك ثمرة الزيتون مباشرة من الشجرة دون تتبيلها إلا مرارتها المميّزة.

الأندلس، كما ذكرنا، هو أهم الأقاليم الإسبانية في هذا المجال، وبالأخص في محافظات قرطبة وجيان وإشبيلية وملقة وغرناطة، التي تبدو سهولها وهضابها عن بعد وكأنها بحر من شجر الزيتون المصفوف في خطوط مستقيمة لا نهاية لها، والتي ينبعث منها عطر الزيت الفريد المميّز طيلة أيام السنة. ينقسم زيتون المائدة في هذه المناطق إلى مجموعتين، المجموعة الأولى، أشهرها صنف Manzanilla، وهو الصنف الأكثر مبيعا في جميع أنحاء العالم لكثرة إنتاجه وجودة ثماره العالية. لونه بنفسجي مائل إلى الأسود، يحتوي على كمية منخفضة من الزيت، كبير الحجم، أملس البشرة. نجد من بين أصناف هذه المجموعة أيضا صنف Sevillano، أي الإشبيلي، عملاق الحجم، أخضر اللون، يستعمل فقط للتتبيل، ويُصدّر إلى كل بلدان العالم. أما المجموعة الثانية، وفي طليعتها صنف Hojiblanca، أي ذو الورقة البيضاء، يستعمل عادة للتتبيل، كثير اللب، لذيد الطعم.

اعتاد الإسبان على استهلاك زيتون المائدة على أنواعه قبل تناول الوجبة، أي كمقبلات. فنجدهم يتفننون في تقديمه وعرضه، أحيانا برفقة المخللات، كالخيار الصغير الحجم، والبصل الصغير الحجم أيضا، كلاهما مكبوس بالخل والزيت، وأحيانا أخرى مع السمك النيئ المنقوع مسبقا بالخل والزيت ثم يضاف إليه الثوم والبقدونس. واعتاد بعض الأقاليم الإسبانية على تقديم الزيتون الأخضر مكبوسا بالماء المالح وورق الغار الذي يضفي عليه مذاقا لذيذا وعطرا لطيفا، أو الزيتون الأسود المنقوع لعدة أيام بقليل من زيت الزيتون البكر الممتاز والبصل المفروم ناعما والفليفلة الحمراء المطحونة، وربما تعتبر هذه الوصفة الأخيرة إحدى أشهى الوصفات.

في السنوات الأخيرة بدأ يظهر في الأسواق نوع جديد من الزيتون المهروس بعد إزالة النواة، وأحيانا القشرة، يباع في أوعية زجاجية صغيرة في متاجر معينة مختصة بالمأكولات رفيعة الجودة والأطباق التي يصعب وجودها في متاجر أخرى. وقد لاقى هذا النوع رواجا كبيرا في أول عهده ولكنه بدأ يتراجع شيئا فشيئا لصالح الزيتون التقليدي.

أهم أصناف زيتون المائدة التي تنتجها إسبانيا هي التالية: أربيكينا (Arbequina)، في منطقتي كاتالونيا وآراغون، حجمها صغير، لذيذة الطعم وشهية الرائحة؛ كورنيكابرا (Cornicabra)، في منطقة طليطلة، لونها أخضر يميل إلى الصفار، مذاقها مرّ وحاد؛ أوخيبلانكا (Hojiblanca)، في المناطق الأندلسية كقرطبة وملقة وقادش وغرناطة؛ ليتشين الإشبيلي (Lechin de Sevilla)، الذي تتميّز به مناطق إشبيلية وقرطبة وقادش؛ بيكوال (Picual)، الذي يعتبر من أشهر الأصناف وأكثرها رواجا على المستوى العالمي؛ بيكودو (Picudo)، أيضا في الأندلس.

ولكن ثمرة الزيتون بالإضافة إلى كونها لذيذة الطعم وشهية المذاق، هي ثمرة شجرة تعتبرها جميع الحضارات شجرة مقدسة رمزا للسلام والمحبة، وتحتوي على أهم المغذيات التي تؤمن عناصر ضرورية للإنسان تساعده على الوقاية من بعض الأمراض. نجد فيها، على سبيل المثال، البروتينات وهيدرات الكربون والألياف والكالسيوم والحديد والمنغنيز والزنك وعدد غير قليل من الفيتامينات، بالإضافة إلى عناصر أخرى مضادة للأكسدة. وقد أثبتت بعض الأبحاث التي قام وشارك بها المجلس الدولي للزيتون، أن استهلاك الزيتون يلعب دورا رئيسيا في الوقاية من بعض أمراض القلب والأوعية الدموية وينصح باستهلاكه بطريقة منتظمة. أصناف وأنواع لا تعد ولا تحصى، ولكن عزيزي القارئ، إذا كنت من محبّي زيتون المائدة، ومرّت عليك تجربة غير قصيرة في الأنواع والأصناف، وأردت أن تستمتع بوصفتي المفضّلة، لا ألذّ ولا أشهى، فما عليك إلا أن تأخذ حفنة من الزيتون الأخضر المُمشّح من غلّة «النقبة»، تغسلها جيدا بمياه «نبعة العسل» العذبة، ثم تقوم برصّ اللب دون كسر النواة، مستخدما حجرا بحريا أو نهريا مبلطحا، ثم تغمر ثمار الزيتون المرصوص في ماء مشبّع بالملح (أو «فوشة البيضة»، بالعاميّة اللبنانية، بمعنى تذويب الملح في الماء إلى حين تعوم فيه البيضة)، لمدة أربعة أو خمسة أيام، مع تبديل الماء المالح يوميا مرّة أو مرّتين. جرّبه الآن مع رغيف من الخبز الساخن المحمّر على صاج ورق الصنوبر، وقطعة من جبن الغنم البلدي، أو صحن من اللبنة الطازجة «شغل البيت»، وبصلة خضراء طريّة من «حاكورة النبعة»، واجلس تحت ما تبقّى من «صنوبرة الدار» العتيقة، واستسلم إلى نسيم الصباح صاغيا إلى سمفونية رف من الحساسين وإلى «أبو علي» ناهرا حماره العجوز عائدا من «عين العربين»، وعندما تشبع استلق إلى الخلف وتمتّع بسماء زرقاء صافية. ثم أغمض عينيك واشكر الله الذي جعل الأرض تعطيك هذه النعمة وادع لبقائها، ولوالدتي «أم شوقي» بالخير ودوام الصحة وطول العمر.

* أهم ميزات زيتون المائدة

* من أهم الميزات التي يجب أن يتسم بها الزيتون المخصّص للمائدة هو الحجم الكبير، والمذاق الممتاز، وكثرة اللب، وسهولة نزع النواة. أما أساليب التحضير والتتبيل فترتبط عادة بالصنف والحجم. فهناك الزيتون الأخضر الذي يتم تخميره بالسائل القلوي على الطريقة الإشبيلية، ثم يُحفظ بالماء المالح. والزيتــون الأســود الذي يُحفظ بالماء المالــح أولا ثم يتم تخميره في ما بعد. والزيتون الأسود بالملح الجاف، متجعّد المظهر لذيذ المذاق. أما أساليب التتبيل فلا تحصى، وتختلف وفقا للمناطق والأصناف، نذكر منها الأكثر شهرة وطلبا من قبل المستهلك:

ـ الثوم والزعتر (أو الصعتر) والبرتقال المرّ.

ـ الثوم والمردقوش والبرتقال.

ـ الثوم والكمّون والفليلفة والزعتر.

ـ الثوم والفليفلة الخضراء والكمّون والمردقوش.

ـ الثوم والفليفلة الحمراء المطحونة والمردقوش والكمّون والكزبرة.

تعليقات: